غسان الرفاعي: الثلاثية الشريرة
ـ 1 ـ في ندوة حول (تسعير القيم)، عقدت في ناد يتردد عليه مثقفون غفل، مازالوا يلتمسون طريقهم إلى الشهرة والأضواء، طرح موضوع العلاقة بين القيم وسوق النقد، وتوصل المشاركون، بعد تبادل الآراء إلى أن المجتمع الليبرالي الحديث، قد وضع تسعيرة لكل القيم، ومن النادر أن يرفض الناشطون الاجتماعيون هذه (التسعيرة)، مجاناً. وكما نقل عن أحد المتحذلقين: ذات يوم، كان للعراقة وزنها، كما كان للمكانة التراتبية التي يتمتع بها الإنسان قيمة خاصة، ولكن سيادة المال قد أبطلت هذا كله، وأخضع الجميع لتسعيرة واحدة، ولم يعد مخجلاً أن تعلن قائمة بالأسعار المحددة لكل قيمة، مثل: الشرف، والوطنية، والاستقامة، والحكمة. المال قوة شيطانية بل لعله أصبح المحرك الوحيد للحداثة، إنه (الطوطم) الحديث الذي يتفانى الجميع في النفاق له، والتقرب منه، بعد أن كان ملعوناً، مرذولاً، يتفنن الكل في التحرر من استبداده وطغيانه.
ـ 2 ـ
تمكن بعض أصحاب المكتبات من تسريب كتاب جديد لـ(روجيه غارودي): (نحن بحاجة إلى الله)! متحدين قرار حظر بيع كتبه في فرنسا، والجديد في هذا الكتاب أن الحرب التي يشهدها القرن القادم هي حرب دينية لاهبة؛ إنها ليست حرباً بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المؤمنين والملحدين، ولكنها حرب بين ديانة وحدانية لا يجرؤ أحد على المجاهرة باسمها: وحدانية السوق، وبين كل القوى التي تؤمن بأن للحياة معنى آخر غير الإنتاج والاستهلاك، وعلى هذا فإن عصرنا ليس عصر الإلحاد، وإنما عصر الإشراك، ذلك أن وحدانية السوق تتستر على عبادة أربعة أوثان: المال، والسلطة، والشوفينية، والأصولية.
يشن (غارودي) حملة لا هوادة فيها على ما أسماه (الدين الرسمي) للكنيسة الكاثوليكية التي تدافع عن السلطة الزمنية الفاسدة ومؤسسة الإفتاء التي تبرر الطغيان، باسم الدفاع عن المظلومين والمسحوقين، وكلاهما تفرز (لاهوت السيطرة والقمع) بدعوى أن السلطة تأتي من الله، وأن هذه السلطة تعلو على المكان والزمان معاً.
ـ 3 ـ
اكتشف (غارودي) وهو يتخبط في تجربته الصوفية الجديدة أننا نعيش في عالم مثلوم، مكسور، مشطور: شمال متخم في مقابل جنوب مملق، 80% من الثروات الطبيعية على سطح الأرض مصادرة ومستهلكة من قبل 20% من المتخمين، الأغنياء في الشمال يعبثون بـ80% من الثروة العالمية، والـ80% الباقون لا يتمتعون إلا بـ20% من هذه الثروة.
هناك ثلاث كوارث تهدد العالم اليوم: الجوع، البطالة، الهجرة، ولها سبب لا يحلو للكثير الاعتراف به: المسافة بين العالمين تتسع باستمرار. وفي خلال الثلاثين سنة الأخيرة قفزت هذه المسافة من 30 إلى 150.
النموذج الغربي في التنمية الاقتصادية (نموذج مجرم قاتل)، إنه يكلف العالم كارثة عالمية كل يوم على أيدي برابرة مدججين بالآليات الدموية، وكأنهم يعيشون في دغل مأهول بالحيوانات الكاسرة، وهؤلاء لا يفكرون بالله، على الرغم من تمسكهم ببعض الطقوس الدينية، وهم يدفعون العالم إلى انتحار كوني سيسحق سكان الشمال قبل الجنوب.
(غاردوي) يدعو إلى ديانة جديدة، ترفض التواطؤ مع الأيديولوجيات الفاسدة المتغطرسة، ومع القوى المتسلطة، والطغيان القائم، وتتحرر من الاستكبار والأصولية المتحجرة، والانتماء القبلي، وتنفتح على الحرية والأمل والعدالة. قال في نهاية كتابه: (كلا، لن نخضع لإرهاب اقتصاد السوق، ولن نسمح بأن نصلب على صليب مصنوع من الذهب والنفط والهيروئين..).
ـ 4 ـ
أثار عنوان الافتتاحية التي صاغها (جان دانيال)، أحد كبار معمري اليسار التقليدي في مجلة (لونوفيل اوبسرفاتور): ( ما لم يتحدث عنه إنسان!) الكثير من التساؤلات. لقد بدأها بالتعبير عن إعجابه ودهشته لتخصيص صحيفة (نيويورك تايمز) صفحتها الأولى - صوراً ومانشيتات - للدولة الفلسطينية المستقبلية ولامتداج (استراتيجية اللا عنف) التي طرحها رئيس وزراء السلطة الفلسطينية سلام فياض، كأفضل أسلوب لإقامة الدولة الفلسطينية في غضون سنتين، بعد أن فشلت العمليات الانتحارية، والانتفاضات المتلاحقة، والاشتباكات في الشوارع، إذ لم ينتج عنها إلا الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني وهزيمة المقاومة، وخراب البنى التحتية، إضافة إلى وصول أكبر عدو للفلسطينيين إلى الحكم في إسرائيل بنيامين نتنياهو.
التساؤل الكبير الذي تطرحه الصحيفة، وبإيجابية فاقعة، هو: هل بدل الفلسطينيون استراتيجيتهم، وعوضاً عن لعن الاحتلال وشتم المحتلين، بأصوات مبحوحة، بدؤوا بالعمل على إقامة الدولة الفلسطينية بهدوء وصبر؟ المطلوب هو إرغام الإسرائيليين على المفاوضات الجادة، لا التوسل إليهم لقبول المفاوضات، وإذاً لا بد من وضع حد لاعتماد الاقتصاد الفلسطيني الهش على إسرائيل، ولا بد من المباشرة فوراً بتأهيل البنى التحتية، واستغلال المصادر الطبيعية كالمياه، وتحسين السكن، وتوسيع التعلم، وتطوير الزراعة، وبناء مطار وميناء، وإذاً أيضاً ينبغي الاعتماد على الاعتصامات، والإضرابات، والتظاهرات، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، ورفض العمل كعمال مأجورين في إسرائيل، وإذاً أيضاً؟ لقد أعلن(أوباما)، في خطابه الذي ألقاه في جامعة القاهرة، أن السود الذين كانوا يضطهدون في المجتمع الأميركي، نجحوا في إيصال أحدهم إلى البيت الأبيض ويعود الفضل إلى القيادة الهادئة والشجاعة لـ(مارتن لوثر كينغ)، كما نجح الهنود في طرد الانكليز بقيادة (غاندي).
قال سلام فياض في مقابلة مع صحيفة (هآرتس): ستحتفل الإنسانية جمعاء بولادة الطفل المسمى الدولة الفلسطينية عام 2011 بفرح وسعادة، وسيتوج هذا الحدث جهوداً متواصلة لممارسة حق الفلسطينيين في حياة حرة وكريمة، بالتنسيق مع المجتمع الدولي، ستكون الدولة الفتية الجديدة انتصاراً لمبادئ الحق والعدالة، وتكريساً لقرارات دولية لا عد ولا حصر لها.
ـ 5 ـ
ولكننا نشعر - على الرغم من كل مظاهر الابتهاج - أننا محاصرون، مراقبون، متهمون. هناك حواجز تقف بيننا وتحول دون التصارح والحوار النزيه، وكأن عقدة الاستعلاء الحضاري من جانبهم، وعقدة النقص الاجتماعي من جانبنا، تلوثان العلاقات الطبيعية بيننا. يقول (فيليب دوسان روبير) الذي طاف جميع بلدان العرب، وعقد حوارات مع كبار مثقفيها: (لا أدري لماذا، ولكنني كلما قابلت مثقفاً عربياً، تملكني الارتياب، وشعرت بأنني سأخدعه، وانه سيخدعني. هو لا يثق بي، وأنا لا أثق به، وهو يحاول أن يبيعني بضاعة فاسدة، وأنا أتظاهر بأنني قد اشتريت..!) ولو كان منصفاً لاعترف بأن المشكلة ليست مشكلة ثقة، وإنما هي تشاطر متبادل، مفضوح لدى الجانبين، ولكنه مقبول لدى الجانبين. لم يبدأ هذا التشاطر بعد 11 أيلول 2001، بعد انهيار برجي نيويورك، وإنما هو محفور في اللاشعور الجمعي منذ الحروب الصليبية، ومن بعدها الغزو الاستعماري، وما خلفه من تنابذ وتنافر، وبعدها الرفض الغربي للنهضة العربية، وشعور أقطابها من سياسيين ومفكرين أن الدافع وراء التحرك الغربي هو الجشع المادي، والرغبة في الاستثمار والاستئثار، ولم يكن التواصل الحضاري أو تحقيق الامتداد الروحي أو الثقافي كما يزعم.
ـ 6 ـ
تفرض علينا النزاهة التاريخية أن نعترف بأن هناك ترابطاً فولاذياً ثلاثياً في عالمنا المعاصر، لا قدرة لنا على تجاوزه، حتى لو كانت مظاهر هذا الترابط هشة. هنالك، أولاً، تسعيرة القيم التي أصبحت تتحكم بسلوكيات الأفراد والجماعات، وهناك ثانياً، الانشطار الفظ في عالم اليوم، بين المتخمين والمملقين، وقد يكون من المستحيل ردم هذا الانشطار سياسياً، واقتصادياً. وهناك ثالثاً القناعة بأن الحل الأمثل للتساكن هو تبني استراتيجية اللاعنف، بكل سلبياتها ومثالياتها. ولكن هذه الثلاثية الشريرة ليست قدراً محتوماً، ولا بد من اختراقها، إن عاجلاً أم آجلاً.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد