غسان الرفاعي: حكايات من ثقب الباب
ـ 1 - يروي (سلاخو سيزيك)، النجم المتلألئ الجديد في الأدبيات في لقاء مع الكتّاب، في جمعية (أدباء العالم الثالث)، بداية هذا الشهر، قصة عن رجل، كان يعتقد أنه حبة قمح، وكان يرتعد رعباً من احتمال أن تلتقطه دجاجة، وأن تبلعه، وقد فشلت كل محاولات إقناعه بأنه إنسان سوي، ومن المستحيل أن يكون حبة قمح، إلى أن عرض على عالم نفس مشهور جداً، نجح في إقناعه، بعد جهود مضنية، بأنه ليس حبة قمح، ولكن الرجل عاد لرؤية العالم النفسي بعد يومين، وطرح عليه سؤالاً محرجاً: (وهل تعرف الدجاجة أنني لم أعد حبة قمح؟!) لقد بقي الرجل، ككل المصابين بانشطار الشخصية، صريع أوهامه، ويتوقع دوماً وقوع الكارثة في أي لحظة. وتوجه (سيزيك) إلى جمهوره وقال لهم: (إنكم جميعاً مصابون بعقدة حبة القمح، وتعتقدون أن الدجاجة الأمريكية سوف تلتهم استقلالكم، وحضارتكم، ولم تجد، حتى الآن، محاولات شفائكم..).
أثارتني قصة حبة القمح، وكتبت في دفتر ملاحظاتي: (هناك زعامات في عالمنا العربي تصر على أن الشعب العربي حبة قمح، وأنه من المصلحة العامة، أن تبتلعها الدجاجة الأمريكية، وأنه لا سبيل آخر للتمفصل مع العولمة والحداثة، والويل، الويل لمن يسعى إلى الاعتصام في واحات المقاومة، ويرفض تحويله إلى حبة قمح، علماً أن هذا الاعتصام هو الطريق القويم للحفاظ على هويته وكرامته).
ـ 2 ـ
ويروي (المنشقون اللاجئون) من دول أوروبا الشرقية الذين هربوا من بلادهم بين عامي 1969 ـ 1970 القصة التالية، وهي نموذج عن (الهلوسة اللاشعورية) التي كانت رائجة عند المثقفين، في ذلك الوقت.
تصادف أن اجتمع الزعماء التاريخيون (لينين)، (ستالين)، (خروتشوف)، (بريجينيف) في قطار، في طريقهم من لينينغراد إلى موسكو، وتوقف القطار فجأة، فقال (لينين): (لابد من الاستعانة بمهندسين اختصاصيين جدد لإصلاح العطل في القطار..) وتم استدعاء المهندسين الجدد، واستمروا يحاولون إصلاح القطار مدة طويلة، ولكن القطار بقي بلا حراك، وهنا قال (ستالين) غاضباً: (لابد من إعدام هؤلاء المهندسين، إنهم مخربون، أعداء للثورة، ثم لابد من إعدام السائقين والميكانيكيين الذين يعملون معهم!) وتم القبض على المهندسين والسائقين والعمال، ونفذ فيهم حكم الإعدام فوراً، ولكن القطار لم يتحرك.
وهنا تدخل (خروتشوف)، وقال، هادئ الأعصاب: (المسألة بسيطة، لابد من استدعاء مهندسين آخرين، وعمال آخرين، وسائقين آخرين. الإصلاح بحاجة دوماً إلى دم جديد، وكفاءات جديدة!) ونفذت تعاليم (خروتشوف)، ولكن القطار بقي بلا حراك، وكان لابد من تدخل (بريجينيف) وقال: (لنسدل الستائر، ونغلق النوافذ يا رفاق، ولنتخيل أن القطار يسير، وحينئذ ستكون الأمور على خير ما يرام..).
وعلق أحد الكتاب العرب، بعد استماعه إلى الرواية المثيرة قائلاً: (إن زعماءنا مهذبون وعقلانيون، ويبدو أنهم من مدرسة (بريجينيف). لقد أسدلوا الستائر، وأغلقوا النوافذ، وهم على قناعة أنهم يتقدمون، ويحققون المعجزات..).
ـ 3 ـ
حينما قرر الكاتب المكسيكي دافتنللي أن يتوقف عن متابعة ما يجري في العالم، وأن يقلع عن الاستماع إلى نشرات الأخبار، ومشاهدة التلفزيون، وقراءة الصحف، شعر بالراحة، وتبين له أن فهمه قد زاد، واتسع، وكتب غاضباً: (مما يدعو إلى الريبة أن منابر المعرفة والمعلومات هي منابر متسخة ويملكها أناس لا نثق بهم، ولا بنزاهتهم، ولا بحيادهم، ولن أسمح لهم بعد اليوم أن يتحكموا بما ينبغي أن أعرفه، وما ينبغي أن أجهله: واستشهد بآلان تورينغ مخترع الكمبيوتر الذي انتحر قبل أن يبلغ الأربعين من عمره، تاركاً، وصيته التي يقول فيها: (ستصابون بالهستيريا جميعاً، وستحفرون قبوركم بأيديكم، ولن تتحملوا هذا الإمطار من المعلومات الكاذبة التي ستتساقط على رؤوسكم)، كما استشهد بما كتبته (النيويورك تايمز) ـ أهم صحيفة عالمية ـ بعد أن دخلت القوات الأميركية إلى العراق، وفتكت بمؤسساته وحضارته (نعتذر من قرائنا، ونعلن لهم أن كل ما كتبناه عن حرب العراق كاذب وملفق، ونعترف لهم أننا قد خدعناهم، عن سابق تصميم وتصور...).
ـ 4 ـ
بدأ الرئيس ساركوزي عهده الذي سماه (القطيعة مع الماضي)، بالإعلان، في مناظرة تلفزيونية بكل صلف: (أنا لست منظراً، ولست مولعاً بالايديولوجيا، وأعترف بأنني لست مثقفاً..) وهنا تجرأت وزيرة ماليته واقتصاده كريستين لاغارد، وقالت في كلمة ألقتها في المجلس الوطني الفرنسي: (إنني أناشد الشعب الفرنسي أن يكف عن التفكير الفلسفي، وأن يشمر عن ساعديه، وأن يعمل، وأن يكسب المال، وأن يتمتع بالحياة، ما يتكدس في مكتباتنا من فلسفة وتنظير يكفينا لقرون طويلة..)، ولكن مثقفي فرنسا العاطلين عن العمل ثاروا، وهاجوا، وماجوا، وقال أحد كهنتهم، فيلكر كراوت في مقالة غاضبة: (ما أبخس القول أنه ينبغي أن نفكر أقل، إذا حالفنا الحظ وأتيح لنا أن نكرس حياتنا للتفكير، فهذا معناه أننا نعمل دون توقف طوال الوقت، حتى ونحن نائمون، إذ يتطلب التفكير العذاب والكثير من العرق، أكثر من الركض بالبنطال القصير في الغابات، كما يفعل رئيسنا ساركوزي، في تقليد سمج لأثرياء الولايات المتحدة (ولم يكن أحد كبار المثقفين الآخرين دولسون أقل غضباً حينما كتب: (ما نسمعه اليوم من أعلى المنابر الرسمية يذكرني بهذيانات السكارى في الحانات والمواخير، هذه هي المرة الأولى في تاريخ فرنسا، التي تتجرأ فيها مسؤولة على الدعوة إلى إلغاء الفكر، أنا أناصر الولايات المتحدة، ومن الداعين إلى اقتصاد السوق، ولكن هذا الاحتقار للفكر والمفكرين جعلني أقف ضد هذا النظام...).
ـ 5 ـ
وهذه الحملة على المثقفين ترافقها دعوة إلى التخلص مما يسمى (الكسل الوطني) الذي دأبت الحركات اليسارية على ترسيخه على أنه مكسب اجتماعي كبير، في حين أنه ليس أكثر من عملية إفساد اجتماعي، قائمة على استبخاس العمل، واعتباره وسيلة لقهر الإنسان وإذلاله، وكما قالت وزيرة المال والاقتصاد لاغارد: (أيهما أحسن أن يغادر الموظفون أعمالهم إلى المقاهي والحانات، بدعوى تخفيف الإرهاق عنهم؟ أم تكليفهم ساعات إضافية، وقبض المزيد من التعويضات لتحسين مستوى حياتهم، والتمتع بأوقات فراغهم؟).
وهناك دعوة ملتبسة أخرى ترافق الحملة على المثقفين والمفكرين الذين (لا يعملون وإنما يثرثرون ويخربون) هي عدم الخجل من الثراء، ومن النجاح المادي، لقد دأبت المنابر الثورية على تلطيخ سمعة الأثرياء، واتهامهم بالانحطاط الأخلاقي، وقد آن الأوان لكي يعاد الاعتبار إليهم، وتشجيع (الكسالى) على معرفة القيمة الحقيقية للمال، والفوائد التي يقدمها لمن يحصل عليه، إن فكرة احترام الثراء التي لم يألفها المجتمع أصبحت أكثر رواجاً، بعد أن تبين أن الشعب يفضل أن يحصل على الثروة باليانصيب لا بالعمل، بل إن (الكسل الوطني) ما زال خصلة متأصلة في المجتمع، قد يصعب تجاوزها.
ـ 6 ـ
الثقافة العربية التي تتمخطر في أندية باريس ومراكزها الثقافية المتنوعة ترتدي أسمالاً بالية، وتفتقر إلى الهوية الواحدة، إنها لا تخجل من عرض خلفياتها القطرية الطائفية، الإثنية، المذهبية، بل الشرق أوسطية، لقد سحبت من التداول والأسواق الثقافية الجذور العربية العريقة، وأضحى المهيمن على الإنتاج الثقافي المهاجر هو التنصل من الفكر الوحدوي العربي، واستبخاس دوره الريادي، بسبب الخيبات المتكررة، التي تعرض لها، إما بفشل محاولات الوحدة المرتجلة، وإما للإخفاق في مواجهة إسرائيل والامبريالية الأمريكية، وإما للتواطؤ مع العدو الاستعماري الجديد لجزء من الوطن العربي، كما حدث في العراق.
وكان من نتيجة هذا الغياب للفكر العربي، أن طفت على السطح ثلاثة تيارات لا تزال ترهق الإنسان العربي، أولها الاستنجاد بالجماهير العربية الشوفينية، وثانيها الاستنصار بالإسلام المتزمت، وثالثها، الانسحاب إلى حداثة هجينة، ولكن هذه المخارج الانتقالية أوصلت الإنسان العربي إلى الإحباط والهزيمة والعنف وحرمته من القدرة على الانحياز إلى البعد الثقافي الحقيقي والمتفاعل الذي خبره في تاريخه الوضاء.
ـ 7 ـ
ما أكثر مثقفينا الذين يجلدون ذواتهم بلا رحمة، ويدعون إلى تمزيق جلودهم، حتى بات (الندب) من أكثر الأجناس الأدبية ذيوعاً ورواجاً، بل إننا بتنا نتهم من يتخلف عن المشاركة في مهرجانات اللطم بالنفاق والانتهازية، ودفن الرأس في الرمال، أليس من المؤلم أن يصرخ أحد كبار مثقفينا: (لنمتلك الجرأة، ولننظر إلى وجوهنا الملأى بالبثور في المرآة، ولنتوقف عن تصنيع الأعداء في كل مكان، ولنعترف بكل جرأة: (كم نحن قبيحون!).
وقد يطرأ على أحدنا، في لحظات نادرة من التوهج العقلاني والاعتدال والبراغماتية أن نستجيب لدواعي حسن النية، وإذ ذاك نميل إلى تفسير الأحداث دون توتر متراكم، بل نتوصل إلى الاعتراف بكل طيبة وبراءة أن ما يجري هو من صنع أيدينا، وأنه من التعسف إلقاء اللوم على الآخرين من مدبري المؤامرات وأشرار النظام العالمي الجديد، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تهرباً من المواجهة، وتقاعساً عن تحمل المسؤولية، ثم نكتشف بعد فوات الأوان أننا ضحية خدعة وفريسة فخ نصب لنا بعناية وخبث نادرين.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد