حفريات في التوراة
«فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال» - العدد 31: 17
بعد انقضاء السنوات الأربعين في الصحراء تحرك موسى على رأس جيل جديد من الشباب وُلد معظمهم في البرية وما عرفوا مصر ولا رغد العيش فيها. وعند مواجهتهم لأول عدو أخذ موسى بتطبيق قانون الحرب الذي استنه له يهوه والمعروف بقانون التحريم. وهو بقضي بقتل كل نفس حية للعدو بعد الانتصار عليه، بما في ذلك النساء والأطفال والمواشي، جميعها تقدم قرباناً ليهوه: "ولما سمع الكنعاني ملك عراد الساكن في الجنوب أن إسرائيل جاء في طريق أتاريم، حارب إسرائيل وسبى منها سبياً. فنذر إسرائيل نذراً للرب وقال: إن دفعت هؤلاء إلى يدي أُحرّم مدنهم. فسمع الرب لقول إسرائيل ودفع الكنعانيين فحرّموهم ومدنهم. فدعي اسم المكان حُرمة." (العدد 21: 1 – 3).
وقانون التحريم هذا سوف يُطبق بشكل خاص على المجموعات الإثنية الساكنة في كنعان، الأرض التي أعطاها الرب ميراثاً لبني إسرائيل، فهؤلاء يجب إفناؤهم عن بكرة أبيهم، أما بقية أعداء إسرائيل خارج أرض الميعاد فتطبق عليهم قواعد أقل قسوة. وهاتان القاعدتان موضحتان في سفر التثنية حيث يقول الرب لموسى: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك… وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبقِ منها نسمة بل تحرمها تحريماً." (التثنية 20: 10 – 17).
على أن ما فاجأ موسى بعد ذلك الانتصار الساحق على ملك عراد، هو أن ذلك الجيل الذي وضع عليه كل آماله لم يكن ألين عريكة من الجيل السابق، وها هو قد بدأ بالتذمر عليه وعلى إلهه: "وتكلم الشعب على الله وعلى موسى وقالوا: لماذا أصعدتنا من مصر لنموت في البرية؟ فإنه ليس لنا خبز ولا ماء وقد سئمت نفوسنا هذا الطعام الخفيف. فأرسل الرب على الشعب حيات نارية فلدغت الشعب ومات قوم كثيرون من إسرائيل. فأقبل الشعب على موسى وقالوا: قد خطئنا إذ تكلمنا على الرب وعليك فادعُ الرب أن يزيل عنا الحيات. فتضرع موسى لأجل الشعب فقال الرب لموسى: اصنع لك حية وارفعها على سارية فكل لديغ ينظر إلى الحية يحيا. فصنع موسى حية من نحاس وجعلها على سارية، فكان أي إنسان لدغته حية ونظر إلى الحية النحاسية يحيا." (العدد 21: 5 – 9).
وصل موسى إلى مناطق شرقي الأردن التي كانت مقسمة إلى ثلاث ممالك: مملكة الآموريين، ومملكة مؤاب، ومملكة عمون. فحارب موسى أولاً سيحون ملك الآموريين وقتله هو وبنيه وجميع قومه رجالاً ونساءً وأطفالاً، وأسكن قسماً من بني إسرائيل في أراضيه (العدد 21: 21 – 26. التثنية 2: 30 – 35). وبعد استيلائه على مؤاب لم يقرب مملكة عمون لأنها كانت حصينة بل تابع طريقه شمالاً نحو مملكة باشان (= حوران الحالية) واصطدم مع ملكها عوج في موقع إدرعي (= درعا) وفعل به وبقومه مثلما فعل بسيحون ملك الآموريين ولم يبقِ على أحد منهم (العدد 21: 32 – 35).
على أن هذه الانتصارات التي حققها بنو إسرائيل بقيادة يهوه لم تفلح في جعله أكثر جاذبية لهم، لاسيما بعد أن تعرفوا في مؤاب على الإله الكنعاني بعل واجتذبتهم طقوس الفرح والابتهاج والرخصة الجنسية المرتبطة بعبادته، والتي كان للنساء دور كبير في قيادتها تحت رعاية زوجة البعل حامية النساء. وهكذا أدار الشعب ظهورهم لذلك الإله المتجهم الذي يفاخر بقدراته الرجولية الفائقة ولكنه خامل جنسياً، وتعلقوا ببعل الذي كان نشاطه الجنسي ينعكس على جميع مظاهر الطبيعة حياةً ونماءً وازدهاراً، والذي نراه في أحد مشاهد أسطورة البعل الأوغاريتية وهو يقوم بفعل الحب آلاف المرات.
لقد تحققت مخاوف يهوه من إغواء نساء كنعان لرجال إسرائيل وجذبهم لآلهتهن عندما قال لموسى: "احترز أن تقطع عهداً لسكان الأرض… وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن." (الخروج 34: 15 – 16). فقد أقام الشعب بموضع من مؤاب يدعوه النص شطيم وراحوا: "يزنون مع بنات مؤاب، فدَعَونَ الشعب إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن. وتعلق إسرائيل ببعل فغور، فحمي غضب الرب على إسرائيل. فقال الرب لموسى خذ جميع رؤساء الشعب وعلقهم (أو واصلبهم، في ترجمة أخرى) فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل. فقال موسى لقضاة إسرائيل: اقتلوا كلُّ واحد قومَه المتعلقين ببعل فغور." وبعد ذلك أرسل يهوه وباءً في إسرائيل قتل منهم أربعة وعشرين ألفاً، ولم يتوقف الوبأ حتى جيء برجل إسرائيلي وخليلته المديانية وطُعنا في بطنهما بالرمح أمام خيمة الرب تكفيراً عن إسرائيل. وكانت المرأة القتيلة ابنةً لأحد رؤساء مديان، فقال الرب لموسى: ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التي كادوكم بها في أمر بعل فغور (العدد: 25). وكانت هذه أكبر مجزرة يرتكبها يهوه في صفوف شعبه الذي يأبى أن يكون مختاراً. وقد تناسب هول حمام الدم هذا مع مدى إحساس يهوه بعنّته الجنسية أمام البعل. ولسوف نرى كيف أن تاريخ يهوه سيبقى موسوماً بغيرته من هذا الإله حتى نهاية القصة التوراتية.
كان آخر عمل عسكري لموسى هو حملته على مديان التي تآمر أهلها مع مؤاب ضد إسرائيل. وفي هذه الحملة يبدو موسى أكثر قسوةً من إلهه عندما أمر بقتل الأطفال الأسرى دون تعليمات مسبقة من يهوه:
"وكلم الرب موسى قائلاً: انتقم نقمة بني إسرائيل من المديانيين وبعد ذلك تنضم إلى قومك (= تموت)، فكلم موسى الشعب قائلاً: جردوا منكم رجالاً للجيش يغزون إلى مدين ليُحِلُّوا نقمة الرب بمدين… فقاتلوا مدين كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر، وملوك مدين قتلوهم فوق قتلاهم… وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم، وجميع بهائمهم ومواشيهم وأثاثهم غنموها، وجميع مدنهم مع مساكنهم، وقصورهم أحرقوها بالنار، وأخذوا جميع الأسلاب والغنائم من الناس والبهائم وعادوا… فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جيش الحرب وقال لهم موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية؟… فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها، وأما إناث الأطفال اللواتي لم يعرفن مضاجعة الرجال فاستبقوهن لكم حيات." (العدد 31: 1 – 18).
بقية سفر العدد عبارة عن تفصيلات في الشرائع والطقوس يتلوها الرب على موسى، نقتبس فيما يلي القسم الخاص بطعام يهوه والوجبات اليومية والدورية التي يجب أن تُقدم إليه على شكل محارق توضع على المذبح، لكي تصعد إليه رائحة الشواء ورائحة الدقيق المحمص الملتوت بالزيت:
"وكلم الرب موسى قائلاً: أوصِ بني إسرائيل وقل لهم. قرباني طعامي مع وقائدي، رائحة سروري، تحرصون أن تقربوه لي في وقته. وقل لهم هذه هي الوقيدة التي تقربونها للرب: خروفان حوليان صحيحان في كل يوم محرقة دائمة، الخروف الواحد تعمله صباحاً والخروف الثاني بين العشائين، وعُشر إيفة من دقيق ملتوت بربع هِينٍ من زيت الرض للتقدمة… وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان ومعهما عُشران من دقيق ملتوت بزيتٍ للتقدمة مع سكيبهما. تلك محرقة سبت فسبت فضلاً عن المحرقة (اليومية) الدائمة وسكيبها. وفي رؤوس شهوركم تقربون محرقة للرب ثورين من البقر وكبشاً واحداً وسبعة خراف حولية صحيحة، وثلاثة أعشار من دقيق ملتوت بزيت تقدمة لكل ثور، وعُشرين من دقيق ملتوت بزيت تقدمة للكبش الواحد، وعُشراً واحداً من دقيق ملتوت بزيت تقدمة لكل خروف، محرقة، رائحة سرور، وقيدة للرب… وتيساً من المعز ذبيحة خطية للرب، فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها. وفي الشهر الأول في اليوم الرابع عشر منه، فصح للرب… الخ (تعداد للقرابين التي يجب تقديمها في أيام الفصح السبعة وهي: ثوران وكبش وسبعة خرفان وتيس خطية في كل يوم، أي ما مقداره سبعين رأساً من الماشية فضلاً عن المحرقة اليومية الدائمة.)" (العدد: 28).
فإذا جئنا إلى سفر التثنية وهو آخر الأسفار الأربعة التي تقص عن الخروج من مصر، وسنوات الإقامة في البرية، والطريق إلى كنعان، نجده عبارة عن خطبة طويلة يلقيها موسى على بني إسرائيل، يعيد فيها صياغة أحداث قصة الخروج مثلما يعيد أيضاً ترتيب شتات الشرائع التي فرضها الرب في الأسفار الثلاثة السابقة، ولذلك دُعي هذا السفر بتثنية الاشتراع، واختصاراً بالتثنية. والرب هنا لا يفعل شيئاً ولكنه يتابع شكواه من بني إسرائيل ويتوعدهم بأشد العقاب. إنه ينظر بقلق إلى المستقبل بعد أن اقترب أجل موسى، ويرسم لإسرائيل طريقين عليها أن تختار السير في أحدهما، الأول طريق معصية الرب والثاني حفظ العهد والعمل بوصاياه، ويبين لهم ما سينعمون به من بركات وما سيلحق بهم من لعنات وفقاً للطريق الذي يختارونه. وهو في ذلك لا يخفي يأسه منهم ويقول لهم على لسان موسى أنه ليس لأجل برهم سيدخلهم إلى الأرض الموعودة ولكن لأجل الوفاء بوعده الذي قطعه لآبائهم:
"اسمع يا إسرائيل. إنك اليوم عابر الأردن لتدخل وتملك أمماً أكثر وأعظم منك ومدناً عظيمة ومحصنة إلى السماء… فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو يعبر أمامك كنار آكلة، هو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وتهلكهم سريعاً كما كلمك الرب. لا تقل في قلبك إذا طردهم الرب إلهك من أمامك: لأجل بري أدخلني لأملك هذه الأرض ولأجل إثم هؤلاء الأمم طردهم الرب من أمامك. ليس لأجل برك واستقامة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك، ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فاعلم أنه ليس لأجل برك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها، لأنك شعب قاسي الرقبة. أذكر لا تنسَ كيف أسخطْتَ الرب إلهك في البرية. من اليوم الذي خرجت فيه من أرض مصر حتى أتيتم إلى هذا المكان كنتم تقاومون الرب." (التثنية 9: 1 – 7).
وكما يمكن لنا أن نتوقع من يهوه، فإن لعناته التي يرسلها على بني إسرائيل إذا حادوا عن طريق الرب هي أكثر بأضعاف من بركاته التي يسبغها عليهم إذا سلكوا فيه، على ما نقرأ في الإصحاح الثامن والعشرين. وهذه مقتبسات منه:
"إذا أطعت الرب إلهك حافظاً جميع وصاياه التي أنا آمرك بها اليوم وعملتَ بها، يجعلك الرب إلهك فوق جميع أمم الأرض، وتحلّ عليك جميع هذه البركات وتشملك… مبارك تكون في المدينة ومباركاً تكون في الحقل ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك…الخ. ولكن إن لم تسمع لصوت إلهك… تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك، فتكون ملعوناً في المدينة وملعوناً في الحقل… يلصق بك الرب الوبأ حتى يبيدك عن الأرض… يضربك الرب بالسل والحمر والبرداء والالتهاب واللفح والذبول فتتبعك حتى تفنيك… ويجعل الرب مطر أرضك غباراً وتراباً ينزل عليك من السماء حتى تهلك. يجعلك الرب منهزماً أمام أعدائك، في طريق واحدة تخرج عليهم وفي سبع طرق تهرب أمامهم… ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه… يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك… يسوق عليك الرب أمة من بعيد من أقاصي الأرض إلى أقاصيها… ويردك الرب إلى مصر في سفن على الطريق التي قلتُ لك لن تعود تراها أبداً، وتباعون هناك لأعدائكم عبيداً وإماءً وليس من يشتري." (التثنية 28: 1 – 68).
ويهوه إذ يسوق هذا الوصف المروع لمصير بني إسرائيل إذا لم يحفظوا عهده، عارف مسبقاً بأنهم سوف ينقضون هذا العهد، فهو والحالة هذه يتنبأ لهم بما سيؤولون إليه:
"وقال الرب لموسى: إنك مضطجع مع آبائك، وإن هذا الشعب سيقومون ويفجرون باتباع آلهة الأجنبيين في الأرض التي هم داخلون إليها فيما بينهم ويتركونني وينقضون عهدي الذي قطعته معهم، فيشتد غضبي عليهم في ذلك الوقت وأتركهم وأحجب وجهي عنهم فيصيرون مأكلاً، وتصيبهم شرور كثيرة وشدائد فيقولون في ذلك اليوم: أليس لأن إلهنا ليس فيما بيننا حتى أصابتنا هذه الشرور؟ وأنا أحجب وجهي في ذلك اليوم بسبب جميع الشر الذي صنعوه إذ مالوا إلى آلهة غريبة." (التثنية 31: 16 – 18).
عندما شعر موسى بدنو أجله دعا يشوع بن نون مساعده وعهد إليه بالقيادة: "فذهب موسى وكلم جميع إسرائيل بهذه الكلمات وقال لهم: أنا اليوم ابن مئة وعشرين سنة لا أستطيع الدخول والخروج بعدُ، والرب قد قال لي إنك لن تعبر هذا الأردن فالرب إلهك يعبر أمامك وهو يبيد هؤلاء الأمم من أمامك فترثهم، ويشوع هو يعبر أمامك كما قال الرب، ويفعل الرب بهم كما فعل بسيحون وعوج ملكي الآموريين وبأرضهما وأهلكهما. فمتى دفعهم الرب إلى أيديكم تصنعون بهم حسب كل الوصايا التي أوصيتكم بها… فدعى موسى يشوع وقال له أمام أعين جميع إسرائيل: تشدد وتشجع لأنك أنت تدخل مع هذا الشعب الأرض التي أقسم لآبائهم أن يعطيهم إياها وأنت تقسّمها لهم، والرب سائر أمامك." (التثنية 31: 1 – 8).
وبعد أن بارك موسى جميع أسباط إسرائيل كما فعل يعقوب قبل وفاته، أصعده الرب إلى الجبل وهناك قتله ثم دفنه في مكان مجهول: "ثم صعد موسى من عربات (= براري) مؤاب إلى جبل نبو إلى قمة الفسحة تجاه أريحا (الواقعة على الضفة الغربية من الأردن)، فأراه الرب جميع الأرض… وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب بأمر الرب، ودفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فغور، ولم يعرف أحد قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة حين مات، ولم يكل بصره ولا ذهبت نضارته. فبكى بنو إسرائيل على موسى في عربات مؤاب ثلاثين يوماً إلى أن انقضت أيام بكاء مناحة موسى. أما يشوع بن نون فامتلأ روح حكمة لأن موسى وضع عليه يديه، فأطاعه بنو إسرائيل." (التثنية 34: 1 – 9).
العبرانيون الآن على الضفة الشرقية لنهر الأردن يتهيأون للانقضاض على كنعان، ويهوه على وشك الوفاء بالوعد الذي قطعه لإبراهيم بعد مرور أكثر من أربعمئة سنة. فهل سيفي يهوه بوعده؟
إن مسار الأحداث اللاحقة سوف يثبت إلى أي حد كان يهوه ملتزماً بوعده. فهذا الإله على خموله الجنسي ملتهب الرغبات، ونظراً لافتقاده الشريكة فقد صب هذه الرغبات التي لا تجد لها موضوعاً على إسرائيل، وراحت استيهاماته تجعل منها حبيبة وزوجة. وبما أن هذا الحب كان من طرف واحد فقد بقي يهوه عبر أسفار الكتاب اللاحقة يشكو من خيانة الحبيبة ومن زناها مع عشاقها لاسيما بعل الإله النشيط جنسياً، ويفصح عن شبقه المكبوت بتعابير جنسية صريحة: "إنها لم تعلم أني أعطيتها البُرّ والسلاف والزيت، وأكثرتُ لها الفضة والذهب فجعلوهما لبعل… وأعاقبها على أيام البعليم التي فيها كانت تُبخّر لهم وتتزين بشنوفها وحليها وتذهب وراء محبيها وتنساني أنا الرب." (هوشع 2: 8 – 13). "هل رأيتَ ما فعلت المرتدة إسرائيل كيف انطلقت إلى كل جبل عال وإلى تحت كل شجرة خضراء وزنت هناك؟ وبعد أن صنعتْ ذلك كله قلتُ ارجعي إليّ فلم ترجع." (إرميا 3: 6 – 7). "يقال إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر فهل يرجع إليها بعدُ؟ ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة؟ أما أنتِ فقد زنيتِ مع أصحاب كثيرين لكن ارجعي إليّ يقول الرب. ارفعي عينيكِ إلى الهضاب وانظري هل من مكان لم تضاجَعي فيه؟ لقد قعدتِ لهم كأعرابي في البادية ونجستِ الأرض بزناكِ وفجورك، فامتنع الغيث ولم يكن مطر متأخر وصارت لك جبهة امرأة زانية وأبيتِ أن تخجلي." (إرميا 3: 1 – 3). "وكان بعد كل شرّك، ويل ويل لك يقول الرب، أنك بنيتِ لنفسك قبة وصنعتِ لنفسك مرتفعة في كل شارع، في رأس كل طريق بنيتِ مرتفعتك ودنستِ جمالك وفرجتِ رجليكِ لكل عابر وأكثرتِ زناكِ… أيتها الزوجة الفاسقة تأخذين أجنبيين مكان زوجها. لكل الزواني يعطون هدية أما أنتِ فقد أعطيتِ كل محبيكِ هدايا ورشوتهم ليأتوكِ من كل جانب للزنا بكِ." (حزقيال 16: 23 – 33).
وعلى الرغم من كل ذلك فإن يهوه يعيش على أمل عودة الحبيبة الخائنة إليه فيغفر لها ذنوبها ويقترن بها مجدداً كما في أيام صباها: "لكن هأنذا أتملقها وآتي بها إلى البرية وألاطفها، وأعطيها كرمها من هناك ووادي عكور باباً للرجاء، فتغني كما في أيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر. وفي ذلك اليوم تدعينني رجلي ولا تدعينني بعدُ بعلي. وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تُذكر من بعدها بأسمائها… وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والمراحم، أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب." (هوشع 2: 14 – 19).
وفي انتظار عودة المحبوبة فإن الغيرة تلتهم عقل يهوه وروحه. وعلى حد تعبير سفر نشيد الإنشاد فإن "المحبة قوية كالموت، والغيرة قاسية كالهاوية." (نشيد الإنشاد 8: 6).
فراس سواح
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد