أدونيس:مكانة الشعر والشعراء عند أفلاطون والقرآن واحدة
قرأت أدونيس من قبل فهمت ما فهمت... أحببت ما أحببت... وقفت حائراً أمام ما وقفت... لكنني ما رفضته يوماً. كنت أشعر أن ثمة ما يربطني به، بل إن ثمة ما يربطنا جميعاً نحن وهو، بقينا نستمتع بالرابطة، وتركنا له مهمة أن يحمل حقيبة سفر خفيفة، وسترة أنيقة على ساعده، لينتقل من طائرة إلى أخرى... من مدينة إلى أخرى... من طاولة إلى أخرى... قرأت أدونيس وفهمت منه ما فهمت حفزتني أسئلته سلباً أو إيجاباً إنه أمهر من يطرح الأسئلة التي تدخل ذواتنا ولا نعرف السبب... قرأته... أحببت أسئلته لكنني ما قرأته كما قرأته بعد مصافحتنا الأولى...! في جبلة وعلى موج بحر هادئ كانت المصافحة الأولى بعد القراءة، وكانت الابتسامة الأولى بعد التوجّس والرهبة، وكانت الإشارة للدخول بسلام إلى عالم أدونيس الملفوف بالحكايا الملفقة حيناً والمكاشفة حيناً، عالم أدونيس الذي أراده طبيعياً، فكان كذلك ولم نكن...
أول مرة كنت أدخل جبلة في العمق، وعلاقتي بالمدن محفوفة بالحذر، لكن يدي عندما سكنت يد أدونيس، وتبادلنا التحايا والقبل شعرت أنها مدمنة بعشق هذه المدينة، لأجدني بحب أدونيسي جامح لا أُقارب مدينة أخرى كما أُقارب جبلة...!
أهو حب فينوسي أن أبقى مشدوداً إلى جبلة؟
أهو حب أدونيسي أن أتوق إلى جبلة؟
مذ عرفت جبلة في العمق منذ أشهر قليلة لا أتمنى أن أدعى إليها، لأنني أمامها منهار من الداخل، لا أحتمل إشارة من عينيها، ولا أقاوم همسة من شفتيها أو لجة حزن من صوتها الذي يناديني: غداً أراك...
ولأن الأمنيات تتفق مع دواخلنا، فقد أصرّ أصدقائي جهاد جديد وطه الزوزو وقمر الزمان علوش أن أعود إلى جبلة، فعدت وجلست على الطاولة ذاتها التي جمعتني بأدونيس... ورحت أرقب رذاذ الماء على نظارتيه، وأتابع آلية عشقه للسيجار من تبادل القبل، إلى الاشتعال المشترك المتورد، كلاهما يحرق الآخر ويستمتع بهذا الحرق!.
صرخ بي أدونيس: أريد أن أراك.
لم يكن موجوداً عندما سمعت صوته...
لكنني سمعت الأستاذ جهاد يقول: غداً يأتي أدونيس من بيروت في العيد وثاني أيام العيد يكون لك في السهرة...
لم أتردد لحظة في أن أمتطي صهوة الريح والوقت والموت...
لم أشأ أن أربط قدر اللقاء بشيء إلا بذاتي
يدفعني إلى ذلك حب اللقاء والمعرفة، لا حب شخص وحده، فأنا أتوجس...
وحين ارتطمت بعتبة مدينة جبلة... نظرت في الأفق البعيد، كانت الشمس حارة، وظهري كان للبحر، فما استمتعت بقهوة صباحية مع أبي زويا الحبيب وقمر وجهاد، ولكنني استبشرت خيراً، وقلت: الأهم أنني سألتقي أدونيس مساء...
لم تشأ جبلة التي احتوتني عشرة آلاف سنة أن تجرحني على عتبتها...
لم تشأ أن تجعل خاتمتي على عتبتها...
عاشقاً كنت... مندفعاً كنت... وعتبة جبلة على بابها رحّبتني بعنف، فجررت ثوب العشق والخيلاء، وشددت يدها، غطيت وجهي وطفقت ألثم حنانها، وبدأت أحرّض حروفها... دارت بيدي صوتها وحبها على جسدي، حملتني على سرير من حب وخوف وحرص، ودفعتني إلى مساء لا يشبه غيره من المساءات...
دخل أدونيس... عانق... رحب...
بدأنا الحديث، وحين اطمأن إلى كل شيء فتح ثيابه وفكره وعقله وعاطفته، وتحوّل إلى عباءة حب جبلاوية خيوطها من قصب قصابين، وكانت الابتسامة الطفلية التي لا يمكن أن تنسى...
أعرفه منذ سنوات بعيدة بعيدة
إنه البحر
إنه الجبل
إنه الشعر
إنه الحرية
إنه أدونيس...
عرفت عنه ما عرفت
قرأت عنه ما قرأت
لكن ما عرفته في الحادي عشر من أيلول 2010 عن أدونيس كان هدماً وبناءً في الوقت نفسه، وفي ليلة أنس كانت ليلة الأنس المميزة وأدونيس يرفع شعراته الشائبة ولا يتردد لحظة في إجابة مهما كانت صريحة أو جريئة...
ليس مطلوباً منك أن تعرف الأديب
لكن إذا كان الأديب أدونيس فالمعرفة جوهر
يفكر كما نفكر
نصل إلى ما وصل إليه
يبدأ نبوءاته وثوراته
ونحن نبحث عن إمام مُفترض...
في كل ما لا يمكن فهمه
أجد، غالباً
كل ما يساعدني على الفهم
وضعنا أسلافنا ووارثوهم
حيث يتعذر النطق بالحق
حيث يتعذر النطق إلا بالحق!
أيتها البلاد التي أنتمي إليها
قلت مرة عنك:
أنت البلاد الوحيدة التي لا أعرفها
ولم أخطئ
لا ثقافة هنا
إلا ثقافة الأثر
في الفضاء، هنا
كلمات تتحدث عن الألوهة
لكن تبدو
كأنها تعيش في رعب دائم
مقطع من شعر أدونيس في (ليس الماء وحده جواباً عن العطش) وقفت عنده سابقاً، وأقف عنده اليوم، فأدونيس يفهم البلاد حقيقة، لكنه ينكر المعرفة نكران تجاهل العارف، وتجاهل العاجز إلا بنفسه، فالصورة غائمة بين الأسلاف والوارثين وثقافة الأثر والألوهة.. وهنا يستوقفني أمر مهم، فالذي ينكر على أدونيس تجاوزه قد يكون محقاً، إلا إذا كان من ذلك النوع الذي سمعته ورأيته وقرأته ينكر أدونيس وتجاوزاته، ولكنه في الوقت ذاته يمثل – أي المنكر- قمة الانتفاخ والألوهة، فما من أحد يمكنه الاقتراب منه أو الحديث عنه أو انتقاده.. ومع ذلك يسمح لنفسه المتورمة أن تنال أدونيس، ويأخذ هو دور المدافع عن الإله، وربما أخذ دور الإله!!
والفرق الواضح بينهما:
ذاك أخبر عن ألوهته
وأدونيس لا يزال يطرح الأسئلة حول وجوده
كنت في طريقي إلى لقاء أدونيس عندما جاءني هاتف أستاذي الدكتور محمد رضوان الداية، وأذكر هذا الأمر هنا لأهميته، فالدكتور الداية أندلسي تراثي، لكنني أشهد بأن أستاذي الداية من أكثر خلق الله المعلمين موسوعية- أقصد من تتلمذت عليهم- فهو مع تراثيته وتشبثه بالتراث قارئ نهم للمعاصر والحديث، وهو ملتصق بالحديث وتقنياته كما لا أعرف من سواه، وحين أخبرته أنني على موعد مع أدونيس بعد قليل أمطرني بأسماء كتب لأدونيس ومقولات بكمّ لم أكن لأتخيله من باحث تراثي له موقف حاد من الحداثة وما بعدها.. وقال لي: أدونيس قضية كبيرة ومهمة وهو مبدع وباحث، ولكن لماذا يقترب من الذات الإلهية بهذا الشكل! قدم الدكتور الداية رأيه سؤالاً، ولم يعط إجابة، وطلب مني أن أركز على الشخصية القلقة في أدونيس المبدع، وأن أناقشه في جدلية الموت والخوف من النهاية.. أذكر هذا الكلام لسببين:
1- لم أناقش هذا الأمر مع أدونيس، فأنا لم أجده قلقاً بالمعنى المقصود، بل وجدت قلق السؤال والبحث عن معرفة، وطمأنينة أدونيس المطلقة أنستني أن أدخل في موضوع لم يكن أصلاً.
2- لم أتحدث في موضوع الإيمان والذات الإلهية- بالمعنى المتعارف عليه- لأنني لست موكلاً بالنقاش نيابة، ولم أجد نفسي قادراً بإجاباتي على مواجهة الأسئلة التي يطرحها أدونيس دون تردد.
حين أطلّ أدونيس كان سؤالاً..
لم يدهم جلستنا مباشرة وفجأة..
أطل وراح يرسم ابتسامته في كل الأرجاء
ترك للمكان أن يتصفحه جيداً ثم دنا منا..
شعرت لحظتها أنني أعبر إلى فاصلة قد لا تعني الكثيرين، لكنها فاصلة تشعرني بكثير من الزهو، فقد تلاصقت شيبتانا..
جاءت على لسانة كلمة (صديقي) العذبة
ولم أعد قادراً على التوقف عن التحرش بأفكاره الغوائية، ثم ما لبثت أن أعجبت بالغواية ورحت أسرح في مغاور الروح والجسد..!
من عالم إلى آخر
من فكر إلى فكر
من شخص إلى أشخاص
وكانت خلاصة رحلة عمر بحثت عنها طويلاً
وكما اكتشف أدونيس مقدار خسارته عندما وقف أمام طهريته المزيفة قبل الخمسين فسخر من خمسينه وطهريته.. كذلك اكتشفت أنني خسرت كثيراً لأنني لم ألتق أدونيس بهذه الحميمية من قبل.
أدونيس بدأت شاعراً، وشاعراَ مجلياً، بدأت شاعراً ولا تزال شاعراً ولكن توصف بالشاعر المتأمل الذي يقترب من الصوفية الإلهية العالمية.. بعض الناس يسمونها رمزية، ولكن هذه الرحلة هل هي تطور طبيعي في حياة أدونيس؟
كل ما كتبت منذ بداياتي كان من جهة رفضاً لنموي، ومن جهة أخرى كان امتداداً لهذا النمو ومن جهة ثالثة كان نوعاً من الاستقصاء لكي أعرف من أنا، وما هذا العالم الذي أعيش فيه وأكتب فيه. فإذا كان تطوري الحياتي طبيعياً وأظن أنه طبيعي فإن كتابتي بمختلف تنويعاتها هي كذلك طبيعية على الرغم من التباينات في طرق التعبير في مجرى حياتي.
من أغاني مهيار الدمشقي إلى مجلة «شعر» إلى كتاب اليوم وهو «المختارات الشعرية» ومروراً بمجلة «مواقف» المحطة المهمة.. هل هذه المراحل متتابعة أم فيها انقطاع فكري.
ليس هناك أي انقطاع فكري بالنسبة لي إنما هناك تنويعات على رؤيتي الفكرية والفنية أيضاً في آن معاً لا تنفصلان أبداً... إنما هناك تنويعات في النظر وتنويعات في التأمل وتنويعات في التعبير وهناك خيط واحد جامع لهذه الرؤية على الرغم من اختلاف الصور... المعنى واحد إنما الصور متعددة.
قرأنا أغاني مهيار الدمشقي والكثير من الناس يستمتعون بها لكونها أقرب إلى المرحلة الأولى للشاعر أدونيس، أقرب لفهمنا ووعينا، بعد ذلك حتى ترجمات أدونيس (إيف بونغوا) أصبحت أكثر إغراقاً في الفكر، فهل تعد هذه القضية امتداداً أيضاً للموضوع؟.
مسألة العلاقة بين الشعر والفكر مسألة قديمة، في الطرف العربي خصوصاً وقد طرحت مراراً من قبل النقاد وهناك شبه إجماع لدى النقاد ولدى المتذوقين على ضرورة الفصل بين الشعر والفكر. وأعتقد أن هذه نظرة متأثرة بموقف القرآن من الشعر، وأعني أن القرآن نظر إلى الشعر نظرة خاصة متابعاً في ذلك أفلاطون، وليس هناك شيء جديد في هذا الموضوع وقال إن الشعراء غواة كما كان يقول أفلاطون عن الشعراء فمكانة الشعراء عند أفلاطون والقرآن واحدة ولذلك طالب أفلاطون بطرد الشعراء من المدينة من حيث إنهم لا يقدرون أن يسهموا في بناء المدينة! وكذلك فعل القرآن عندما طالب أن يقتصر دور الشعر على المعاني التي أتى بها القرآن وما خلا ذلك لا يجوز أن يدخل، لأنه لا يجوز أن يدعي الشاعر كما كان يدعي في عصر ما قبل الإسلام بأنه يقول الحقيقة، وبأن لديه أفكاراً جديدة، وأيضاً يجب أن يحصر دور الشعر إما في التعبير عن العواطف وإما في خدمة الإسلام... هذه النظرية لا أقبل بها وأنتقدها، ومعظم الشعراء عملياً كانوا ضد هذه النظرة ولذلك فإن تاريخ الشعر العربي وتاريخ الشعراء الذين صنعوا مفاصل أساسية في الجمالية الشعرية العربية وفي المقاربة الشعرية للإسلام والعالم كانوا ضد النظرة الدونية للشعر مثل أبي نواس الشاعر الكبير بكل معاني العبارة ومثل أبي تمام والمتنبي وتوج هذا الاتجاه الشعري العظيم بأبي العلاء المعري، كانوا يرون في العالم ما لا يراه القرآن، لم يكونوا ضده فقط شعرياً وإنما كانوا ضده في فهمهم للحياة وفي فهمهم للعلاقات، أي إنهم لم يكونوا ضده دينياً فقط وإنما كانوا ضد فهم العلاقات بين البشر بالمعنى الإسلامي التقليدي. وليس هناك شاعر واحد في تاريخ الإسلام صدر بشعره عن الإسلام بالمعنى التقليدي، ليس هناك شاعر واحد على الإطلاق، فالشعراء إذاً خلقوا عالماً جمالياً وخلقوا عالماً إنسانياً قد لا يتناقض كلياً مع النظرة القرآنية لكنه لم يكن تابعاً إطلاقاً لهذه النظرة.
ذكرت شعراء هم مفاصل حياة الأمة وأهم الشعراء.. هل تنبع أهميتهم من معارضتهم لهذا الفكر كما هو حال المتنبي؟
هذه التقويمات لا علاقة لها بالشعر وهي تقويمات شخصية.
ولكن ماذا عن موقفه من الدين؟
حين يقولون عنه هذا القول لم يقولوه عن شعره فهم وصفوا شخصه، لكن لا علاقة لحياة الشاعر وشخصه بنتاجه الشعري، فالشاعر يمكن أن يكون لصاً، فهناك شعراء لصوص في مرحلة ما قبل الإسلام. وهناك شعراء لم يؤمنوا بأي دين قبل الإسلام وكانوا شعراء كباراً. ولغة القرآن نفسها استندت إلى لغة هؤلاء الشعراء جميعاً، فاللغة القرآنية لها جذور من ما قبل الإسلام.
ألم يأخذوا من معارضتهم السياسية أو الدينية ميزة ؟.
الأساس والقيمة الأساسية التي تكمن في نتاج هؤلاء الشعراء في كونهم لم يعارضوا ما هو سائد ومن ضمنه الدين لوجه المعارضة فقط، وإنما حاولوا أن يبنوا عالماً آخر استنادا إلى القيم التي طرحوها، وكلنا نعرف أبا العلاء المعري وشعره الذي كان تتويجاً لموقفه من الدين والذي هو متابعة لموقف أبي نواس الذي كان يقول «ديني لنفسي ودين الناس للناس». فالدين مسألة فردية أما المجتمع فهو مسألة مدنية، وكما أن هناك حقاً للإنسان في التدين، فهناك حق له في المقابل في اللاتدين والمجتمع الذي لا يؤمن بحق اللاتدين يكون إيمانه موضع تساؤل إن لم يكن موضع شك. وتوج هذا الاتجاه بأبي العلاء المعري عندما قال (اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له).
إذاً كل هذا الاتجاه الذي خلق الشعرية العربية كان اتجاه معارضة لما هو سائد شعرياً وأخلاقياً ورؤيوياً ومن هنا أخذوا قيمتهم، أما الشعراء الآخرون الذين اكتفوا بالمديح والرثاء والهجاء صاروا جزءاً من حركة التاريخ وقد تخطتهم الأحداث بينما هؤلاء لم تتخطهم الأحداث بل بالعكس فإن التاريخ صار جزءاً من إبداعهم، فاليوم نستطيع أن نفهم التاريخ العربي عبر شعر هؤلاء أكثر مما نفهم شعر هؤلاء عبر التاريخ.
أعطيتني سبباً جديداً لخلود هؤلاء الشعراء تحديداً؟
هذه هي مهمة الإبداع، فهو من يعطي الشعوب حضورها وهو يعطيها هويتها.
قرأنا «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري، ورسالة الغفران وغيرها، لكن أين ظهر هذا الشيء عند المتنبي الذي يعده بعض النقاد شاعر مديح؟
هذه نظرة تقليدية، فالمتنبي كان طامحاً لخلق عالم آخر ومختلف لذلك هو الذي كان يستخدم السلطة من أجل أن يصل أو يحصّل شيئاً من هذا العالم لذلك في آخر حياته عندما ترك كافوراً كتب قصيدته المشهورة التي قال فيها (وما كان شعري مدحاً له ولكنه كان هجواً) كان شعره نقداً للبشر فقد ألجؤوه إلى مثل هذه الحياة وخصوصاً أنه لم يكن هناك عمل في حياتنا العربية وكانت الناس تابعة للسلطة، فإذاً كانت كتابة الشعر نوعاً من العمل مثل الوظيفة اليوم. فخارج مؤسسات السلطة لا يوجد وظيفة أو عمل إلا إذا كان تاجراً، فالمثقف عمله هو الإبداع في مؤسسات السلطة، والخلافة كانت مؤسسة سياسية وثقافية واجتماعية ولذلك كان الشاعر مضطراً أن يكتب في هذه المؤسسة لكي يستطيع أن يعيش، فإذاً لم يكن شاعر كدية ومديح ولا هو شاعر استجداء وإنما اضطر للعمل عند أصحاب السلطة، كان عاملاً يستخدم هذه السلطات لكي يكتب ما كتب وإذا قرأنا شعره بدقة نجد أن الممدوح مجرد واسطة لكي يقول ما يقول.
أنا أوافقك تماماً، ولكن هل أعتبر أن مسألة الدين هي سبب رئيسي في عدم وجود هذا الإبداع الشعري وتباعد الفترة بين وجود شاعر وشاعر؟.
المسألة معقدة بمعنى أنه لا يوجد هناك نص بحد ذاته كان واضحاً مثل النص القرآني الذي ألغى الشاعر دون أن أكرر ما قلته، فالقرآن ألغى مكانة الشعر والشعراء مهما حاولنا أن نجمّل الموضوع، وترتب عن هذا الإلغاء أشياء كثيرة على الشعر ودوره في بناء المجتمع والمعرفة.
بمعنى أنه أخرجه من إطار المعرفة، ومن إطار قول الحقيقة، وبهذا المعنى ألغاه، يعني أن تجريد الشعر إن كان لقول الحقيقة فهو قتل له، لكن النص يظل قابلاً لتأويلات عديدة، فلو كان النص مدنيا وغير مرتبط بالسلطة والسلطة تستخدمه في استمرارها وانتشارها كان يمكن أن يكون الدين حيادياً وتكتب الناس ما يكتبون، لكنَّ جعل الدين وسيلة للتمكن من السلطة حوّل الجمهور أو الناس إلى جزء أساسي تعتمد عليهم السلطة وبدونهم لا تكون هناك سلطة.
هذا الأمر هو الذي يسمح بالقول إن الدين كان عائقاً في وجه الشعر وعطله تعطيلاً كلياً، والدليل أن هناك شعراء أرادوا أن يعبروا فكرياً عن معتقداتهم فقتلوا، وهناك شعراء غير متصوفين مثل صالح عبد القدوس، ومنهم من سموا بالزنادقة عندما حاولوا قول بعض الأفكار من خلال شعرهم وقتلوا أو سموا بالزنادقة وأحرقوا. فالدين بهذا المعنى عائق، يجب ألا ننظر لقضايا الزندقة وقتل الشعراء في التاريخ الإسلامي نظرة حيادية، فالقضية أكبر وتتعلق بالموقف المعرفي من الشعراء ودور الشعر الذي حدده الإسلام.
إسماعيل مروة
المصدر: الوطن السورية
إضافة تعليق جديد