انحسار الثقافة الفرنسية : هل اضمحلت السلالة المجيدة؟
مع بداية الألفية الجديدة، نشر صحافي بريطاني مرموق معروف بإلمامه الواسع بشؤون فرنسا، مقالا في إحدى كبريات الصحف اللندنية، أشار فيه إلى أن الثقافة في بلاد موليير وفولتير وفلوبير وجيد وسارتر وكامو ومالرو، تعيش حالة انحسار وركود وجمود لم يسبق لها مثيل.
ولعله تقصّد المزيد من إيذاء "الديك الفرنسي" إذ أنه ختم مقاله قائلا بأن الثقافة الفرنسية تعيش "حالة احتضار مؤلمة". وقد أثار مقال الصحافي البريطاني حفيظة المثقفين الفرنسيين وغضبهم، فانهالوا عليه بسيل من الشتائم المقذعة واصفين إياه بـ"البريطاني المضلل" وبـ"صاحب الخيال المريض الذي يعشق الشطح في عالم الأوهام" وبـ"الصحافي الصغير المتطفل والحاقد على فرنسا العظيمة".
وكان جان-كلود ميلنر من الفرنسيين القلائل الذين عاضدوا الصحافي البريطاني في ما ذهب إليه. ففي كتابه الذي حمل عنوان: "هل توجد حياة ثقافية فرنسية؟" الصادر عام 2002، قدم حججا دامغة وأدلة ملموسة تظهر بجلاء ووضوح أن الثقافة الفرنسية فقدت نضارتها وحيويتها وإشعاعها العالمي وأغلب الجوانب الإيجابية الأخرى التي تميزت بها خلال القرن العشرين.
وباتت منكمشة على نفسها، تجتر أمجاد ماضيها، ولا تتغذى إلا من رموزها الكبيرة والمشعّة التي رحلت عن الدنيا. وأما الفرنسية الأخرى دومينيك لوكور فقد وصفت المفكرين الذين يقدمون أنفسهم كرموز هامة للثقافة الفرنسية الجديدة بـ"التافهين" وبـ"السطحيين". وهي ترى أن "الثقافة الحية" بحسب تعبير الفيلسوفة هانا آراندت، والتي دونها لا تكتسب الحياة مفهومها العميق، اضمحلت وما عاد لها أثر يذكر خصوصا بعد رحيل العمالقة في الثمانينات من القرن الماضي من أمثال سارتر ورولان بارت وجاك لاكان "LACAN" وميشال فوكو. ويساند رينيه ماجور دومينيك لوكور ويتحدث عن ما سماه بـ" تقهقر الثقافة الفرنسية".
وشخصيا لا أظن أن هناك مبالغة أو مغالاة في القول بأن هناك ركودا أو جمودا في الثقافة الفرنسية. ولإثبات ما قلت، علي أن أعود إلى الماضي البعيد والقريب. ففي عصر النهضة، وفي القرون التي تلتها، تمكنت فرنسا من أن تفرض نفسها كمنارة ثقافية وفكرية مشعة على أوروبا بأسرها.
ففيها ظهر رابليه الذي يعتبر مع الإسباني سرفانتس، أحد المؤسسين الكبار للرواية الحديثة. وفيها استعادت الفلسفة هيبتها بعد أن فقدتها لدهور طويلة وذلك بفضل ديكارت صاحب "خطاب الطريقة" الذي جعل العقل وسيلة أساسية لفهم الوجود ومعرفة منزلة الإنسان في الكون. وبفضل موليير، ازدهر المسرح، وعرف أمجادا لم يعرفها منذ عصر الإغريق والرومان. ومنبهرة بما كان يحدث في فرنسا من عجائب على مستوى الفنون والآداب، أخذت النخب في لندن وموسكو وروما وفيينا وبرلين، تتنافس لتعلم لغتها.
ومع فولتير وروسو وديدرو، عرفت فرنسا وأوروبا ما أصبح يسمى بـ"فلسفة الأنوار" التي جاءت لتحارب سلطة الكنيسة، وتقاوم الخرافات التي كان يروجها السحرة والمشعوذون، وتنتقد استبداد الحكام، وتفضح جورهم وظلمهم. وكانت الثورة الفرنسية التي اندلعت في صيف عام 1789، والتي أطاحت بالنظام الملكي رافعة شعار "الحرية – العدالة – المساواة" بمثابة الرجة الهائلة التي هزت القارة العجوز، لتمتد تأثيراتها إلى بلدان بعيدة مثل بلدان أمريكا اللاتينية، واليابان، والصين، والعالم العربي متمثلا في مصر وبلاد الشام وتونس.
وفي القرن التاسع عشر، تحولت باريس إلى مخبر كبير لطبخ الأفكار الجديدة في مجال الفكر والأدب والفن. وكانت أعمال كبار الأدباء والشعراء من أمثال فيكتور هوغو وبالزاك وفلوبير وستاندال وزولا ومالارميه تفتن القراء في جميع أنحاء أوروبا. لذلك كان أدباء وشعراء روسيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا "يحجون" إلى باريس للتعرف على التجارب الأدبية والفنية الجديدة والاستفادة منها.
وكان المتطلعون إلى إصلاح أوضاع أوطانهم، وإخراجها من عتمة التخلف والجهل يذهبون أيضا إلى باريس لينيروا عقولهم بالحضارة الجديدة التي كانت تتأسس على أنقاض العالم القديم. وهذا ما فعله المصريون من أمثال رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، والتونسيون من أمثال خير الدين باشا التونسي، وأيضا جمال الدين الأفغاني، والثوريون الروس المناهضون للحكم القيصري. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، حافظت فرنسا على مكانتها كمنارة ثقافية وفكرية كونية.
فقد فتح برغسون صاحب "التطور الخالق" آفاقا جديدة أمام الفلسفة الحديثة. ومن خلال عمله الفذ "البحث عن الزمن المفقود"، ابتكر مارسيل بروست تقنيات فنية، وطرقا أسلوبية لم تعرفها الرواية من قبل. وحول لوي فارديناند سيلين اللغة الشعبية اليومية إلى وسيلة عجيبة لاستكشاف الخفايا المعتمة للعصر الحديث.
وهذا ما فعله في عمله الذائع الصيت "سفرة في آخر الليل"، وفي بقية روائعه الأخرى.
وأبدع اندريه جيد أعمالا أدبية كان لها تأثير كبير على العديد من الأدباء في جميع أنحاء العالم. وبعد الحرب الكونية الأولى، شهدت فرنسا ولادة العديد من الحركات الأدبية والفنية الطلائعية من أمثال الحركة السوريالية بزعامة الكاتب والشاعر الكبير أندريه بروتون.
كما أنها استقبلت كل الفنانين والأدباء والمفكرين الذين تركوا بلدانهم عن قناعة أو اضطرارا بحثا عما يمكن أن يساعدهم على تعميق تجاربهم في الكتابة وفي الحياة.و هذا ما حدث مع بابلو بيكاسو وسالفادور دالي وتزيستان تزارا وهنري ميشو وجورج شحادة وجيمس جويس وصموئيل بيكت ويوجين يونسكو واداموف وكاندانسكي وماغريت وآخرين كثيرين كان لهم دور فعال في تأسيس ثقافة عالمية جديدة.
وبعد الحرب الكونية الثانية، ظلت فرنسا محافظة على حيويتها الثقافية والفكرية داخليا وخارجيا. فقد برزت فيها الفلسفة الوجودية التي فتنت الشبيبة الأوروبية والعالمية الراغبة في نسيان فواجع الحرب. وحول جان بول سارتر مجلته الشهيرة "الأزمنة الحديثة"، إلى منبر لمناقشة القضايا الكبرى المتصلة بالإنسان والعالم، سواء كانت سياسية أم إيديولوجية أم ثقافية أم غير ذلك.
ومتنقلا بيسر بين الفلسفة والأدب، وبين المسرح والرواية، وبين القصة القصيرة والمقال الفكري، استطاع البير كامو أن يفرض نفسه كأديب مرموق، وكمفكر كبير، يحب التأمل والتعمق في قضايا العصر الحديث، وفي الستينات من القرن الماضي، برزت موجة "الرواية الجديدة" التي حاول أصحابها من أمثال آلان روب غرييه وناتالي ساروت ابتكار أساليب جديدة في الكتابة الروائية.
وفي مجال النقد، بلور رولان بارت مفاهيم ورؤى جديدة أعادت للنقد الأدبي سلطته وجماله الفني. وأما في مجال الفلسفة، فقد ابتعد ميشال فوكو عن الطرق والأساليب السائدة ليبحث في الهوامش وفي التواريخ المنسية عن ما يمكن أن يتيح له تأسيس فلسفة مغايرة للفلسفات التي سبقته. وهذا ما فعله في كتبه التي أصبحت تتمتع بشهرة واسعة مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، و"المراقبة والعقاب" و"اركيلوجيا المعرفة" و"تاريخ الجنس" وغيرها.
انطلاقا من الثمانينات من القرن الماضي، وبعد رحيل العمالقة الواحد بعد الآخر من أمثال سارتر ورايمون آرون وسيمون دوبوفوار ورينيه شار وميشال فوكو وجان جينيه ورولان بارت، بدأت الثقافة الفرنسية تشهد انحسارا لم يسبق له مثيل على مدى الأربعة قرون السابقة. فعلى المستوى الفلسفي والفكري، حاول من أطلق عليهم اسم "الفلاسفة الجدد" من أمثال برنار هنري ليفي "BHL" واندريه غلوكسمان ملء الفراغ الهائل الذي خلفه كل من سارتر وكامو ورايمون آرون وليفينانس، غير أنهم ظلوا على السطح، وباتوا يكررون اليوم ما كانوا قد قالوه بالأمس.
ولأنهم عجزوا عن ابتكار فلسفة جديدة تعكس القضايا الكبيرة والساخنة التي طبعت وتطبع عصرهم، فإنهم تحولوا إلى "مهرّجين" لا يثبت لهم قرار. فمرة هم ينصبون أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان في هذا البلد أو ذاك.
ومرة يثيرون جدلا ساخنا حول قضية العنف في ضواحي باريس، والمدن الكبيرة الأخرى غير أنهم ينتهون من ذلك الجدل من دون أن يفلحوا في تقديم أفكار وحلول بشأن هذه القضية. بل قد يخرجون منه وهم متخاصمون، متنازعون، متباغضون.
لذلك كان الفيلسوف والروائي باسكال بروكنير "PASCAL BRUCKNER" على حق عندما كتب يقول: "إن يوطوبيا جمهورية الآداب الهادئة حيث المجادلات تدور في جو ودي موسوم بالاحترام المتبادل لا بد من نسيانها. فليس حب الحكمة هو الذي يحرك المتجادلين وإنما الانفعالات والأهواء الأشد حدة، والأكثر سفالة".
وفي مجال الرواية، نحن لا نقرأ ما يمكن أن يحدث لنا تلك الرجة العنيفة والبديعة التي أحدثتها فينا أعمال سابقة مثل أعمال مارسيل بروست وسيلين وكامو ومالرووجان جينيه وجيد وسارتر ومارغريت دوراس وكوليت وجان جيونو وآخرين كثيرين. وقد سعى البعض من أمثال ميشال هوالباك إلى إحداث الرجة المبتغاة، غير أنهم لم يفلحوا في ذلك إلا بقدر ضئيل. وربما لهذا السبب، أصبحت فرنسا تولي عناية كبيرة للأدباء القادمين من مستعمراتها القديمة، والذين يكتبون بلغتها. فهم أملها في تغذية خيالها وإبداعاتها الروائية بنسغ جديد.
ولا يختلف الشعر عن الرواية. ونادرة هي الدواوين التي تذكرنا بكبار الشعراء الذين عرفتهم فرنسا خلال القرن العشرين من أمثال أبولينير وسان جان بارس وبول كلوديل وايلوار واراغون وجاك بريفير وفرانسيس يونج وآخرين... من هنا يمكن الحديث عن انحسار الثقافة الفرنسية.
والذي يؤكد ذلك ليس الصحافي البريطاني المرموق الذي تحدثنا عنه في البداية، وإنما الصحافي والكاتب الفرنسي المعروف جاك جوليار الذي كتب في الأسبوعية المشهورة "لونوفال اوبسارفتور" "ماي 2010" يقول: "الفكرة التي أصبحت راسخة في كل الأذهان، بقطع النظر عن الأوساط الاجتماعية، هي أن المثقفين لم يعودوا على الصورة التي كانوا عليها من قبل. بل يمكن أن نتساءل إذا ما كان هناك الآن مثقفون بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن السلالة المجيدة التي تمتد من فولتير إلى سارتر مرورا بهوغو وزولا اضمحلت ونضبت ينابيعها".
حسونة المصباحي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد