حنا مينه: رسالة الى نصف مجنون
.. وهذا حكيم يزهق الروح ظله
وذي حكمة تعوي وتلك تجعجعُ
إذا سئل التاريخ من مدّ نارها
أينطقه إلا الأديب المضيّعُ
وما أنت ياحنا، أيها الحلاق الذي لم يتقن مهنته، والحكمة، أو الجعجعة، أو التاريخ ونار الثورات وانتفاضات الشعوب، المقهورة، المظلومة، البائسة، والبؤس أعمى، يخون المرأة المسكينة، في هذا الوطن العربي الكبير، فتعيا، ثم تنقلب (وحق طفلك لم أشمت بامرأة، زلّت بها قدم، أو غرها ذهبُ) وأنت، المزمن في الحلاقة، المتفاني في المبدأ، المتشرد قسراً لا نزهة، قد جبت العالم من أقصاه الى أدناه، من طوكيو الى برلين، ومن بكين الى نيويورك، ومن جبل بيتوشا، في بلغاريا، الى مكسيكو، دون أن تتعب، أو تستريح ليستريح الذين يحبونك حلاقاً لا فيلسوفاً!.
دع الفلسفة الى أهلها، وإن كان الجاهلون، الذين قرؤوا ما تكتب، وافتتنوا بياطرك، من غير أن يعرفوا أن الياطر مرساة المركب أو السفينة، وأن العرب الأقدمين، كانوا يسمون الياطر الإنجر، وعنهم أخذه الذين يعنون بالبحر والتجارة، وقد حرفوا الاسم قليلاً، فصار (الإنكر) وقد ترجمت روايتك الياطر الى الاسبانية بعنوان (الأنكر!).
إن الناس، أكثر الناس، في الرياح الأربع، قد خدعوا بك، اعتبروا ذكاءك المتواضع، ذكاءً حاداً، وسيأتي يوم تنكشف فيه الكذبة البلقاء هذه، ويعرف، حتى الذين لا يعرفون، أنك كنت حلاقاً، وستبقى حلاقاً مزمناً كما تقول!.
مَنْ علّمك، يا صاحب المقص والمشط، فن الإلقاء، فن إنشاد الشعر، فن الخطابة، فن الوقوف أمام الجماهير فن الإيقاع والتشويق، فن القياس والاشتقاق، فن الصمت وأنت على المنبر، تتملى الوجوه، تروز سمات الذين هرعوا لسماع ما سوف تقول، ثم تأتي المفاجأة: (أنا هو الحلاق الذي في حارة القلعة كان وقد غبتُ وغبتُ، غبتُ طويلاً جداً، خمسين أو ستين عاماً، وها أنا بينكم، في المدينة التي أحببت، وبحرها الذي عشقت، وجبالها ووديانها وغاباتها التي كنت ترودها هارباً من ملاحقة رجال الأمن، لكونك ماركسياً، والماركسية هي الشيوعية، هي الكفر أعوذ بالله، وهي في الممنوعات، كالزنى، والتحريم، والمخدرات، ومجون أبي نواس، وولعه بالغلمان فقد قالها صراحة (لي لذتان وللندمان واحدة، شيء خصصت به من دونهم وحدي!).
الحلاق، ياصاحبي ليس (ابن جلا وطلاع الثنايا) ليس الحجاج بن يوسف الثقفي، والرؤوس التي أينعت وحان قطافها، (وإني لصاحبها) كما قال وهو ملثم، صائحاً بأهل الشقاق (متى أضع اللثام تعرفوني) وعرفوه جيداً، وذاقوا الويلات منه، هو الآتي من دمشق، مزوداً بدهاء معاوية، وذكاء عمرو بن العاص، وخبرة أبي ذؤيب الهذلي وجسارة المغيرة بن شعبة، وعلم أبي موسى الاشعري، هذا التقي النقي الذي خدعه عمرو بن العاص، خدعة الدهر التي لن تتكرر!.
(أيها الناس اسمعوا وعوا) الحلاق، في حارة القلعة في اللاذقية، صار، ما شاء الله وكان، أديباً، تعذبه الورقة البيضاء، الأفعى البيضاء التي على مكتبه، كل ليلة وكل نهار، والتي ستجعله يقفز، دفعة واحدة، من صاحب مشط ومقص، إلى صاحب قلم وورق والذي يحنّ، هو ابن الثانية والثمانين، إلى ابن العشرين الذي كانه، وكانت الدنيا لديه، وكان الغصن الأخضر في كف الملاحة، والتوى، تاب الله عليه، دجنته الوظيفة شيئاً فشيئاً، لكنه حتى في شيخوخته، له الهبوات الحمر أحياناً!.
شاعرنا الكبير، محمد مهدي الجواهري، الشبق إلى حدّ الألم، كان يصر إصراراً غريباً، عجيباً، على مناداته باسم (دكتور حنا) وقلت له في كل لقاء معه: (أنا لست دكتوراً ولا بلّوطاً يا أبا فرات) وأبو فرات يأبى إلاّ أن (يُدكتِرني) ورحم الله الصديق الملهم، والكاتب الساخر الألمعي في سخريته، كتابة وشفة، حسيب كيالي، الذي كان يكره حرف الدال، لأنه شاع حتى درجة الابتذال، وحصل عليه حتى الأمي مقابل دولارات معدودات، من أي بلد تريد.
وما دمت في سياق الدال هذه، سأذكر أنهم (دكتروني) بالقوة، فقد صادف، في إحدى المناسبات، جلوسي إلى جانب الدكتور عادل العوّا وهو أستاذ فلسفة لامع، فسألني، بطيبة قلب (في أي جامعة تخرجت دكتور حنا؟) فأجبته فوراً (في جامعة الفقر الأسود!)، تفكّر قليلاً وقال: عجيب، أنا لم أسمع بهذه الجامعة!).
الحلاق الذي كنته يا حنا، وألِفته، لا يبرح خيالي، فقد أحببته، ولم يخطر في بالي أبداً، أنني سأهجره، لأصبح دكتوراً بالقوة، وكذلك لم أهجر، ولم أنس أنني، في الوعي الأول للوجود، كنت طفلاً عارياً حافياً جائعاً، ولو نسيت هذا الطفل الذي كنته، والشقاء المر الذي ذقته، لما واصلت الكتابة حتى اليوم، ولصرت أفندياً كغيري من الصغار شأناً، ممن نسوا، أو تناسوا، أن رداء أمهم مازال عالقاً بشجرة التوت! وأن تدخين الشيشة أو السيكار الهافاني لا يجعلهم من النابهين. حلاق أنا والله، وقد خلقت ألوفاً، ورعى الله المتنبي العظيم، وهانت الدنيا لدي، وعلي لأنني، والتجارب منقوشة على ظهري، لم أخف الحياة، وبذلك جعلتها تخاف مني!.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد