«صيادو اللؤلؤ» لجورج بيزيه: غرام وحرائق وانتقام في شرق متخيّل
إذا كنا قد اعتدنا، لدى الحديث عن العلاقة بين الشرق والغرب، لا سيما كما كانت تبدو من خلال الصورة التي كوّنها الغرب عن الشرق خلال القرن التاسع عشر، أن نقصر حديثنا عما سميناه «الاستشراق»، على الشرق العربي، فإذا بعدنا عنه قليلاً قد لا نصل الى أبعد من إيران وتركيا، فإن مفهوم الشرق الساحر، المستقى خصوصاً من حكايات ألف ليلة وليلة، ثم من بزوغ حضارات الهند والصين واليابان في المخيلة الغربية، هذا المفهوم لدى الغرب كان دائماً يشمل الشرق البعيد أيضاً، مميِّزاً الشرق الأقرب اليه باسمين تضيع الفوارق بينهما: الشرق الأدنى والشرق الأوسط.
> طبعا كانت الغلبة في الاهتمام، غالباً، للشرق الأقرب الى الغرب... غير ان هذا لم يمنع الكتاب والفنانين من ابداع أعمال -متخيَّلة أساساً- تتحدث عن الشرق الأبعد. وقد لا نكون في حاجة هنا الى أي تأكيد على أن الشرق البعيد فتن جماهير الغرب بمقدار ما فتنه الشرق القريب، وأحيانا أكثر بكثير. ولعل هذا يرجع الى ان الغرب حين تعامل مع أسطورية الشرق القريب، عمد دائماً الى تناولها من ناحية تاريخية، أي في أعمال تنتمي الى عصور ألف ليلة وليلة، وإلى عصر هارون الرشيد وزمن الحروب الصليبية، حيث إنها كانت قليلةً تلك الأعمالُ الراهنة التي تتناول شرقاً قريباً، في المكان كما في الزمان، ولعل مرد ذلك، ان راهنية الشرق القريب في ذلك الزمن، كانت تعاني نوعاً من الخواء الصحراوي. أما بالنسبة الى الشرق الآخر، فلقد رأى الخيال الغربي أن ماضيه لا يزال حاضراً، لم يفقد في الزمن الراهن أي قسط من سحره.
> المهم هنا هو أنه كانت ثمة أيضاً أعمال فنية وإبداعية في شكل عام، تتناول شرقاً أكثر غموضاً وتسبر أغوار حياة وأخلاقيات شديدة الغرابة. ومن الممكن لنا، في هذا السياق أن نضع في خانة هذه الأعمال واحدة من أوبرات جورج بيزيه، الفرنسي الذي اشتهر خصوصا بأوبرا «كارمن»، وبالتالي بكونه مهّد لما سيسمى بعده بخمسين عاماً بالأوبرات الايطالية ذات النزعة الواقعية الطبيعية والأفكار المباشرة. ولئن كانت أوبرا «كارمن» قد تميزت حقاً بوفائها للواقع وألوانه الفجة، بعيداً من الأساطير البطولية والمشاهد الرومانسية والرعوية التي كانت اعتادت أن تميز فن الأوبرا من قبل بيزيه، فإن «كارمن» لم تطلع كعشبة شيطانية من اللامكان، بل إنها أتت استكمالاً لخط كان بيزيه رسمه منذ «صيادو اللؤلؤ»، حتى وان كانت أجواء هذه الأخيرة تبدو غريبة في مناخات الشرق القديم: سيلان (سريلانكا اليوم) تحديداً، إذ حتى في تلك الأجواء، وضع بيزيه حكاية واقعية غرامية قال من خلالها موقفه المناصر للمرأة على اعتبار انها في نهاية الأمر ضحية المجتمع.
> «إذاً، لدينا هنا في هذا العمل الذي يعود تأليفه الى العام 1863، أي حين كان الموسيقي بعدُ في الخامسة والعشرين من عمره، حكاية وموضوع واقعيان على خلفية غريبة -ولا نقول غرائبية بالطبع-. وهذا العمل كان الرحم الذي ستولد منه «كارمن» بعد دزينة من السنوات، أي في العام نفسه الذي رحل فيه بيزيه عن عالمنا... وأحداث «صيادو اللؤلؤ» تدور، كما أسلفنا في سيلان، التي كانت في تلك الأزمان تتسم بشيئين: صناعة الشاي، والغموض الشرقي البعيد، قبل أن تملأ فتياتها بيوت الناس خادمات، ويتغير اسم البلد، ويصبح الشاي شيئاً شديد العمومية وكفّ عن الارتباط بسيلان وحدها. والأحداث التي نشير اليها، وتشكل عصب هذا العمل، تدور في قرية قبائلية يعيش أهلها من صيد اللؤلؤ. أما القبيلة، فإنها عند مطلع الأوبرا تكون قد انتخبت زوركا الشاب زعيماً لها. وكان واحد من عجائز الصيادين قد أتى من مكان بعيد بفتاة حسناء غامضة جعلها، حين يبدأ موسم صيد اللؤلؤ المفعم بالمخاطر على الصيادين، تعتلي صخرة تطلق من عليها أناشيدها الهادفة الى طرد الأرواح الشريرة التي تسبب تلك المخاطر. بيد أن غموض الفتاة، وتدعى ليلى، لم يمنع نادر، الشاب وصديق زوركا من أن يتذكرها: لقد سبق له أن شاهدها في معبد في مدينة كادي، كان حرماً، لكنه هو وصديقه زوركا تمكنا من التسلل اليه. وهكذا، إذ يدرك نادر هذا، يتسلل الى الكوخ المحرّم الذي تقيم فيه ليلى، ليجدها غارقة الآن في ذكرى ذلك الغريب الذي كانت لمحته ذات يوم في معبدها القديم. غير ان تسلل نادر الى كوخ ليلى يغضب الآلهة، ما يحرك قوى الطبيعة فتهب العواصف وتتلاطم الأمواج، حتى يهرع الصيادون خوفاً الى زوركا بعد أن يفاجئوا العاشقين ويدركوا سبب غضب الطبيعة الإلهي. لكن زوركا، صديق نادر، يقرر مسامحته... وعلى الأقل حتى اللحظة التي يتعرف فيها بدوره الى ليلى ويتذكرها... ويتذكر انه هو بدوره كان أغرم بها ذلك اليوم البعيد. وهنا، إذ تأكله الغيرة، يغيّر رأيه ويقرر أن يفني العاشقين في اللهيب. و إذ تكون العقوبة على وشك أن تنفذ، يشاهد زوركا عقداً في جيد ليلى يذكّره برجل كان قد أنقذه ذات يوم من موت محقق... فيغير رأيه مرة أخرى، ويسعى الى اضرام النار في أكواخ صيادي اللؤلؤ الغاضبين. وإذ يكون هؤلاء منهمكين في اطفاء النيران التي تكاد تقضي على مآويهم، يساعد زوركا العاشقين على الهرب. أما هو، فإن الصيادين يكتشفون بسرعة كونَه مضرمَ النار في أكواخهم، وانه قد ساعد نادر وليلى على الهرب، فلا يكون منهم إلا أن يحولوا غضبهم في اتجاهه ويقتلوه.
> لحّن جورج بيزيه هذا العمل، الذي ستطغى عليه سمعة «كارمن» بعد ذلك بسنوات، الى درجة أن كثراً سيعتقدون دائماً أن جورج بيزيه لم يلحن سوى «كارمن» في حياته -اضافة الى «لارليزيان» التي رأى فيها النقاد والجمهور في زمنها محاكاةً لموسيقى فاغنر-، لحنه انطلاقاً من نص كتبه أوجين كورمون وميشال كاريه، اللذان اقتبساه بدورهما عن حكاية شرقية قديمة وجعلا أحداثه تقع في سيلان، التي كانت بدأت تشتهر في ذلك الحين كمكان للسحر والغموض. والحال أن عادية الموضوع (في مقابل غرابة الأجواء) كان من شأنها أن تخلق موسيقى عادية، لكن بيزيه الذي كان يعرف أن أمامه رهاناً صعباً عليه من خلاله أن يثبت وجوده، بذل جهوداً استثنائية مكّنته في نهاية الأمر من أن يجدد ويفاجئ -انطلاقاً من تصور ما للموسيقى الشرقية الآسيوية والهندية بخاصة-، وعلى الأقل في عدد من مناطق الأوبرا: الأغنية الثنائية التي يؤديها نادر وزوركا في الفصل الأول (وبدت مباراة حقيقية بين صوتين يخدمهما لحن سلس متنوع)، الأغنية الغرامية التي يشكو فيها نادر حبه العفيف لليلى (في الفصل الثاني) وأغنية ليلى المملوءة بالحنين والحنان (في الفصل الثاني أيضاً)... ولقد بدت كل تلك الأغاني فاتنة ساحرة تكشف تناسق اللحن البسيط ذي الجمل الموسيقية الهادئة العذبة.
> ولد جورج بيزيه (1838 - 1875) في باريس، ودخل الكونسرفاتوار وهو في العاشرة من عمره، وكان في السابعة عشرة حين ألف سمفونيته الأولى، وبعد عامين حاز جائزة روما، التي مكَّنته من العيش ردحاً في العاصمة الايطالية، حيث اطَّلع عن كثب على تطور الموسيقى في ايطاليا، وكتب أوبراه الهزلية الأولى «دون بروكوبيو». غير ان الجمهور لم يحسن استقبال أوبراته الثلاث التالية «صيادو اللؤلؤ» و «ابنة بيرت الجميلة» و «جميلة»... وكلها ذات موسيقى مستوحاة من شرق متخيَّل. أما النجاح، فلم يكتب له إلا منذ العام 1872 مع كتابته «لارليزيان»، ما مكَّنه من أن يحوز عقداً لتلحين «كارمن». ولنذكر أن «كارمن» نفسها لم تحقق نجاحاً جماهيرياً أول الأمر، ما أحزن بيزيه، وجعله يصاب بتوتر سرعان ما قضى عليه عبر سكتة قلبية، يومَ تقديم العرض الحادي والثلاثين لتلك الأوبرا، التي منذ ذلك الحين ستصبح واحدة من أشهر الأوبرات في تاريخ الموسيقى الأوروبية.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد