(وحيد القرن):رؤية هزلية لمملكة القمع العربي أفسدها التهريج والافتعال
استعار الممثل والمخرج المسرحي الفلسطيني زيناتي قدسية عنوان مسرحية الكاتب الفرنسي الشهير يوجين يونيل (وحيد القرن) ليضعه على عرض مسرحي، أعده عن قصص وكتابات الأديب السوري زكريا تامر، وقدمه على خشبة مسرح الحمراء بدمشق مؤخراً، باسم (المسرح القومي) في سورية، ليكون: (تحية من دمشق الياسمين إلى الأديب الكبير زكريا تامر، لمناسبة فوزه بجائزة بلومتروبلوس لعام 2009) كما جاء في كلمة المخرج في بروشور العرض .
ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه ليست هي المرة الأولى التي استند فيها زيناتي قدسية على أدب زكريا تامر، لتقديم عرض مسرحي، فقد سبق له في عرض (رأس الغول) أن ولف بعض مقالات محمد الماغوط مع كتابات لزكريا تامر... لكنه في (وحيد القرن) أراد ان يعود إلى أدب زكريا تامر بقدر من التركيز، وربما بدافع تكريمي له علاقة بالاحتفاء الذي يلقاه هذا الأديب الدمشقي في السنوات الأخيرة عموماً...
مملكة الديكتاتورية والفساد!
مادة المسرحية مستقاة من أعمال قديمة وحديثة لزكريا تامر مثل (النمور في اليوم العاشر) و(تكسير ركب) و(لنضحك) ومنها استلهم قدسية أجواء غرائبية لمملكة افتراضية يقع ملكها ضحية كابوس يرى فيه جموعاً من الناس يهجمون على قصره ويأكلون كل شيء... ويستعين بالعراف ورئيس وزرائه ومقدم الأمن من اجل تفسير ذلك... ويحاول العرض في سياق ذلك أن يستفيد من حبكات قصصية أخرى، ترتبط في سياق واحد محوره صورة مملكة غارقة بالديكتاتورية والفساد، فنرى رئيس الوزراء يشكل حكومة جديدة يستعرض فيها نماذج كاريكاتورية للمثقف والطبيب والتاجر حين يضعون أنفسهم في خدمة السلطة، ويتماهون في آليتها وشعاراتها، كما نرى أجواء محاكمات هزلية لمساجين ومحكومين... وصولا إلى محاكمة إبليس نفسه الذي تحمله هذه السلطة كل شرورها وكوارث خططها وأخطاء سياساتها!
ثمة محاولة لتركيب لوحة بانورامية لمملكة وهمية، تجسد الواقع العربي في بنيته العميقة، وتشخص علاقة السلطة بالفرد، وتحاكي طريقة تعاطي الحكومات مع الشعوب، وفق رؤية نقدية ساخرة، تحاول أن تجمع شتات الجزء من أجل تكوين الكل، وتحاول أن ترتقي بصورة الكل من الواقع إلى الرمز، مستغرقة في التصعيد الحركي والمبالغة الشكلية...
مشكلات أسلوبية
بقيت محاولة صياغة عرض بهذه المضامين والرؤى، بعيدة كل البعد عن بلوغ مراميها، وقد عانت بشكل أساسي من مشكلتين الأولى له علاقة بطبيعة أدب زكريا تامر القائم على ذهنية رمزية عالية، تجعل من محاولة تشخيصه على الخشبة أمراً صعباً، إن لم يوضع في سياق درامي متين وقادر على التفاعل مع تلك الرمزية ورفدها بمشهدية مسرحية تضفي دينامكية على روح العرض ككل، وهو ما لم يتحقق إلا في لحظات نادرة... أما المشكلة الثانية وهي أثقل وطئاً من الأولى، فهي رؤية زيناتي قدسية لفن التمثيل الذي يمكن أن يبرز مقولات هذا العرض، ويصنع مناخاته الغرائبية... فهناك ميل غير مفهوم نحو تهريج قائم على الاستظراف، وكاريكاتورية مسرفة في مبالغاتها، حولت مع كل أسف- السياق الرمزي الهجائي لقصص زكريا تامر، إلى سياق كاريكاتوري هزلي، يتناقض تماماً مع روح زكريا تامر وفرادة أدبه، الذي يشخص الواقع بحدة بالغة عبر تحويله إلى أمثولة، ويهجو تناقضاته عبر محاكاة جوهر التناقض لا شكلياته الظاهرة!
وهكذا يغرق الممثلون في الصراخ، ويستعيرون نبرات هجينة بأصوات راجفة، تدفعهم يفتعلون الحركات والأفعال وردود الأفعال، في الوقت الذي يقولون فيه (مضمونا) لا علاقة له بكل هذا الافتعال، الذي يلتبس مع الغلظة في الإحساس والفجاجة في التعبير...
أجواء تمثيلية مفتعلة!
ويشعر مشاهد (وحيد القرن) باختصار أنه أمام نمط من الأداء المسرحي الذي عفا عليه الزمان، فبات بعيداً عن ذائقة العصر التي تميل نحو البساطة والمحاكاة المرهفة لروح الفكرة، ناهيك عن البعد عن روح النص المستلهم الذي يهجو تناقضات الجوهر، فهو يبدو للوهلة الأولى أنه لا علاقة له بالواقع، لكنه ما يستهدفه هو نقد وتشريح الواقع المعاش وليس الحديث عن كائنات خيالية تعيش في الفضاء... وبالتالي فإن بنية العلاقات السببية التي يشتغل عليها زكريا تامر في سياق غرائبي رمزي، هي بنية واقعية تماماً، تفضح وتشرح لوحدها ما يجري، ولا حاجة لنا لكل هذا الافتعال والتشنج بحجة (غرائبية النص)... بل ربما كانت الجدية الصارمة هي أسهل الطرق لإيصال كل ما أراد العرض قوله عن العلاقة بين السلطة والرعية، بكل ما في ثناياها إلى من غرائبية وترميز وتهويمات تسبح في اللازمان واللامكان، لكنها تبقى لصيقة بزمان ومكان يعرفه المشاهد جيداً، ويراه في فضاء الحياة العربية أكثر من أي فضاء حكائي غرائبي آخر!
ولا يمكن لنا والحال هذه، أن نتحدث عن نجاحات وإخفاقات في أداء ممثلي العرض: (حسن دكاك- محمود خليلي- كميل أبو صعب- قصي قدسية- رائد مشرف- زهير البقاعي- فادي الحموي- خلدون قاروط- خوشناف ظاظا). ورغم حرفية حسان دكاك وتوهج قصي قدسية في بعض المشاهد... إلا أنه يمكن القول أن جميع الممثلين كانوا أسرى الرؤية الإخراجية التي حددت المسار الفني للعرض ولنمط الأداء، مثلما كانوا في كثير من اللحظات أسرى (إلهام) زيناتي قدسية الممثل الذي كان يمثل لهم المشهد كما يريده، لا المخرج الذي يحرضهم كي يفجروا طاقاتهم الذاتية... ومما لا شك فيه أن زيناتي قدسية ممثل مسرحي كبير وصاحب حضور آسر، لكنه ليس مدرسة في الأداء يتعلم منها الآخرون نبرة الصوت، وطريقة الانفعال، وصرخة الهلع للتعبير عن الرفض أو المفاجأة... فهذه الأدوات التي يستخدمها زيناتي قدسية الممثل بأصالة، تبدو نموذجا مفضوحاً للتقليد حين نراها على الآخرين!
أما إذا أردنا أن نتحدث عن زيناتي قدسية المخرج في هذا العرض... فمما لا شك فيه أنه قد بذل جهداً واضحاً في إغناء المشهدية المسرحية بكثير من الحيوية، وسعى لتأكيد الإيقاع الرشيق للنص المعد، واستطاع أن يقدم حلولا إخراجية كثير منها مشبع بإيحاءات بصرية جذابة، كما أحسن التعامل مع الفراغ بجرأة، وتوزيع الكتلة المشهدية على الخشبة بجمالية تضافرت فيها الإضاءة وحسن التعامل مع الكتلة والفراغ... لكن كل ذلك لم ينقذ العرض من سماجته، ولا من صبغة الافتعال التي هيمنت على روحه، وطبعت أهم عناصره الفنية وأكثرها اضطلاعاً بإيصال أفكار العرض: التمثيل!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد