إسقاط النظام أم إصلاحه
الجمل ـ عبد الله علي: الثورة التي ما زالت تعبِّر عن نفسها في الشوارع الخلفية لبعض المدن والمناطق، لم تستطع إلى الآن أن تشق لنفسها أتوستراداً عريضاً إلى قلوب السوريين، فتسمَّرت هناك تجترُّ نفسها في لقطات مكررة عن الاحتجاج والرفض والمطالبة بإسقاط النظام. ولم ينتبه القائمون على الثورة أو أنهم لا يريدون الانتباه، على عكس بعض المثقفين المعارضين، بأن شعار إسقاط النظام قد أضرَّ بالثورة أكثر مما أضرَّ بالنظام. لأن رفع لافتة هذا الشعار الضخم ساهم في إظهار الثورة بحجم قد يكون أصغر مما هي عليه في الواقع. كما أن رفع هذا الشعار كان سبباً رئيسياً لامتناع الكثير من السوريين ممن تقتصر مطالبهم على الحرية والإصلاح، عن الانضواء تحت لوائها والانخراط في صفوفها فانتهى بها الأمر إلى أن خسرت دعم هؤلاء، الذي بدوره تم تجييره لمصلحة حزمة الإصلاحات التي طرحتها السلطة. كما أن الثورة (التي تصر على أنها ثورة) لم تستطع بعد ثلاثة أشهر ونيف أن تثبت نسباً صريحاً لها فكثر المدَّعون لأبوتها والمطالبون بتبنَّيها حيث توزعوا بين اتحاد التنسيقيات وائتلاف شباب الثورة والمجلس الثوري والقائد الميداني الشيخ العرعور، الأمر الذي انعكس سلباً على مصداقيتها وقدرتها على التأثير. كما أن محاولة اللعب على وتر الانتماءات العشائرية والطائفية، لجهة تسمية بعض أيام الجمعة على وجه الخصوص، كان بمثابة اللعب بالنار ويبدو أن هذه النار قد أحرقت للثورة عدة أصابع. إضافة إلى ما سبق فإن المخيال الجمعي للسوريين لا يحتفط بصورة إيجابية عن مفهوم الثورة وينسب الكثير من معاناته المتجذرة في واقعه إلى بعض الثورات التي يضطر إلى تبجيل ذكراها حتى الآن، وهذه نقطة في غاية الأهمية لم تؤخذ بعين الاعتبار عند الإصرار على تسمية الثورة، رغم تأثيرها السلبي على حماسة السوريين تجاه أي تحرك ثوري آخر قد يضطرهم إلى الاحتفال بذكرى ميلاده عقوداً طويلة. وعلينا أن نذكر، أيضاً، أن الثورة حتى بجناحها السلمي، لم تستطع أن تحافظ طويلاً على بعض الأخلاقيات والسلوكيات الإنسانية، إذ يبدو أنها لسبب أو لآخر قد انحرفت في بعض التفاصيل وتبنت شعارات تقوم على شتم الموتى ولعن الأرواح وسب الآباء وإعداد أغانٍ لا تقل بذاءةً عن تلك الشعارات، وإحدى تلك الأغاني استعارت كلمة معمر القذافي الشهيرة "طز" كعنوان لها. ولا يخفى ما تدل عليه هذه الإساءات من إسفاف في مستوى التعاطي، وما تستثيره في نفس المستمعين من مشاعر الاشمئزاز وعدم الاحترام، ولا نستبعد أن ذلك كله لعب دوراً في بقاء الثورة في الشوارع الخلفية، وفي مباعدة المسافة بينها وبين الشوارع العريضة من خارطة الطرق السورية.
***
قد يكون هذا الكلام قاسياً بحق الثورة، لكن عذرنا في ذلك أننا نقوله بعد مرور أكثر من مائة يوم على ظهورها، أي كان لديها فسحة واسعة من الوقت للانتظام والتنظيم والاتساق والتنسيق وتقديم نفسها على الأقل بصورة أكثر وضوحاً وأكثر تعبيراً عن رؤيتها وبرنامجها الثوري الذي تطرحه لمستقبل سورية. أما أن نبقى بعد كل هذا الوقت في جهالة تامة حول نسب الثورة ومنبتها وتفاصيل رؤيتها غير إسقاط النظام، فإنه يدلّ إما على عدم وجود رؤية من الأصل وإما يدل على إرادة إبقاء هذه الرؤية سراً، وفي الحالتين ليس هناك ما يدعو إلى الاطمئنان إليها أو يدفع إلى مجاراتها في طريق نهايته غير معروفة.
ورغم منع وسائل الإعلام العربية والعالمية من مواكبة نشاط الثورة، إلا أن هذه الثورة نالت من التغطية الإعلامية من قبل أشهر المحطات الفضائية وأهم الصحف العربية والأجنبية، ما يتمنى أي تنظيم سياسي لو ينال قسماً ضئيلاً منه فقط. وهذا يطرح تساؤلاً هاماً وهو: كيف استثمر القائمون على الثورة هذه الطاقة الإعلامية التي سخرت لهم؟ لقد رشحوا، كما تدل الوقائع، عدة أشخاص للحديث باسم الثورة وهؤلاء هم عمر إدلبي وعامر الصادق وعبدالله أبا زيد (لجهة تمثيل التنسيقيات) ووحيد صقر (لجهة تمثيل ائتلاف شباب الثورة باعتباره المنسق العام للعلاقات العامة فيه) وكذلك الشيخ عدنان العرعور القائد الميداني كما يلقبه أنصاره، وقد دأب هؤلاء في كل أحاديثهم الإعلامية على تكرار نفس الأسطوانه في كل مرة، الشكوى من القمع الأمني والاعتقالات وفضح الممارسات التي ترتكب بحقهم والتعبير عن معاناتهم واستجرار المشاعر للتعاطف معهم من خلال الإكثار من أحاديث الدم والاغتصاب والتهجير. ومثل هذا التعاطي الإعلامي يثير الكثير من الانتقادات. أولاً- الثورة ليست نزهة، وهم بالتأكيد لم يثوروا ضد السلطة إلا لأنها تمثل بالنسبة لهم ذروة "الشر" وبالتالي يفترض أنهم توقعوا سلفاً مثل هذا القمع الذي يشتكون منه. ثانياً- لم يستغل الناطقون الفرصة لعرض برنامجهم الثوري وإقناع الشعب السوري بقدرة هذا البرنامج على الانتقال به من حالة إلى حالة، بل اكتفوا كما قلنا باجترار الخطاب البكائي نفسه، متغافلين عن أن مثل هذا الخطاب يثير مشاعر الشفقة أكثر مما يثير دوافع الثورة. ثالثاً- وهذا الانتقاد وجهه المفكر برهان غليون في رسالته إلى الثورة، حيث لم تستطع الثورة خلق خطاب إعلامي خاص بها، ولم تستطع رغم توفر إمكانية ذلك، أن تتمايز عن بعض الأصوات التي تدعي أنها تتحدث باسم الثورة من خارج التنسيقيات، مما أثار ضباباً كثيفاً حول حقيقة تمثيل هذه التنسيقيات للثورة، وأكد الشبهات في أن الممثل الحقيقي للثورة قد يكون في مكان آخر، على قناة وصال مثلاً، خاصة بعد الصفعة التي وجهها الشيخ العرعور إلى اتحاد التنسيقيات وغيره من التشكيلات الثورية التي ظهرت على صفحات الفايس بوك مؤخراً، عندما نفى أن يكون لأيٍّ منها أي صفة في تمثيل الثورة، وقد حمل الشيخ عليهم بشدة بسبب ادعائهم هذا التمثيل ، بينما لم يصدر من قبلهم أي رد على هذا الكلام. مما يثير سؤالاً خطيراً من يعمل في ظل من؟
***
باعتقادي، أن الثورة فوتت على نفسها فرصة كبيرة، عندما طرحت شعار إسقاط النظام. فلا هي تستطيع تحقيق هذا الشعار كما تدلنا على ذلك مجريات الأمور وحجم الدعم الشعبي المحدود لها، ومن جهة أخرى ليس بإمكانها التراجع عن الشعار السابق بعد أن رفعته طويلاً لأن مصداقيتها عندئذ ستفقد كل رصيدها، قد يكون الاحتمال الثاني وارداً في أذهان البعض رغم أنني أرى إمكانية ذلك وعقلانيته أيضاً، بل وأعتقد أن من شأنه أن يعطي الثورة زخماً جديداً ودعماً شعبياً أوسع مما تحظى به حالياً، لأن أغلبية السوريين هم طلاب إصلاح وليسوا طلاب إسقاط، ولا ننسى أن السلطة استطاعت أن تحشد الملايين في الشارع دعماً لبرنامجها الإصلاحي.
لذلك فإن الخيار العقلاني للثورة بعد أن وصلت إلى هذا المأزق هو أن تتراجع دون تردد عن شعار إسقاط النظام، وأن تكثف جهودها على صعيد تحقيق إصلاح حقيقي وشامل يكون من شأنه الانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي. وغير ذلك أي الإصرار على شعار الإسقاط سيكون من شأنه خلق الفوضى في سائر أنحاء البلاد، إضافة إلى عدم تشجيع السلطة على التقدم على طريق الإصلاح بحجة تلك الفوضى. وأخشى ما أخشاه أن نخرج من كل ما يحدث الآن بحفنة من الفوضى فقط.
التعليقات
تعقيب
كلام معقول
--
تعقيب بسيط
نختلف معك جملة وتفصيلاً
إضافة تعليق جديد