ديموقراطية الفقراء في مواجهة ديموقراطية الأغنياء
نشهد في هذه المقالة صراع الفلاسفة المعاصرين حول ماهية النظام السياسي والاقتصادي الأفضل. النظريات تختلف وتتنافس ضمن فلسفة السياسة فنرصد الديموقراطيات المتنوعة واقتتال اليمين واليسار إلى أن نصل إلى مناقشة إمكانية نشوء السوبر ليبرالية. الفلسفة أساس كل فكر وسلوك ومجتمع؛ فمع اختلاف فلسفتنا تختلف مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية والاقتصادية. هنا تكمن أهمية الفلسفة السياسية والاقتصادية. الشعوب التي من دون فلسفة، شعوب تائهة كشعوبنا بالضبط، رفضها للفلسفة والعلم رفض للحضارة.
رولز يواجه نوزك
للديموقراطية مبادئ عدة تعرّفها منها: ضمان الحريات كحرية التصرف والتعبير والتفكير وحرية اختيار الفرد لعمله وحرية التملك إلخ، والفصل ما بين العام والخاص، بحيث العام يُسأل الفرد عنه كعقود الفرد مع الآخر، بينما الخاص لا يُسأل الفرد عنه كاعتقاده الديني أو إلحاده أو اعتقاده السياسي، والفصل ما بين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية للحدّ من تفرد بالسلطة والاستبداد بها. ومن مبادئ الديموقراطية أيضاً محدودية وقصر المدة الزمنية لحكم الرئيس والحكومة، وانتخاب الشعب لرئيس البلاد وحكومته بشكل أو بآخر، واستبدال الرئيس بآخر بحيث لا يجوز أن يبقى في الحكم لمدة طويلة تماماً كما لا يجوز ذلك للحكومة، ما يحدّ من إمكانية استبداد الحاكم أو استغلاله لمنصبه إلخ. لكن رغم هذه المبادئ المتفق عليها تتنوع الديموقراطية وتنقسم إلى ديموقراطيات مختلفة، منها ديموقراطية الفقراء وديموقراطية الأغنياء.
يحاول الفيلسوف جون رولز أن يوحّد بين الحرية والمساواة، فيقدّم نظريته على أنها العدالة كإنصاف. يدعونا رولز إلى أن نتصوّر أنفسنا خلف حجاب يحجب عنا كل ما نعرف عن أنفسنا والآخرين، فلا نعرف مثلاً إذا كنا فقراء أم أغنياء. والمطلوب منا أن نختار المبادئ التي تحكمنا وتشكل مصائرنا. في هذا الاختبار النظري يبدو أن كل فرد منا سوف يختار أولاً مبدأ الحريات الأساسية كحرية المعتقد والتعبير والتصرف، لأننا طبعاً لا نرغب في أن نكون عبيداً للآخرين. ومن ثم سنختار ثانياً مبدأ المساواة في الفرص وأن تكون اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية مبررة فقط في حال أنها موجهة نحو إفادة الأقل حظاً من بيننا كالفقراء. هكذا هذه الديموقراطية هي ديموقراطية الفقراء. فمثلاً، بالنسبة إلى رولز، لا بد من بناء المؤسسات بحيث يستفيد منها الفقراء والضعفاء في المجتمع. وسوف نختار هذا المبدأ الثاني لأننا لا نعلم في الاختبار النظري السابق ما هو وضعنا في المجتمع فلا نعرف ما إذا كنا أغنياء أم فقراء، وبذلك لا بد من أننا سنوافق على المبدأ الثاني الذي يفيد الفقراء والضعفاء، لأنه من الممكن أن نكون من بينهم. يضيف رولز: بما أننا نوافق على هذين المبدأين، إذن هما مقبولان من أجل تشكيل ديموقراطيتنا المنشودة. ومن ثم يؤكد رولز أسبقية المبدأ الأول (أي مبدأ الحريات) وأولوية تحققه لأننا نختاره أولاً (John Rawls: A Theory of Justice. Revised Edition 1999.) Belknap Press of Harvard University Press).
لكن كما تشير الآداب الفلسفية نظرية رولز تعاني من مشكلة تواجه معظم النظريات الاشتراكية أو شبه الاشتراكية ألا وهي المشكلة التالية: إذا كانت المؤسسات لا بد أن تبنَى بحيث يستفيد منها الفقراء والأقل حظا في المجتمع، فهذا يتضمن خرق حرية تصرف الأغنياء بما يملكون. فمؤسسات الأغنياء لا بد أن تتوجه لخدمة طبقة الفقراء والأتعس حظاً، وبذلك يتم تقييد حرية تصرف أصحاب المؤسسات في ما يملكون. فقد يرغبون في خدمة طبقات أخرى كالطبقة الوسطى أو طبقتهم بالذات، وقد يرغبون في خدمة العلوم المجردة التي لا نستفيد منها اليوم عملياً كتطوير الأبحاث في نظرية الأوتار العلمية أو الرياضيات المجردة. هكذا تخرق نظرية رولز حقاً أساسياً ألا وهو حرية تصرف الفرد بما يملك.
أما الفيلسوف روبرت نوزك فيقدِّم ديموقراطية معارضة لديموقراطية جون رولز، من الممكن تسميتها بديموقراطية الأغنياء. فبينما ديموقراطية رولز يستفيد منها الأفقر والأقل حظاً وبذلك هي ديموقراطية الفقراء، ديموقراطية نوزك يستفيد منها الأغنى والأكثر حظاً، لذا هي ديموقراطية الأغنياء. يضع روبرت نوزك مبادئ للعدالة كمبدأ اكتساب الأشياء ومبدأ تبادلها. وتفصيل هذه المبادئ هو التالي: لكل فرد الحق في امتلاك ما يصنع ويفعل كما لديه الحق في امتلاك الأشياء التي يحسّـنها أو يجعلها صالحة ولم تكن ملك أحد من قبله. ولكل فرد حق في أن يعطي للآخرين ما يملك أو بعضاً مما يملك؛ فلكل إنسان حرية اختيار ما يفعل بما يملك. كما لكل شخص حق مطلق في أن يكون حراً من تسلط الآخرين أو الدولة، وحق مطلق في أن يكتسب الأشياء ويمتلكها أو يقدمها لآخرين شرط أن لا يخرق حقوق الآخر. هذا لأن لكل شخص حقاً فيما يملك من مواهب وقدرات، وبذلك له حق في امتلاك ما يفعل ويصنع ويكتسب أو يشتري بمجهوده أكان ذلك من خلال مساعدة الآخرين له أو من خلال الصدفة أو الحظ. على هذا الأساس، يشرِّع نوزك الميراث؛ فلكل فرد حق في أن يورِّث ما يشاء من ملكه لمن يشاء (Robert Nozick: Anarchy, State , and Utopia. 1974. Basic Books).
يضيف نوزك أن أي توزيع للثروة في المجتمع هو توزيع عادل فقط، في حال لهذا التوزيع تاريخ مقبول بحيث يحدث هذا التوزيع للثروة على ضوء حقوق أو قوانين الاكتساب والتبادل المذكورة سابقاً. من هنا، من الخطأ إعادة توزيع الثروة وإلا يتم خرق حقوق الأفراد. بالنسبة إلى نوزك، توزيع الثروة في المجتمع الحر يتم ويجب أن يتم من خلال التبادل الحر بين الأفراد لما يملكون. وبذلك إذا كانت الثروة غير موزّعة بالتساوي بين الأفراد فهذا لا يدلّ على لا عدالة النظام السياسي والاجتماعي في حال مراعاة حقوق الأفراد في التملك والتصرف بحرية في ما يملكون. يؤكد نوزك موقفه قائلاً: من غير المقبول استخدام أي فرد من أجل تحقيق مصالح الآخرين؛ فلا يوجد مجتمع مجرد ومتعالٍ ومختلف عن أفراده كي نضحّي بهذا الفرد أو ذاك من أجله (المرجع السابق). لكن هذه الديموقراطية التي يدافع عنها روبرت نوزك تخرق حق الفقراء والأضعف حظاً في الاستفادة من مجتمعاتهم وفي العيش الكريم. هذا لأنها تقبل باللامساواة في توزيع الثروة وتدافع فقط عن حقوق التملك والاكتساب والتبادل، وبذلك يستفيد منها فقط الأغنياء والأكثر حظاً.
العدالة.. الواقعية والمثالية
ينتقد الفيلسوف مايكل ساندل فلسفة رولز بشدة. يقول إن الفرد متجذر في مجتمعه. فنحن نكتسب هويتنا من خلال مجتمعنا. وبذلك لا يوجد أفراد خارج المجتمع لأن صفاتهم وهوياتهم تتشكّل على ضوء تأثرهم بمجتمعهم وتفاعلهم معه. فالإنسان بنيان يبنيه الآخرون فلا يوجد من دونهم وبذلك يستحيل تخيله خالياً من تربيته وثقافته وانتماءاته الاجتماعية على نقيض مما يصوره رولز. من هنا، حسب ساندل، يخطئ رولز حين يدعونا إلى تخيل الأفراد خلف حجاب يحجب عنهم ذواتهم ومجتمعاتهم من أجل أن يقرروا ماهية النظام السياسي والاقتصادي الأفضل. دعوة رولز هذه مثالية وخيالية إلى أقصى حدّ لأنه من غير الممكن جعل الأفراد خالين من أنفسهم وجماعاتهم؛ فلا وجود لفرد خارج مجتمعه وثقافته. يضيف ساندل قائلاً: بما أن الفرد جزء لا يتجزأ من جماعته، إذن لا نستطيع معرفة واجباته الأخلاقية والسياسية سوى من خلال مفاهيم ومبادئ التماسك الاجتماعي والوفاء والانتماء الاجتماعي. على هذا الأساس، يعتبر ساندل أن النظام العادل هو المعني بتحقيق الفضائل الاجتماعية وازدهارها. من هذه الفضائل واجبات الفرد تجاه أسرته وجماعته ووطنه وأمته. لذا من غير الممكن للمجتمع العادل أن يكون حيادياً في الحكم على المسائل الأخلاقية، وعليه أن يحقق الحياة الجيدة والكريمة من خلال نشر الفضائل. كما على المجتمع أن يتفق على ما هي الحياة الجيدة والكريمة وما هي الفضائل التي يجب أن يتحلى بها ويهدف إلى تحقيقها. رغم ذلك يحدّد ساندل بعض الفضائل التي يحتاج إليها المجتمع العادل والخيّر منها: التضحية من أجل الخير العام (كالخدمة الإجبارية في الجيش) وتقليل اللامساواة في المجتمع، من خلال الضريبة الإجبارية مثلاً لإعادة بناء المؤسسات العامة. بالنسبة إلى ساندل، بما أن الفرد لا يوجد إلا ضمن مجتمع ولا تتحدد هويته إلا من قبل مجتمعه، إذن الحفاظ على حقوق الفرد وحرياته لا يتم سوى من خلال جعل النظام العادل ينمو على ضوء الفضائل الاجتماعية كفضائل العناية بالأسرة والجماعة وفضيلة الانتماء الاجتماعي والوطني بدلاً من أن يكون نظاماً متخيلاً من قبل هذا الفيلسوف أو ذاك (Michael Sandel:) Justice: What’s the Right Thing to Do? 2009. Farrar, Straus, and Giroux)
من منطلق الابتعاد عن المثالية والاقتراب من الواقعية أيضاً، يصر عالِم الرياضيات والاقتصاد الفيلسوف الحائز جائزة نوبل «أمارتيا سن» على أنه لا يوجد مبدأ عام على أساسه نستطيع أن نستنتج بحق العدالة التي لا بد أن تهدينا في سلوكياتنا. فتسليمنا بأننا نتمكن من مقارنة المجتمعات غير العادلة بمجتمع مثالي وكامل في عدالته تسليم خاطئ. لذا من غير الصواب التفكير في ما هي المؤسسات المثالية وكيف يجب أن نبنيها. هكذا ينفي «أمارتيا سن» أهمية إنشاء نظرية مثالية تعبّر عن فحوى العدالة ومحتوى النظام الأفضل. من هنا، يعتمد «سن» ويدعو إلى الاعتماد على منهج مقارن، وظيفته مقارنة المجتمعات بمجتمعات أخرى واقعية وممكنة بدلاً من مقارنتها بالمجتمع أو النظام المثالي. يقول إننا لا نحتاج إلى معرفة ما هو النظام السياسي والاجتماعي المثالي كي نعلم مثلاً أننا سنحيا بشكل أفضل إذا رفضنا العبودية وأزلناها. على هذا الأساس, ينتقد «سن» النظريات الفلسفية السياسية كنظريتي رولز ونوزك التي تحاول تعريف النظام السياسي والاقتصادي المثالي ووصفه. بالنسبة إليه، بدلاً من محاولة القيام بذلك علينا أن نكون واقعيين فنهتم بإزالة اللاعدالة القائمة في هذه الحالات الواقعية أو تلك. لذا يستغني «سن» عن صياغة نظرية فلسفية ترينا ما النظام الأفضل، وبدلاً من ذلك يؤكد أن محاولة تحقيق العدالة لا تكمن في بناء نظريات تصف المجتمع المثالي والمؤسسات المثالية التي لا بد من إنشائها. بل العدالة كامنة في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل من خلال تصحيح تجليات اللاعدالة في المجتمع Amartya Sen: the Idea of Justice. 2009.)
Harvard University Press).
معظم الفلاسفة يبحثون عن المبادئ والمؤسسات والعقود الاجتماعية الضرورية لوجود مجتمع مثالي في عدالته. لكن «سن» ينتقد هذا الاتجاه متهماً إياه بكونه مثالياً وخيالياً للغاية؛ فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيق المجتمع المثالي فعلاً. يضيف قائلاً إن المجتمع يتكوّن من أفراد حقيقيين غير قادرين على الاتفاق على مجموعة مبادئ ومؤسسات مثالية ونهائية. لذا البحث عن تلك المبادئ والمؤسسات المثالية بحث غير مجدٍ. كما أن هذا السعي إلى اكتشاف النظام المثالي يبعدنا عن معالجة اللاعدالة الحالية والواقعية في حياتنا كالاهتمام بحق النساء في التعلم في العالم النامي أو التصرف تجاه حلّ مشاكل البيئة والتغير المناخي. من هنا يستنتج «سن» أن العدالة لا بد من أن تكون تقارنية بحيث تدرس أنواع الحياة التي من الممكن واقعياً للناس أن تحياها. فمثلاً، القضاء على العبودية أو إعطاء النساء الحق في الانتخاب يسمح للناس أن يحيوا أحراراً على ضوء ما يقررون من دون خلق مجتمع مثالي في عدالته. باختصار، يرفض «سن» التفكير المتعالي حول ماهية العدالة المثالية والنظام الأفضل ويدعونا إلى التركيز على تطوير العدالة في المجتمعات الواقعية الحقيقية التي نحيا فيها، بدلاً من التفلسف حول المبادئ الأمثل والأفضل. فعندما يطالب البشر في كل أنحاء العالم أن تتحقق العدالة العالمية هم لا يطالبون بعالم مثالي في عدالته بل هم يرغبون في القضاء على بعض الاتفاقيات أو الحالات الاجتماعية والاقتصادية غير العادلة. هكذا يدعونا «سن» إلى الابتعاد عن المتخيل والاقتراب من الواقع (المرجع السابق).
لكن مشكلة هذا الموقف هي أننا نحتاج إلى نظرية حول ما هي العدالة والمبادئ الأمثل والأفضل كي ندرك ما إذا كانت هذه الحالة الواقعية أو تلك هي حالة غير عادلة كما نحتاج إلى نظرية في العدالة والنظام الأفضل كي نعلم من خلالها كيف يمكن إصلاح حالات اللاعدالة وتحويلها إلى حالات عادلة. من هنا، لا مفر من بناء نظرية في العدالة وتعريف مبادئ النظام المثالي، لأن من دون تلك النظرية وذاك التعريف لن نعرف ما الحالات غير العادلة ولن نعرف كيف نصحّحها ونجعلها عادلة. لذا لا مناص لنا من العودة إلى الصراع الكلاسيكي بين اليمين واليسار.
صراع اليمين واليسار
تعتبر الليبرالية التقليدية أن ضمان الحريات لا بد من أن يكون أولوية أي نظام عادل ومقبول. أما اليسار المناقض لهذا المذهب الليبرالي فيقول إن الأولوية لا بد أن تكون لتحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية أو المساواة في الفرص وإتاحتها للجميع. هكذا الصراع بين اليمين المتمثل بالليبرالية التقليدية واليسار المتمثل بالشيوعية أو الاشتراكية صراع حول ما هي المبادئ التي لا بد من اعتبارها أولوية بحيث يسعى النظام المطلوب إلى تحقيقها أولاً والدفاع عنها وتمتينها وتطويرها. تؤكد الليبرالية ان الأولوية لا بد من أن تكون للحريات لأن الحرية جوهر الإنسان فمن دونها يخسر الإنسان إنسانيته؛ الحرية قيمة بحد ذاتها وبذلك من الخطـأ التضحية بها لتحقيق أي هدف آخر مهما كان صائباً أو مفيداً. أما الاتجاه اليساري فيعتبر أن الحريات لا تتحقق فعلاً من دون مساواة بين الجميع لأنه إذا بدأنا بصناعة مجتمع من دون مساواة بين أفراده سوف يكتسب الأغنى والأقوى حريات أكبر وأكثر من حريات الأفقر والأضعف. من هنا يقول المذهب اليساري إن المساواة الاجتماعية والاقتصادية تضمن الحريات كافة، ولذا لا بد من أن تكون الأولوية لنشر المساواة التي سوف تؤدي لا محالة إلى الحريات المنشودة (Jan Narveson and James Sterba: Are Liberty) .(and Equality compatible? 2010. Cambridge University Press).
السؤال الأساسي هو: هل من الممكن الجمع بين الحرية والمساواة؟ بكلام آخر، هل ثمة تعارض وصراع بين الحرية والمساواة بحيث يستحيل وجودهما معاً في المجتمع نفسه؟ يناقش هذه المسألة كل من الفيلسوفين نارفيسن وستيربا. رغم اتفاقهما على أن الحرية تكمن في تحديد الفرد لأهدافه وسعيه نحو تحقيقها بالوسائل التي يختارها شرط أن لا يؤثر سلباً على حرية الآخرين، يختلف كل منهما حول قضية انسجام الحرية والمساواة أو عدم انسجامهما. بالنسبة إلى نارفيسن، يستحيل أن تجتمع الحرية والمساواة في الوقت نفسه لتعارضهما. هذا لأنه متى أقمنا المساواة بين الجميع بفضل إعادة توزيع الثروة من خلال أخذ ما يملكه الغني وتقديمه للفقير سنخرق حينها حق الغني في التصرف الحر بما يملك. أما بالنسبة إلى ستيربا، الجمع بين الحرية والمساواة ممكنة، بل الحرية تستلزم المساواة. هذا لأن المساواة ضرورية لتحقيق حرية الفقراء؛ فمن دون نوع ما من المساواة في المجتمع سوف لا يملك الفقير والضعيف شيئاً وبذلك سيخسر القدرة على التصرف بحرية من جراء فقره. وهذا أساس الصراع بين اليمين واليسار؛ فموقف نارفيسن موقف يميني بينما موقف ستيربا موقف يساري. يعتبر ستيربا أن للفرد حقاً في امتلاك شيء ما فقط إذا كان امتلاكه هذا لا يمنع الآخرين من إشباع احتياجاتهم الأساسية. ومن الاحتياجات الأساسية: الطعام والمسكن والطبابة والحماية وتطوير الذات. وفي نظامه العادل لا بد من إعادة توزيع الثروة بشكل ما بحيث كل فرد له الحق في استخدام الموارد لإشباع حاجاته الأساسية ما يكفل حياة شريفة لكل الأفراد. هذا لا يعارض حرية الأفراد بل يضمن لهم البقاء فحق أن يكونوا أحراراً. من هنا يستنتج ستيربا أنه من الممكن كما من الضروري الجمع بين المساواة والحرية. أما الصدقة المعتمدة على قراراتنا الحرة فهي طريق من طرق إعادة توزيع الثروة المطلوبة في المجتمع العادل بالنسبة إلى ستيربا. لكن نارفيسن يرفض أي نوع من المساواة في امتلاك الموارد بين الأفراد على نقيض ما يدعو ستيربا. الصدقة المعتمدة على قرار الفرد الحر مقبولة في النظام العادل بالنسبة إليه فقط. ويقول إن لكل فرد حقاً في امتلاك نفسه وامتلاك الأشياء غير المملوكة من أحد أو امتلاك الأشياء من خلال التبادل الحر. وأي إعادة توزيع للثروة من خلال مبادئ معينة مُلزمة للجميع ستقضي على حرية الأفراد في التصرف بما يملكون. لذا بالنسبة إلى نارفيسن من غير الممكن الجمع بين الحرية والمساواة (المرجع السابق).
هذا الخلاف لا ينتهي بين اليمين واليسار، ومن غير الممكن أن يتمّ حسمه لأنه خلاف حول ما نفضّل. فما نفضّل يختلف من فرد وزمن إلى آخر، ولذا يستحيل علينا أن نتفق على ما هو النظام السياسي والاقتصادي الأفضل كما يؤكد الفيلسوف «سن». فتُتهم الليبرالية اليمينية بأنها تميز بين البشر فلا تعاملهم بالتساوي لكونها طبقية بامتياز، بمعنى أنها تفضّل طبقة على أخرى. يقول نقاد هذا النظام إنه نظام ظالم يفضّل طبقة الأغنياء على طبقة الفقراء، لأنه لا يدعو إلى المساواة بين الطبقتين وبدلاً من ذلك يهتم فقط بالحفاظ على حرية السلوك والتفكير. كما يُتهم اليسار بأنه يلغي الحريات من جراء تركيزه على إعادة توزيع الثروة على الفقراء والضعفاء من خلال مصادرة مال وأملاك الطبقة الأغنى. يقول نقّاد هذا النظام إنه يقيّد حرية الأفراد ويقضي على حرية الغني بالتصرف كما يريد بماله وملكه، كما يمنع الفقير من إمكانية أن يصبح غنياً. رغم كل ذلك من الضروري أن نفكر في ما هو ممكن، كأن نحاول صوغ إمكانية الخروج من المذهبين الليبرالي واليساري. فالتفكير من خلال ما هو ممكن جوهر البحث المعرفي، وإلا نبقى سجناء أقوال الآخرين أو أقوالنا بالذات. على هذا الأساس، من الممكن تركيب فكرة جديدة هي السوبر ليبرالية في محاولة طرح فلسفة سياسية جديدة.
حسن عجمي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد