النظام النقدي الدولي والمنعطف الحرج الذي ينتظره
الجمل: تحدثت العديد من تقارير وتحليلات الأطراف المعنية بأمر الاقتصاد السياسي الدولي بأن النظام النقدي الدولي أصبح على حافة المرور بأحد المنعطفات الحرجة المؤدية إلى تشكيل نظام نقدي دولي جديد يتميز بالعديد من المعطيات الجديدة المتعلقة بحسابات الفرص والمخاطر الاقتصادية الدولية: لماذا التحول لنظام نقدي دولي جديد؟ وهل سيؤدي ذلك إلى رفع الفرص وتقليل المخاطر أم إلى تقليل الفرص ورفع المخاطر؟
* النظام النقدي الدولي الراهن: الطبيعة والخصوصية
يتضمن النظام النقدي الدولي طائفةً من القواعد المتفق عليها دولياً إضافةً إلى الأساليب والوسائل المعتمدة دولياً لجهة دعم وإسناد المؤسسات الاقتصادية الدولية، وتسهيل حركة التجارة الدولية وتدفقات الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة العابرة للحدود بين دول وأمم العالم.
أبرز الفعاليات الوظيفية الخاصة بالنظام النقدي الدولي تتمثل في التخصيص وإعادة التخصيص التلقائي لتمركز رؤوس الأموال في مختلف البلدان وفقاً لمستوى وأهمية كل سوق اقتصادي، إضافةً إلى تحديد وسائل الدفع المقبولة بين الأطراف المتعاملة الموزعة بين البلدان المختلفة بما يشمل عمليات الدفع الفوري والدفع المؤجل، وإضافةً لذلك فإن النظام النقدي الدولي يسعى ويهدف دائماً إلى تسريع إنجاز المعاملات وتعزيز الثقة والمصداقية بما يقلل من عنصر الشعور بعدم الثقة والخطر، ويعزز من عنصر الشعور بالثقة والأمان.
شهد النظام النقدي الدولي العديد من التطورات بما أدى إلى جعل هذا النظام يمر بالعديد من المراحل والتي من أبرزها:
• النظام النقدي الدولي في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى والذي امتد سريانه على المعاملات خلال الفترة من عام 1870م وحتى العام 1914م، حيث شهد الانهيار مع انطلاق أولى رصاصات الحرب العالمية الأولى.
• النظام النقدي الدولي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، والذي امتد سريانه على المعاملات من لحظة انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1919م وحتى بدء اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939م.
• النظام النقدي الدولي في مرحلة حقب اتفاقية برايتون وودز والذي بدأ لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م واستمر حتى عام 1971م.
• النظام النقدي الدولي في مرحلة حقبة ما بعد اتفاقية برايتون وودز، والذي بدأ من عام 1971 ومازال مستمراً حتى الآن.
التدقيق في مجرى ومراحل التطور والنقلات التي حدثت في طبيعة النظام النقدي الدولي يشير بكل وضوح إلى مدى العلاقة الارتباطية بين متغير ظاهرة الحرب ومتغير طبيعة شكل النظام النقدي الدولي السائد، وبكلمات أخرى، فإن كل نظام نقدي دولي كان ظهوره حصراً ضمن نتائج الحرب، ومن المنتصر ومن المهزوم، وذلك على أساس اعتبارات الحقيقة البديهية القائلة بأن المنتصر هو الذي يسيطر على الموارد ويحدد معايير التعامل بين كيانات النظام الدولي.
* أين تكمن بؤرة أزمة النظام النقدي الدولي الراهن
تقول التحليلات والمعلومات، بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد شهدت خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية خلافاً بين تيارين، الأول أكد على ضرورة أن تسعى واشنطن لجهة الحد من النفقات العسكرية والتركيز على تعزيز قدرة الاقتصاد الأمريكي بما يحقق لأمريكا السيطرة الاقتصادية على العالم طالما أن السيطرة العسكرية لم تعد ضرورية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية وتفكك حلف وارسو الذي كان يمثل مصدر الخطر الحقيقي ضد أمريكا وحلفاءها، أما الثاني، فأكد على ضرورة أن تسعى واشنطن لجهة التوسع بأكبر ما يمكن في النفقات العسكرية بما يؤدي إلى تحقيق قفزات نوعية وكمية كبيرة في القدرات العسكرية الأمريكية، بحيث يتسع الفرق بين أمريكا وبقية بلدان العالم، بما يؤدي إلى جعل اللحاق بمستوى القدرات الأمريكية غير ممكن لأي دولة إن لم يكن مستحيلاً.
أدى الخلاف بين أنصار التوسع في الإنفاق العسكري الأمريكي وأنصار التوسع في الإنفاق الاقتصادي الأمريكي إلى تبلور تيار ين هما:
- تيار المحافظين الجدد: فقد كان في مقدمة الداعمين للتوسع في الإنفاق العسكري ومن رموزه دك تشيني الذي كان وزيراً للدفاع خلال فترة إدارة بوش الجمهورية إضافةً إلى وولغو فيتز وإيليوت إبراهام وريتشارد بيرل و غيرهم.
- تيار المحافظين التقليديين: الذي كان في مقدمة الداعمين للتوسع في الإنفاق الاقتصادي، ومن أبرز رموزه نجد الرئيس بوش الأب وصموئيل بيكر وغيرهما.
انتصر تيار المحافظين التقليديين، وبرغم ذلك، فقد صعدت إدارة بيل كلينتون الديمقراطية الأولى، وسعت إلى المضي قدماً في برامج توسيع الإنفاق الاقتصادي بما أدى إلى صعود عملية العولمة الاقتصادية، وبرغم ذلك فقد بقيت المعارضة بيد الداعمين لمشروع توسيع برامج الإنفاق العسكري، والذين نجحوا في السيطرة على هياكل الحزب الجمهوري الأمريكي، والذي استخدمته جماعة المحافظين الجدد كمصعد أوصلهما في نهاية الأمر إلى البيت الأبيض الأمريكي، بما أتاح لهم الشروع فوراً وبلا إبطاء في مشروع القرن الأمريكي الجديد القائم على توسيع الإنفاق بلا حدود لجهة إسقاط قوة أمريكا العسكرية على كافة أرجاء العالم، وتحويل الكرة الأرضية إلى مسارح حربية مجهزة بالعتاد وحاملات الطائرات ونشر القواعد العسكرية بمختلف أنواعها، بما أدى إلى تكوين: القيادة الأوروبية-الأمريكية، القيادة الوسطى الأمريكية، القيادة الباسيفيكية الأمريكية، القيادة الشمالية الأمريكية، القيادة الجنوبية الأمريكية، القيادة الأفريقية الأمريكية والقيادة الفضائية الأمريكية.
تقول المعلومات والإحصائيات الموثقة بأن الإنفاق العسكري الأمريكي عشية غزو واحتلال العراق كان يتجاوز حجم الإنفاق العسكري لبقية دول العالم مجتمعة، بما في ذلك روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي.
الذي أتاح لأمريكا الكم الهائل من الأموال تمثل في اعتماد النظام النقدي الدولي للدولار الأمريكي كعملة سداد دولي، وبالتالي، فقد كانت البنوك والمؤسسات المصرفية الأمريكية تمثل مستودعات ضخمة لأرصدة دول وشعوب وشركات العالم، ومن هناك كانت خزائن البنك المركزي الأمريكي (بنك الاحتياط الفيدرالي) مليئة بالأرصدة الفائضة، بما أتاح لإدارة بوش أن تأخذ ما تريد من الأموال لتمويل برامج التسلح التقليدي وغير التقليدي والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، إضافةً إلى تمويل الحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب في المسرحين الأفغاني والعراقي.
أدى تزايد الإنفاق العسكري الأمريكي إلى ضعف الإنفاق استثماري الاقتصادي، الأمر الذي أدى بدوره إلى ضعف العائدات وضعف النمو طالما أن الذي يستثمر في الحرب سوف يخسر أضعاف ما أنفقه إذا لم يستطع حسم الحرب وتحقيق الانتصار السريع المطلوب. وهو ما حدث لأمريكا التي تورطت في الحروب الباهظة التكلفة، ولم تستطع حسمها حتى الآن.
* الصراع حول النظام النقدي الدولي الراهن: إلى أين؟
تقول المعلومات والتحليلات، بأن روبرت زوليك رئيس البنك الدولي الحالي، يسعى حالياً بشكلٍ حثيث لجهة إقناع الدول المتقدمة اقتصادياً لجهة العمل من أجل اعتماد نظام نقدي دولي جديد يقوم على الآتي:
• مبدأ المشاركة.
• مبدأ التعاون.
• مبدأ التحرير.
وبرغم عمومية المفردات التي استخدمها روبرت زوليك فإن التفسير الاقتصادي السياسي لمبدأ النظام النقدي الدولي الجديد يقودنا إلى الكشف عن الآتي:
- مبدأ المشاركة: معناه أن تقر دول العالم، وعلى وجه الخصوص دول مجموعة العشرين على النظر للنظام النقدي الدولي باعتباره يقوم على المشاركة، وبكلمات أخرى، فإن المقصود هو أن تنظر دول مجموعة العشرين إلى أمريكا باعتبارها شريكةً لهم في أموالهم.
- مبدأ التعاون: معناه أن تقر دول العالم وعلى وجه الخصوص دول مجموعة العشرين على التعاون من أجل القضاء على خطر الأزمات، وبالتالي، فإن المقصود هو إقامة صندوق اقتصادي تساهم فيه دول مجموعة العشرين بأموالها، ويتم استخدام هذه الأموال في تغطية خسائر الشركات الأمريكية الكبرى التي أصبحت على وشك الإفلاس والانهيار بسبب عمليات الفساد الرسمي الأمريكي وعمليات النهب المنظم التي قام بها أثرياء اليهود في البورصات والمضاربات والأسواق المالية الأمريكية.
- مبدأ التحرير: معناه أن تقوم الصين صاحبة أكبر الأرصدة في السوق الأمريكية بتحرير عملة اليوان الصيني وجعلها قابلةً للتحصيل الخارجي في الأسواق المالية، وهذا معناه أن تجد أمريكا وبريطانيا و فرنسا وبقية حلفاء أمريكا الفرصة لاستهداف اليوان الصيني بعمليات حرب العملة في البورصات الأسواق المالية العالمية.
تقول المعلومات، بأن ورطة النظام النقدي الدولي الجديدة، تمثلت في قيام أمريكا بإصدار الأوامر للبنك المركزي الأمريكي بطباعة 600 مليار دولار على المكشوف، أي طباعة الدولار بلا رصيد تغطيه، وبالمقابل تقول الصين مطالبةً بضرورة العودة إلى نظام استخدام الذهب كغطاءٍ نقدي بدلاً عن الدولار الأمريكي. وما هو مثير للاهتمام أن المطلب الصيني يجد حالياً دعم العديد من دول مجموعة العشرين، وتشير التوقعات بأن إقامة نظام نقدي دولي يقوم على استخدام الذهب كغطاءٍ هو أمر سوف لن يجد رفض واشنطن وحسب، بل وربما تعتبره واشنطن بمثابة إجراء يرقى إلى مرتبة إعلان الحرب طالما أن ذلك لا يعني بالنسبة لخبراء الاقتصاد السياسي الدولي سوى شيئاً واحداً: نحر الدولار الأمريكي، الذي دفعته إدارة بوش الجمهورية إلى الانتحار الاستباقي في مشروع الحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد