فواز حداد: الرواية العربية تتجه نحو العالمية
هذا حوار مع روائي استثنائي، له من العمر الروائي مايربو على العقدين. فواز حداد، خبر الدرب الروائي منذ المراهقة، لكنه أحجم عن النشر وانتظر النضوج، وعندما امسك بالقلم، اتتنا رواياته تترى بحرفية وصنعة تدعو للإعجاب، عالم روائي يشدك، روايات تقرأها فتقرأك، تحاول تفكيكها فاذا هي من يفكَكك، تنتمي لصنف تلك الروايات التي لا تمر على العقل بسلام ثم تذهب.
• لكل كاتب قراءات شكلت معجمه الروائي، فواز حداد، صاحب دفق شعري، وتركيب الجمل عنده مبتكر دائماً. ما هي قراءات فواز حداد؟ وأبرز من تأثر فيها؟
ــــ من المستحيل حصر القراءات التي شكلت معجمي الروائي والفكري، إنها أكثر من أن تحصى، لاسيما أن الروائي يستفيد من كل ما يصادفه في الحياة، أحياناً دون تمييز سواء كان جيداً أو رديئاً، أي بلا انتقائية... أشبه بتجارب الحياة تفرض علينا فرضاً، فيما بعد تظهر آثارها في معمعمة الكتابة، هناك يجري الاختزال والتمحيص والتبصر والاستبعاد والاصطفاء... شيء غير محدد بالدقة، الكاتب أول من يجهل آلياته، وكأن هناك مفرمة في داخلنا، تفرم الأضداد وتحيلها إلى شيء آخر. كل هذا يضيف إلينا أكثر مما نتوقع. لا شيء يضيع هباء، الكتب حتى السيئ منها، يعطينا درساً في الركاكة.
الكتب التي تشكل خطراً هي التي يبلغ بها التلفيق إقناعنا من خلال جعجعة الإعلام والكلام المنمق، الغامض وغير المفهوم، بأنها تخفي شيئاً، لكن كالمعتاد، لا تحمل سوى الخواء والأكاذيب. هذه الأخطاء الفاحشة ناجمة عن الصحافة الثقافية، والتي تبدو وكأن لا مهمة لها سوى ترويج الضحالة.
لقد اعترفت مراراً بأنني تأثرت بالكثيرين، ومديونيتي على الأخص لنجيب محفوظ لا أنكرها، كان بالنسبة إلي عدة مدارس مجتمعة. قرأته وتعلمت منه واستفدت. كان مشواره الأكثر رسوخاً من غيره. ولهذا أعجبت به.وإذا كنت قد تأثرت بالكثيرين غيره، فمن عوالم مختلفة: دستوفسكي وتشيخوف، أندريتش وجراهام جرين، بلزاك وستاندال، فلوبير وفيلدنغ.... إنهم كثيرون جداً، منحوني متعة، كانت في بعض الأحيان متعة الحياة الوحيدة.
• إلى أين تتجه الرواية العربية؟ ومن يلفت نظرك من الكتاب وتحرص على متابعتهم؟
ــــ تتجه الرواية العربية اليوم نحو العالمية، ومن حسن الحظ أنها لا تسير على خط واحد، هناك تنوع كبير، ومن الخطأ اختصار هذا التنوع إلى أنموذج مثالي، ليس في عالم الرواية، الأفضل والأحسن، هناك تجارب عديدة، ولا يحكم على التجربة من خارجها وإنما من داخلها، ولا تقارن تجربة بأخرى، لكل واحدة منها خصوصيتها، ومقدار ما تشكله في المنظور الإنساني من إضافة مهما كانت ضئيلة. هناك شوط بدأت الرواية العربية في ارتياده وهو اختبارها الحقيقي، يتبدى في اختراقها أعماق الوضع الإنساني العربي، من جوانبه المتعددة المغفلة والمسكوت عنها، بقدر أكبر من الواقعية من دون التنازل عن ذلك الخيال الذي يقتحم المناطق الوعرة، أما الجماليات فتأتي من توافق الفكرة مع الشكل. هذا محكها الحقيقي. إن مقتل روايتنا هو السطحية، وافتقارها إلى الخيال، ولهذا تعكس مؤثرات لا تعنى إلا بالنقل والتقليد.
اعتني بمتابعة الكثيرين من الكتاب العرب، المؤسف أن أغلبهم يفتقرون إلى متابعة غيرهم في الأقطار العربية الأخرى، يكتفون بأنفسهم، ولا يعرفون ما يدور خارج حدود مدينتهم أو شللهم، وكأن الرواية تبدأ وتنتهي بهم. ولا أستثني الكثير من الكتاب المعروفين والجدد.
• هل تحدد الشكل الروائي وبنيته، للرواية، قبل كتابتها؟
ــــ لا، مستحيل. العملية معقدة جداً، وبالنسبة لي لا يمكن امساكها، مجرد شيء غائم، أما كيف تمضي هذه العملية من رواية لأخرى، فلكل رواية بنيتها الخاصة من هذه الناحية. أحياناً يخطر لي الشكل منذ البدء، لكنه لا يحافظ على عمارته مع المضي في الكتابة، خلالها يكتسي تعديلات أو شكلاً آخر تماماً. وأحياناً أكتب دونما دليل، في لحظة ما أحس أنني بحاجة إلى اتخاذ خطة طريق مؤقتة، طبعاً أكون قد قطعت شوطاً من دون أن أدري وجهتي. عموماً لا يمكن تحديد الشكل إلا بعد فترة من التخبط. يجب أن نعرف أن الشكل هو حصيلة تفاعل الروائي مع الفكرة والحدث والشخصيات. بمعنى ما الكتابة رحلة اكتشاف، وأنت تكتشف من جملة ما تكتشف: الشكل، أي المعمار الحامل لروايتك. وكلما اكتشفته بشكل مبكر تصبح عملية الكتابة أسهل، وهذا بالنسبة إليَّ شبه نادر، ربما في المسودة الثالثة أو الرابعة أشعر أنني أمسكت بروايتي.
• يتذمر البعض من الحجم الكبير للروايات التي كتبتها، ويضعها عائقا يصده عن القراءة، ما رأيك؟
ــــ يبدو من فرط الاتجاه نحو الروايات ذات الأحجام الصغيرة، تبدو رواياتي كبيرة مع أنها من الحجم المتوسط.
بصرف النظر عن الحجم؛ الرواية الجيدة لا تتقيد بعدد الصفحات. هناك روايات أقل من مائة صفحة، تعلمنا ما لا تعلمه لنا آلاف الصفحات. الامتياز في مقدرة الكاتب على أن يجذبنا إلى عالم، سواء يهمنا أو لا يهمنا، يضطرنا دون إجبار إلى عقد صلة معه، يجعلنا نلهث من صفحة لأخرى، ليس بسبب التشويق، وإنما لأنه خاطب فينا شيئاً، بات يهمنا معرفته، وأصبحنا نرغب في متابعته.
اليوم في أميركا، تتجاوز بعض الروايات الألف صفحة، وتغري القارئ بقراءتها على الرغم من جاذبية السينما والتلفزيون.
• تكتب دمشق ونواحيها بعين ابن دمشق لا بعين السائح، ما رأيك بالنظرة الفولكلورية الروائية لدمشق أو العواصم الأخرى عند الروائيين؟ وكيف ترى الكتابة عن الجنسيات العربية، والبلدان العربية. بنمطية باتت متكررة وممجوجة؟
ــــ الأمر ليس أن نكتب عن مدينتنا، هذا أمر طبيعي، وإنما أن ننظر إلى المكان كبيئة مكونة لشخصيتنا وحياتنا وماضينا ومستقبلنا، إنها المكان الذي تنعكس على صفحاته طفولتنا وشبابنا، المكان الذي نشعر بالحنين إليه. علاقة الإنسان بالمكان معقدة، المنفى ليس منفى إلا لأنه يبعدنا عن بلدنا.
أرفض الكتابة عن المدينة بأسلوب سياحي أو تجميلي أو دعائي. أكتب عنها كما هي متبدلة متحولة في الواقع، أي كما هي غير مستقرة. إن صلتي بمدينتي تجعلني افهم المدن الأخرى وأستطيع الكتابة عنها أحياناً حتى لو لم أزرها.
• الجوائز العربية، وأنت الذي اقتربت من قطف أبرزها، وضحت رأيك فيها بمقالة نشرتها، ليتك تحدثنا عن التجربة وما سلبياتها وإيجابياتها؟
ــــ من المبكر قليلاً الحديث بشكل شامل عن الجوائز العربية، أغلبها ما زال في حالة اختبار، وهذا يعني أنه لا بد من مرور زمن حتى تثبت هذه الجوائز مصداقيتها، وتقيدها بالأهداف التي وُضعت لها. الجوائز عادة تسد فراغاً، سواء من ناحية الاعتراف بالجهد المبذول أو التشجيع على العمل الجيد، وإذا لم تحقق ما كان ظهورها من أجله، فستصبح تتويجاً للفساد، وتشكل عبئاً مريباً على حياتنا الثقافية.
• منذ سنة 1990، انهدم حائط الوهم في أذهان الكثيرين، وصار حديث القومية حديث فكاهة، وأنت من جيل القومية، ماذا مثّل لك كروائي احتلال قطر عربي لآخر وانجراف الشارع مع المحتل؟
ــــ الحائط الذي انهدم كان حائط الأكاذيب الذي ركب عليه دعاة القومية الفاسدون. إذا كنا ننكر القومية فنحن ننكر عروبتنا، ما حدث ذهب البشر ضحيته، إذ ألصقت بدعاوى الوحدة جميع الخسائر التي ارتكبها أناس قصدوا من ورائها التسلط.
هل بوسعنا ألا نكون عرباً؟! مستحيل. وإذا كان الشارع قد انجرف فلأنه أصيب بأكثر من خيبة فتعلق بالأوهام.
ما حدث في عام 1990 صحح الكثير من المقولات وأعاد الرشد إلى مسيرة القومية العربية، ننهض نحن العرب معاً أو نسقط معاً، الحقيقة لا تعني أن نتشاءم، بل بالعكس أن نتفاءل.
• هناك نقد لكتابات فواز حداد بأنها مقالية، ذات لغة مباشرة، في حين وجود اتجاه عالمي في الرواية نحو الترميز؟
ــــ اتخاذ شكل المقالة في بعض فصول رواياتي تطلبته الأفكار المطروحة والأسلوبية المتحررة التي انتهجتها، في فن الرواية هناك قواعد وأصول... هذه كلها غير نهائية، ولا شيء يمنع اختراقها والعبث بها. لابد أحياناً من بعض الانحيازات، التي نظن أنها مضادة للرواية، كما تُفهم اليوم. لكن ماذا عن الغد؟ .
• هناك مشروع واضح لدى فواز حداد، نقل وتوثيق مراحل تاريخية سورية، وهذا ملاحظ. هل هذا المشروع جاء عن وعي مسبق؟ وهل خروجك من سوريا إلى العراق في «جنود الله»، تأدية واجب أم هو تدشين لمرحله جديدة في رواية وسرد فواز حداد؟
ــــ أعتقد أن مشروعي آخذ بالوضوح، وهو رغبتي في كتابة العصر الذي أعيش فيه، من منظار عربي وإن كان سورياً، عصر حافل بالحياة كما بالموت، بمحاولات النهوض، وعلامات الانكسار والنكبات. عصر كان بالرغم من كل ما يمكن أن يقال فيه، فريد وقاس ورائع، لا يجوز المرور فيه من دون التعليق عليه. لا أقول انني أريد أن أترك عليه بصمتي، أريد أن أقرأ بصمة هذا العصر، ما الذي يميزه عن غيره، أو يجمعه مع غيره.
أما خروجي إلى العراق فكان من هذا الباب، احتلال العراق كان فاصلة فارقة أخرى في حياة المنطقة والعالم، وكان مواجهة بين الغرب والشرق حسب آخر طبعة، وكانت في منتهى الجنون والحماقة، وكأننا معاً لم نتعلم شيئاً من التاريخ.
بالمناسبة لم تكن هذه هي المرة الأولى التي امتد فيها الحدث الروائي في كتبي إلى خارج سوريا.
لماذا.. لمن؟
ليس بوسعي أن أجزم، لا أعرف لماذا أكتب، ومع هذا أحس أن الكتابة هي قدري...الخ. سأختصر، أشعر أنني أعيش عندما أكتب، لأنني أختزن في داخلي عالماً من فرط اتساعه يغريني بأن أدخل إليه وفي العمق، ولا سبيل إليه إلا بكتابته، كل مرة كما يتراءى لي.
أما لمن أكتب، فربما أكتب لنفسي، أعتقد أن الكتابة هي محاولة للفهم، ومثلما تساعدني قد تساعد الآخرين.
• الترجمة، وأنت من كتبت المترجم الخائن، كيف ترى الترجمات الأجنبية للرواية العربية والأدب العربي عموماً، هل هي دليل نجاح في كسر المحلية، أم هي ترف فكري، وسبيل للتبجح في وسائل الإعلام؟ وهل يقرأ الأجنبي الرواية العربية برأيك؟
ــــ تفيد الترجمة في التواصل والتعارف بين البشر، هذا لم يتحقق إلا من طرف واحد، ترجمنا لأدباء الغرب، لكن الغرب لم يهتم كثيراً بترجمة الكتب العربية، أبقاها محصورة في الجهود الأكاديمية. مؤخراً تنبه الغرب إلى ضرورة الترجمة وبشكل واسع من العربية، غير أن هناك أخطاء مشتركة ارتكبت، الغرب أراد ترجمة ما يرضيه، ومن طرفنا أخذ البعض يكتب خصيصاً لهذا الغرض. لم تعد الترجمة دليلاً على النجاح، باتت دليلاً على العلاقات الجيدة مع منابر غربية، هي أيضاً تبحث عن الطريف والشائن في حياتنا، استغل من طرفنا في التبجح بترجمة نتاجنا إلى اللغات الأوربية، لكن المردود كان هزيلاً، وما أعتقده أن هناك مراجعة لهذا الاتجاه، إذا نجح، فسوف تكون أمام الغرب فرصة للتعرف إلينا أكثر جدوى.
عبد الوهاب الحمادي
جريدة القبس الكويتية 19 أيلول 2010
إضافة تعليق جديد