العجيلي.. أروع بدوي عرفته المدينة وأروع مدني عرفته الصحراء
لعل العجيلي –رحمه الله- أكثر الأدباء إشكالية لكثرة ما كتب، ولكثرة ما كتب عنه في الحياة الطويلة والمتوازنة التي عاشها،.
فقد كان متميزاً بأخلاق حميدة تفتقد في الكثيرين ممن سبقوه، أو جايلوه، أو من أتوا بعده فهو برأي نزار قباني: (أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع مدني عرفته الصحراء)، العجيلي كان نتاج تجربة إنسانية فريدة، فتحت لديه منابع الإبداع.
فتدفقت علماً وأدباً وحكماً وأخلاقاً، فقد لمع نجمه منذ صغره وتفتحت فيه براعم الذكاء والتفوق وتعددت براعاته فقد راح يقرض الشعر ويكتب المقالة والأغنية والقصة ويرفض الكثير مما يجري أمامه فيتمرد عليه ويسخر مما يدور حوله في الواقع مما جعل لهذه الكتابات جاذبية خاصة وترتكز هذه الجاذبية في كتابات العجيلي على مهارته الرفيعة في إيصال ما يريد قوله للآخرين وهذه حقيقة لا شك فيها تدل على مقدرته كمتحدث مفوه خبير في اجتذاب الآخرين وهو رجل ذو خبرة عملية في الحياة وتجلت خبرته في ثلاثة مجالات مهمة هي (الطب، والسياسة، والأدب) نشر العجيلي أول قصة له بعنوان: (تومان) في مجلة الرسالة المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات في عام 1936 م ومن الطريف ذكره أن العجيلي في بداياته كتب بأسماء مستعارة كثيرة بلغت /21/ اسماً وأنه كان الطبيب الأول والوحيد في دائرة قطرها /600/ كم لمدة طويلة وقد بقيت عيادته مفتوحة في مدينته (الرقة) من بداية عام 1945م، ولغاية العام 2004م، أي حوالي /60/ عاماً، فكان يمارس مهنة الطب ك (طبيب عام وجراح ومعالج داخلي، ومولد، وطبيب شرعي).
السفر والترحال ميزتان في العجيلي حيث زار أغلب بلدان العالم وساعده على ذلك هوايته قيادة السيارة بنفسه إلى أن بلغ الثمانين من العمر، ويعتبر ذلك فرصة لترديد الشعر في طريق السفر، وله هنا حكاية مع الشاعر المهجري جورج صيدح الذي يعتبر أن إحدى الفوائد الجوهرية من اقتناء سيارة خاصة، هي قدرة المرء على الغناء فيها دون الخوف من مقاطعته، وكان العجيلي يحب شعر المتنبي ويتمثل بأبياته، في كل حادثة حتى أنه سئل ذات مرة: إذا ذهبت في رحلة إلى القمر ماذا تأخذ معك فأجاب طبعاً ديوان المتنبي! ويقول الأستاذ الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب (أذكره في مجمع اللغة العربية، كنا نجتمع في مكتب الدكتور شاكر الفحام ومعنا الدكتور محمد إحسان النص، وكان العجيلي يحدثنا عن أسفاره وحلاوتها ويؤكد أنها معرفة العالم ويقول: (من أراد معرفة العالم فليرتحل)، وكان العجيلي قارئاً نهماً لا يضيع وقته سدى فتعمق في الثقافة العربية وضرب بها حتى الجذور ونهل من الثقافة الغربية لإتقانه اللغتين الفرنسية والإنكليزية، فكانت عليه كنار ابراهيم برداً وسلاماً، وقد تميز العجيلي بأنه يستطيع التعامل مع جميع طبقات الشعب وأطيافه المثقفة منها والعادية، فليس غريباً أن تجد في ضيافته السفير الفرنسي صباحاً، وظهراً يجلس في المضافة مع البسطاء من أهل الرقة، ولا يجد نفسه غريباً مع هذا، أو ذاك وكان يسعد بأهل بلدته، إذا رآهم في بلد غير بلده، حتى أنه كان يقصد بعض المقاهي التي يرتادها أهالي الفرات كي يأنس بهم ويتجلى عشقه لمدينته (الرقة) في رسالته التي وجهها إلى مديرية الثقافة في الرقة حينما سمت مهرجانها الأول للرواية العربية باسمه والتي يقول في بدايتها يقول لي بعض الأحبة: أليست إقامتك في الرقة حالة غريبة، ألم يكن المقام أطيب في كثير من الأماكن والمدن؟ والحق أقول: لقد اخترت هذا المقام عن سبق الإصرار والترصد أعطتني مدينتي مثل ما أعطيتها، وصدق الشاعر حين قال:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
لم أرد أن أكون عالة على أحد وإنما أردت أن أعيش بعزة فقد خلقت على سوية لم أقصد إلى تجاوزها، ومارست فعل الحياة بعفوية اعتز بهذه المناسبة ولكن هو جميل أن أكون مثالاً للإنجاز والمنجز الفكري والأدبي بين أهلي وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم التي أحبها كما أحبكم وقوله في مناسبة أخرى: (أهلي وقومي أحملهم أينما ذهبت) وتجد ذلك متجلياً أيضاً يوم لبى أبناء بلده (الرقة) دعوته للتبرع للهلال الأحمر، فكان عرساً إنسانياً هو الأروع، في حينها دمدم وعيناه تدمع:
أولئك أصحابي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ثم قال: (في كل الأحوال كثر الله خيرهم) ومن لا يذكر كلامه إلى طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية يوم قال: لي أكثر من أربعين كتاباً لا تعادل عندي ما قمت به في حملة مكافحة شلل الأطفال الذي قضى على تعاسة الكثير من عائلات محافظة الرقة وكانت الحملة حافزاً لحملة أكبر قضت على آفة شلل الأطفال في سورية.
كان العجيلي شخصاً مؤدباً لم يسمع منه كلمة نابية مهما كان نوع الشخص الذي قام بإزعاجه وكان يلتمس العذر لمزعجه ويقول: سامحه الله وكان دائم الأناقة مميزاً بعادات خاصة جميلة فمن طبعه الحياء لذا كان يرفض الظهور أمام الآخرين إلا بلباس محتشم ولم يكن يمتنع عن دعوة إلى طعام قط لأنه يجد في ذلك مؤانسة، وهو يكره السمنة، وكان يردد البطنة تذهب الفطنة وكان يوظف كل الحالات الإنسانية لصالح الأدب فيستخدمها في كتابة مقالة أو قصة أو رواية فيشكل متعة للقارئ ونقدا للواقع، وكان أحد مؤسسي عصبة الساخرين مع (سعيد الجزائري وعبد الغني العطري وحسيب كيالي،. وتميزت السخرية عنده بأنها محببة وغير جارحة فقد يسخر من أحد أصدقائه بقصيدة كي يحرضه على كتابة قصيدة رد وهنا تتجلى صفة جذابة لكتابة العجيلي ألا وهي انتقاص قدر الذات ورغبته في سرد الطرف على نفسه مثل (قصائد مهمشة) وذلك عندما وصف مصير ديوانه (الليالي والنجوم) ومثال آخر في وصفه المثير لتعامله مع الناشرين الذي يرويه في محاضرته تجاربي في واحد وسبعين عاماً، ولكن التهكم على الذات إنما هو انعكاس فقط لمقدرته على المحافظة على روح الاتساق، وهذا بدوره عنصر هام في روح الفكاهة ومما يذكر أنه كان يحب العزف على الكمان في صغره ويحب الموسيقا الغربية كالسيمفونيات ويتأثر بالغناء العربي البدوي، وخاصة ما يغنى منه على الربابة وقد تسقط دمعة من عينه إذا سمع العتابا والنايل وهي من الألوان الغنائية المشهورة في وادي الفرات ويهوى أغاني فيروز والرحابنة.
ويمتلك العجيلي نفساً سامية مدركة لكل ما حولها يقول: أنا كإنسان مدرك لأمرين أولهما ضآلة شأني كمخلوق ليس أنا إلا ذرة في كوكب يتبع للشمس والشمس تتبع لمجموعة سديمية في فضاء لا نهائي التكوين وثانيهما: كبريائي كإنسان يدفعني للكفاح نحو غايات سامية وهذا ما يؤكد ترك العجيلي لمقعد البرلمان السوري عام 1948 والتطوع في جيش الإنقاذ العربي في فلسطين حيث كان له هناك حكايات كثيرة منها حكايته مع الشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي أبو سلمى وكان العجيلي شخصاً فائق النظام والترتيب كان يعرف كيف يؤرشف أوراقه ويعود إليها في وقت الحاجة ولم يكن يؤجل عمل يومه إلى غده وكان يهتم بمن يراسله ويرسل إليه رسالة جوابية ويقرأ الكتب التي تهدى إليه ويعتبر ذلك واجباً عليه، ويعتبر الأدب هواية والطب حرفة ومع ذلك فقد ترك حوالي /50/ كتاباً، وترجمت أعماله إلى /12/ لغة عالمية، وله رسومات فنية تشكيلية حيث رسم أساتذته في جامعة دمشق في الأربعينيات رسوماً كاريكاتورية وكذلك له رسومات في أثناء رحلاته وهناك لوحة رسمها لراقصة فلامنكو اسبانية. ويذكر الباحث طه الطه صاحب المتحف الخاص أن الفنان البولوني رافو كابشو توفسكي ومعه الفنانة البولونية سيلفا ديلافسكيا قد زارا العجيلي ورسماه في منزله فقام الدكتور العجيلي ورسم الفنان البولوني بشكل خاطف فوقف الفنان البولوني مذهولاً وهو يتأمل تلك اللوحة.
وليس هناك ما نختم به مقالنا هذا أجمل من قول شاعرنا الكبير سليمان العيسى لما بلغه نبأ رحيل العجيلي فكتب في جريدة الثورة السورية تحت عنوان (بادية العرب والعجيلي):
صمتت دهراً.. فلما صهلت
خيلها والفجر يحبو في الخيام
قذفته فارساً جاء على
صهوة الحرف اسمه عبد السلام
محمد البعلاو
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد