نحو نموذج تساندي في فهم النصوص
يحاول محمد بازي في كتابه «التأويلية العربية» صياغة مبادئ بلاغة تأويلية، انطلاقاً من اعتبار أن التأويل خلق مستمر, ووسيلة التواصل بين ثقافات وحضارات الحقب التأويلية المتباعدة، مثلما هي الحال بين الثقافة العربية وبين الثقافات الأخرى المختلفة؛ وبواسطته يحصل التساكن والتفاهم والتعايش في بعض الأحيان, كما يحصل التصادم والتبارز والتنابذ أحياناً أخرى.
ويندرج جهد المؤلف في سياق الاجتهادات التأويلية الحديثة، التي تسعى إلى تمثل الظاهرة التأويلية, وإعادة صياغتها بروح جديدة, وأطروحات عميقة؛ من خلال المزواجة بين قوة الاقتراح وتحليل خطابات تأويلية, ونصوص مختارة, وأقوال وأفكار وتصورات وضعها من خاضوا في مسألة التأويل والتأويلية. والهدف هو إيجاد سلطة قرائية بديلة, تحترم شروط التعاقد التأويلي, والاجتهادات التي تمت من داخل النسق الثقافي والتأويلي العام المؤطر للقراءة, والمبنية على علوم مرجعية, وضوابط ومعايير يمكن الاحتكام إليها. ذلك أن التأويلية التي ارتضاها النسق التأويلي العربي الإسلامي، يراها المؤلف مؤسسة على بلاغتي الارتداد الفعال نحو المرجع المؤطر، الديني, والعقدي, واللغوي, والنحوي, والبلاغي, والتاريخي, والاجتماعي. وبلاغة الامتداد في اتجاه استقصاء المعنى وتكوينه, وما يرتبط بذلك من اجتهادات وفروض وتخمينات. إضافة إلى إنجاز أشكال وأنواع عدة من الربط بين النص وسياقه, والترجيح بين الأقوال, وصرف الظاهر إلى الباطن. ويتطلب ذلك كله توفر مهارات, بل بلاغات في الحفظ والتحقيق والتنسيق.
ويقترح المؤلف مفهوم «التساند» على خلفية وفاء هذا المفهوم لوصف الإجراءات التأويلية الناظمة لمعطيات النص, ومعطيات سياقاته بشكل مقبول ومنسجم, يستند إلى الانتقالات الممكنة التي تسمح بها بلاغة المؤول بين النص ودوائره الصغرى وذاكرته الموسعة. ويدافع عن مبدأ الاشتغال التساندي، القائم على امتدادات النص في سياقه وكذلك امتداد عناصر السياق في النص موضوع الفهم, لأنه يهدف إلى تحويل التصورات المتقدمة إلى آليات قابلة للتجريب, وتحويل الخطابات التأويلية بها, وانجاز قراءات تأويلية لنصوص أدبية أو غير أدبية, بناء على الخطاطات المقترحة في هذا الصدد, تراعي الثوابت التي هي بمثابة البناء القاعدي النظري الذي يجب أن يشكل مرجعية العمل, وتتكيف مع المتغيرات التي تمليها النصوص في تنوعها, بحيث تتخلص المقاربة من أحادي المنظور التحليلي وانحباسه في منحى ضيق نفسي, أو اجتماعي, أو بنيوي, أو سميائي, أو أسلوبي، وتعيد الاعتبار لتساند الأدوات والمعطيات, وتعاونها في بلوغ الفهم وبناء المعاني, وتفهيمها للآخرين.
ويرجع الاهتمام المتزايد بقضايا التأويل, ومشاكله المختلفة, إلى الأهمية التي يمثلها في تحديد علاقتنا بالنصوص والظواهر من حولنا، حيث ينصب جهد العديد من الباحثين والمفكرين حول تأطير الظاهرة التأويلية, ومحاصرتها من جوانبها المختلفة, على مستوى التنظير والاشتغال, لكن اللافت للنظر هو عدم الاطمئنان إلى كثير من الأطروحات والصياغات والاجتهادات التي تمت في هذا الصدد, سواء في المجال الغربي أو في المجال العربي. ولعل تعقيد الظاهرة وتشابكها يشكلان واحداً من الأسباب الكامنة خلف اللهاث المستمر وراء قواعد صلبة, تصمد أمام الارتجاجات العنيفة التي يعرفها هذا المجال, والانتقادات والتصويبات العديدة التي وجهت للاجتهادات المنجزة.
ويرتكز البحث في التأويلية العربية على تفحص أدوار القراءة النصية وأدوار القراءة السياقية, وعلى أطروحة تنهض على تساند الآليات النصية وموازياتها بالسياقية, في عملية الفهم وبناء المعنى. ولا يعني ذلك أنها انجاز منته, ومكتمل, ومحسوب على الماضي, لكن باعتبارها نموذجا قرائياً شمولياً, قابلاً لاستثماره مستقبلاً, يتخذ وسائط عدة لإنشاء قراءة من القراءات, لا تدعي الوصول إلى قصد المنتج, بل إلى القصد الأكثر قبولاً وانسجاماً مع معطيات السياق الإنتاجي, والسياق القرائي, والسياق الثقافي المؤطر لهما, وكذلك مع معطيات النص موضوع التأويل.
إعادة بناء مفهوم
وتقتضي إعادة بناء مفهوم التأويل, التي يحاول المؤلف القيام بها، العودة به إلى أصوله من جهة, ومراعاة استجابته للتصور الذي يقترحه, وكذلك ملاءمته للظاهرة النصية في بعدين بارزين، الديني والأدبي, في أفق تعميم هذا التصور على بقية أنواع النصوص الأخرى، التاريخية والفلسفية والقانونية , وبما يلائم خصائصها.
ولا شك في أن التأويل يتضمن كل فعل قرائي يهدف إلى بناء المعنى, استناداً إلى أدوات ومرجعيات وقواعد في العمل, ويلتزم بشكل مطلق بحدود البلاغة التأويلية, التي تعتبر خلاصة تجارب جماعية في تأطير الفهم وبلوغ الدلالة. ويمكن القول ان التأويلية هي وجود معرفي لا يفتأ يتوسع, يغتني ويكتمل. ممالكها شاسعة الأطراف, يحتمي بها المؤولون وتلجأ إليها النصوص, بحثاً عن قراء محتملين, ويطرقها المؤول لهم. وبسبب أن هناك من يبحث عن اصطناع المفتاح وامتلاكه, لا يحدث اتفاق حول نظام حكم معين قار, تكون له سلطة اعتبارية ذات قوة وسيادة مطلقة. ويرجع ذلك إلى تباين مقاصد ورهانات الأفراد والجماعات من وراء النصوص أولاً, وإلى تبعات الفهم والتأويل ثانياً؛ لذلك ليس هناك استقرار في هذه المملكة ولا خلود إلى الراحة, إنما هنالك سعي حثيث إلى فهم الظواهر النصية ذات التأثير الكبير, والبحث عن المعاني التي لها امتداد في الواقع لتسخيرها وبثها عل وسع نطاق.
وإذا كان النسق التأويلي الواحد يحدث فيه الشتات والنبذ, فكيف يكون الأمر مع الأنساق المتباينة؟ والسبب يتمحور حول وعورة مسالك تحصيل الفهم, وغياب العلم بمستلزمات القراءة, من علوم تأطيرية, وخبرات طويلة مع النصوص, وقلة الكفاية المعرفية والمنهجية الملائمة. لذلك تبقى السيادة والسلطة والهيمنة لمن يملك أدوات الفهم, عن حق حيناً وعن باطل أحيان كثيرة. ومع ذلك فقد أصبح التأويل حبلاً تتجاذبه أطراف متنازعة على السيادة والمصلحة, وكل يدعي أحقيته وأهليته لامتلاك الحبل وما وصل؛ لأن الأصل هو انعدام الحياد في التأويل, وتداخل ممارساته بمختلف المشاكل الإنسانية. وكان لا بد من أن تتأسس بلاغة تأويلية في خضم هذه التراكمات والاجتهادات, تقود المؤولين إلى ممالك المعنى وجزائه المغري في أمن وسلام.
ويبدو أن المؤلف يطمح إلى العثور على صورة المؤول البليغ، بوصفه المؤول الذي يجري تعاوناً حقيقياً بين القنوات الدلالية النصية مع موازياتها السياقية, وما يلازم ذلك من افتراضات وحدوسات, وفهم يمزج بين المعطيات الجاهزة والمعرفة الخلفية, وبين الحقائق التي تتكون في مسار عملية التأويل, وملء البياضات والفراغات؛ فهو القادر على الدمج بين عناصر الدوائر النصية الصغرى وعناصر الدوائي الكبرى عبر المعايير الملائمة والانسجام.
وفي الجانب التطبيقي يرصد المؤلف قنوات المعنى في خطابات التفاسير, وخصوصاً في تفسير جار الله الزمخشري الموسوم بـ«الكشاف» و«تفسير القرآن العظيم» لعماد الدين بن كثير, وذلك بغية الوقوف على تجليات التأويل الدائري والتساندي, مع تتبع الدوائر الصغرى, ممثلة بالمدخل اللغوي, والمدخل الصرفي والاشتقاقي, والمدخل البلاغي, ومدخل القراءات. وكذلك الدوائر الكبرى المتمثلة بذخيرة المؤول من الآيات القرآنية, والأحاديث, وأقوال الصحابة, والشاهد من الشعر, وغيرها من الموازيات. مع التمثيل لكل ذلك من الخطاب موضوع المقاربة, لتوضيح قوة البلاغة التأويلية المبنية على التساند. ومحاولة التأكد من الفرضيات المقترحة, اعتماداً على آليات التساند في شرح أبي البقاء العكبري «التبيان» وفهمه شعر أبي الطيب المتنبي, على سبيل التمثيل, الذي حكمته مزاوجة وتعاون بين الدوائر النصية، كاللغة والصرف والبنيات النحوية والبلاغية، ونظيرتها الخارجية ممثلة بسجلات السياق ومناسبات ومقامات تداول القصائد, والأشباه والنظائر الشعرية الاستدلالية, والمواد الخبرية الموسعة والموجه, والمذاهب النحوية.
ـ الكتاب: التأويلية العربية ـ نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات
ـ تأليف: محمد بازي
ـ الناشر: الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت، 2010.
عمر كوش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد