هويـــات متخيلـــة هويـــات مقموعـــة
قرأتُ أخيراً مقالة للراحل إدوارد سعيد لافتة للنظر نشرها في مجلة «تساؤل نقدي» (جامعة شيكاغو) في شتاء عام 2000 تحت عنوان «اختلاق وذاكرة ومكان». يشير فيها إلى الاهتمام الناشئ في تسعينيات القرن العشرين بمجالين من مجالات العلوم الإنسانية، مجال الذاكرة والجغرافيا، أو بتحديد اكثر حسب تعبيره، دراسة الفضاء الإنساني. وتفرع موضوع الذاكرة ليشمل أشكالا من الكتابة مثل المذكرات الشخصية، ومعنى الذاكرة الجماعية. وظهرت تحليلات أكاديمية الطابع بارزة لدور الاختلاق في قضايا مثل الموروث والجغرافيا والتجربة التاريخية الجماعية.
إلا أن موضع اهتمام الراحل إدوارد سعيد في هذه الموجة من الدراسات كان ذا خاصية معينة، وهي كيف تمتطي الذاكرة والجغرافيا على حد سواء رغبةُ الغزو والهيمنة. أي كيف تُختلق جغرافيا وذاكرة للمكان لتلبية حاجات الغزو والسيطرة. ويحيلنا هنا على كتابيه «الاستشراق» و«الإمبريالية والثقافة»، فهما لا يقومان فقط على ما دعاه «الجغرافيا المتخيلة» (اختراع وإنشاء فضاء جغرافي يدعى الشرق، مع اهتمام ضئيل بالجغرافيا الواقعية وسكانها)، بل يقومان أيضا على رسم خرائط وغزو وضم أراض في ما أطلق عليه الروائي «جوزيف كونراد» الأماكن المظلمة على وجه الأرض، والأكثر ازدحاماً بالسكان مثل الهند وفلسطين.
هنا تتبادر فلسطين عام 1948 إلى ذهنه كمثل من أمثلة القرن العشرين على التفاعل بين الاختلاق والجغرافيا والذاكرة. ويعني بذلك اختراع الصهيونية لرواية «الاستقلال» من جانب، واغتيال الذاكرة الفلسطينية من جانب آخر. إلا أنه يسقط هنا سقطة غريبة، وهو ما لفت نظري إلى هذه المقالة، خصوصاً أنه، رغم تذكيرنا بكتابيه الآنفي الذكر، يضع الروايتين، الصهيونية والفلسطينية، في كفتين متوازيتين، ويرى أن «فلسطين تمثل نزاعاً ثرياً ومكثفاً بين ذاكرتين على الأقل، بين نوعين من اختراع تاريخي، بين نوعين من المخيلة الجغرافية»! بل ويعبر عن صدمته مرتين، الأولى أمام «انعدام التصالح الجذري الكامن في أصل ما سماه النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي»، والثانية أمام «رفض القصة الرسمية الاسرائيلية أن تأخذ في اعتبارهــا المشــاركة في الجريمة والمسؤولية عن انتــزاع املاك الفلسطينيين»!
صناعة ذاكرة
في ذهن إدوارد سعيد وهو يتحدث عن اختراع جغرافيا وذاكرة سلسلة من الكتب الغربية، وأحاديث عن خلق الأساطير السياسية (ليونارد توميسن) أو الجماعات المتخيلة (بنيدكيت أندرسون)، أو الجغرافيا وأثرها في إثارة الذاكرة والأحلام والاخيولات الجامحة ( سيمون سكاما). بعض هذه الكتب يشير إليها بالإسم، وبعضها يقع في خلفية تفكيره، وما يجمعها هو التأكيد أن الهويات، مهما كان نوعها، إنما هي صناعة ذاكرة تتفاعل مع جغرافيا وحاجات جماعة اجتماعية، أي أنها في حقيقتها صناعة أساطير. إلا ان إدوارد سعيد ينسى كما يبدو أنه في كتابيه المذكورين لم يترك مجالا للشك في الطرف الذي يصنع الأساطير، سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو بملكية الأرض أو الدور الحضاري، ويكاد يقف على الأرضية نفسها التي يشيعها أمثال هؤلاء الكتاب الذين رددوا في أحد ردودهم عليه، أن الغرب ليس وحده من يصنع الأساطير، بل والشرق أيضاً. أي أنه إذا كان ثمة مأخذ على أسطورة الصهيونية الشائعة في ذلك العالم، أسطورة الأرض التي تنتظر الغائبين، وعودة هؤلاء وتحريــر»أرضهــم» من الغزاة، فيجب أن يكون هو ذاتــه المأخذ على أساطير الوجود العربــي أو الفلســطيني منه، فكلا الذاكرتـين إنشــاء واختلاق فضاء.
بالطبع هو لايغفل حقيقة أن أعظم معارك الفلسطينيين تخاض كشعب له الحق في حضور متذكر، ومع هذا الحضور الحق في امتلاك وإعادة امتلاك واقع تاريخي جماعي، فقد شعرت كل دولة مستقلة ظهرت بعد تفكيك الامبراطوريات بعد الحرب الثانية، بضرورة رواية تاريخها الخاص حراً من التحيز وإساءة تفسير تاريخها. ولكن الأمر المحزن أن هذا «لم يحدث بالنسبة إلى الفلسطينيين، ليس لأن الاستقلال لم يتحقق فقط، بل لأن هناك فهماً ضئيلا لأهمية إنشاء تاريخ جماعي كجزء من محاولة نيل الاستقلال.. وهكذا فإن إعادة كتابة تاريخ فلسطين على يد خصم هائل الامكانيات مثل الحركة الصهيونية كانت له نتائج كارثية». وهنا أيضا نجد لديه عودة إلى مسألة الإنشاء الذي يتساوى فيه الخصمان. فهل كان على الفلسطينيين إذن منافسة الصهيونية في إنشاء واختلاق تاريخ وهوية ووجود جماعي؟
إحساس إدوارد سعيد بالنتائج الكارثية التي نجمت عن تمكن الصهيونية من اختلاق تاريخ لفلسطين ملائم لمشروعها، ينبع أساسا من تلمسه لآثار نجاح هذا الاختلاق والإنشاء ليس بين اليهود فقط، بل وفي مختلف أرجاء العالم الغربي، وفي بعض أجزاء الشرق أيضاً.
الأسطورة التوراتية
الأسباب التي يقدمها إدوارد سعيد لنجاح الاختلاق والإنشاء الصهيونيين مقنعة إلى حد كبير، «فهناك جاذبية وسلطة الرواية الصهيونية وفكرتها القائمة على قراءة خاصة للتوراة في عالم الغرب، وهناك عدم قدرة الفلسطينيين الجماعية كشعب على إنتاج قصة مقنعة ذات بداية ووسط ونهاية أمام الغربي، وظلوا مبعثرين سياسياً، ضحايا للصهيونية غير فاعلين، وهي تواصل الاستيلاء على المزيد والمزيد من الأرض والتاريخ.. لقد كنا غير منظمين دائماً، اهتم قادتنا بالحفاظ على سلطتهم، ورفضت غالبية مثقفينا إلزام نفسها بالعمل كفريق من أجل هدف مشترك، يضاف إلى ذلك أننا غالباً ما غيّرنا أهدافنا».
ولكن مرة أخرى، ومع صحة ما يذهب إليه من تعليل فشل مواجهة الرواية الصهيونية على الصعيد الغربي، يبدو لنا أن إيجاد تعادل بين كلا الذاكرتين، الفلسطينية والصهيونية، لا يقبض على جوهر الصراع القائم، ليس بين ذاكرتين بل بين مشروع استعماري جند بين ما جند قوة الأسطورة التوراتية ورسوخها في الذهنية الغربية، وبين شعب تعرض للإبادة سواء كانت له ذاكرة جماعية أو لم تكن.
ما تغفله أطروحة أن كل هوية قومية أو اجتماعية إنما هي صناعة ثقافية، وأن الأمم جماعات متخيلة كما يذهب أندرسون على سبيل المثال، تستهدف طمس الفرق الذي اجتهد إدوارد سعيد نفسه لإقامته بين «هويات» يختلقها المستعمرون لأنفسهم، وبين واقع الشعب الذي يتعرض للمحو والتجاهل، وهو ما جعل أمراً مثل نجاح اختلاق «شعب إسرائيل» في الخطاب الغربي مفهوما لدينا، وإن تنكره بالتالي للاعتراف بأن جريمة حدثت، لن يكون أمراً صادماً. نحن نفهم مسألة اختلاق الهويات، ولكن جعل مثل هذا الاختلاق قانونا عاما يسري على كل الهويات الوطنية والقومية والجغرافيات يجب ألا يخدعنا مرماه النهائي في تجريد الضحية من هويتها المقاومة والزعم بأنها هوية مختلقة شأنها في ذلك شأن أي هوية.
الباحث الاسكوتلندي «كيث وايتلام»، لا يشك أبداً في أنه كان هناك هجوم متواصل ومدبر على التاريخ وهيمنة من ثم على الذاكرة الشائعة حول فلسطين، وهو ما يلتفت إليه إدوارد سعيد في آخر مقالته، فيلخص أطروحة وايتلام في نقطتين، الأولى سياسة الذاكرة الجماعية وخلق الباحثين الصهاينة لصورة جغرافيا لفلسطين القديمة صاغتها الحاجات الأيديولوجية. ولكن هل يجعل الفعل الصهيوني باختلاق ذاكرة جماعية تعيد إنشاء أحداث من الماضي وحشوها بمعنى سياسي، من الضروري أن يختلق كل شعب ويعيد إنشاء ذاكرة؟ لاأعتقد أن من يمتلك ذاكرة غير مختلقة بحاجة إلى هذا النهج، وإن كان بحاجة إلى نهج آخر، هو إعطاء الخطاب الغربي والصهيوني اهتماما، وعدم اعتبار أن ما نراه هو ذاته ما يراه الآخر.
في هذه النقطة، وفي لفتة تبدو كأنها خروج من إدوارد سعيد على سقطته الأولى في وضع الذاكرتين، ذاكرة المستعمرين وذاكرة ضحاياهم في كفة واحدة، يعترف بصحة نقد وايتلام لجهده الفكري حول الكفاح المعاصر من أجل فلسطين، وقوله في نقده «إنه (أي سعيد) لم يمنح اهتماما كافياً لخطاب الدراسات التوراتية، مع أن هذا الخطاب كان بالفعل جزءاً من الاستشراق الذي تخيل فيه الأوروبيون ومثلوا الشرق الخالد كما يودون رؤيته، وليس كما كان، أو كما يعتقد أصحابه الأصليون»، ويصادق إدوارد سعيد كأي باحث نزيه على قول وايتلام الذي انتقد في الحقيقة نقصا خطيرا في كتاب الاستشراق «إن هذا الخطاب التوراتي أقصى الغالبية العظمى من سكان المنطقة»، وإنه كان أيضاً «خطاب سلطة انتزعت من الفلسطينيين أرضهم وماضيهم».
محمد الأسعد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد