غسان الرفاعي: فلسفة العطب من جديد
_1_
يزعم مؤرخ للفكر المعاصر لا يخلو من خفة الدم وقلة الأدب، أن هناك ثلاث مدارس فكرية جديدة تلقى نجاحاً منقطع النظير في أوربا الغربية الآن: تسمى الأولى« فلسفة الروليت» وتنتشر في باريس، وتسمى الثانية«فلسفة الحالة» وتنتشر في مدينة لندن، وتسمى الثالثة«فلسفة العطب» وتنتشر في مدينة روما.
وتشكل هذه المدارس الفكرية الثلاث الأعمدة التي تقوم عليها الليبرالية الحديثة الساعية إلى التهام الحضارات المغايرة، واستبدالها بحضارة«متعولمة» تلغي الفوارق بين الناس وتحقق الاستقرار المنشود.
-2-
ويحدد المؤرخ سمات فلسفة الروليت على النحو التالي:«إن الإنسان المعاصر لا يقامر بهدف التسلية، أو الإثراء غير المشروع، أو التخلص من الفراغ.
أنه يقامر لأنه حيوان ميتافيزيقي، ولأنه مصاب بالدور العقائدي, لقد أصبحت الحياة المعاصرة منظمة تنظيماً حديدياً، وخانقة إلى درجة لا تطاق، ولم تعد هناك وسيلة لثقب هذا النظام، والتخلص من هذا الاختناق إلا بالمقامرة، إن المقامرة، بهذا المعنى، هي استرداد لحرية الإنسان إزاء صرامة الحتمية، وعبثية التمرد.
ويورد المؤرخ مثالاً من واقع الحياة اليومية:«السيد غاستون موظف نشيط ونزيه في دائرة حكومية، وضعه مريح ضمن المقاييس المتداولة في وسطه ولكنه يشعر بالتعاسة، وأن كان لا يجرؤ على المجاهرة بها.
إنه يتوق إلى مزيد من السلطة، ولكنه يعرف أنه لن نستطيع الحصول عليها، ويحلم بالمزيد من المال، ولكنه واثق من أنه غير قادر على امتلاكه، ويطمح إلى المزيد من النجاح، ولكنه متأكد من أنه استنفذ كل الفرص التي أُتيحت له.
ما لعمل؟ في أعماقه رغبة معربدة إلى المقامرة، تطفو على سطح شعوره، بعض الأحيان، وإن كان يحبطها، خوفاً أو خجلاً.
المقامرة قد تمكنه من السلطة، وقد تأتي له بالمال، وتؤمن له النجاح، وهذه«القد» هي أملة الوحيد في استعادة حريته إزاء مجموعة الحتميات التي تحيط به من كل جانب، فلماذا لا يخطو الخطوة التي لابد منها؟
-3-
ثم يورد المؤرخ سمات فلسفية الحانة على النحو التالي:«ليس صحيحاً أن الإنسان المعاصر يذهب إلى الحانة، يهدف النسيان، أو الابتهاج أو الثرثرة أنه يذهب إلى الحانة لأنه حيوان منفرد معزول، ولأنه نصاب بدوار المشاركة.
لقد ألغت الحياة المعاصرة كل وسائل الاتصال المباشرة و غير المباشرة، وهمشت كل العلاقات الصحية بين الناس، بحيث يشعر الإنسان أنه وحيد، بالرغم من الكثافة الجماهيرية التي تستحقه، مضطهدة بالرغم من كل الضمانات التي تعطى له.
الذهاب إلى الحانة، بهذا المعنى، هو استجداء للاتصال، تسول للمشاركة الحقيقية، تحرر من الاضطهاد، وهروب من العزلة، وهدم لكل القيود التي تقوم بين الأنا والأنت.
ويورد المؤرخ مثالاً آخر من واقع الحياة: «السيد مايكل مدرس في مدرسة ثانوية، مستقيم، مثابر، مخلص، مهذب، يقدره مدير المدرسة والمفتش العام، ويحترمه طلابه، ويمتدحون سعة إطلاعه وحبه لعمله التربوي، ولكنه يشعر أنه أعزل، مضطهد، وإن كان حريصاً على عدم أشعار الآخرين بحقيقة ما يعانيه.
إنه يعرف أن مدير مدرسته يحترمه لا لأنه يقدره، وإنما لأنه بحاجة إليه، ويعرف أن طلابه يلتفون حوله لا لأنهم يحبونه بنزاهة وتجرد، وإنما لأنهم راغبون في سرقة معارفه.
كلما أنهى دروسه وعاد إلى منزله شعر أنه وحيد وأن كل مظاهر المشاركة هي مزيفة ومزورة، أنه وحيد بالرغم من أنه مواطن صالح، وحيد بالرغم من أنه إنسان اجتماعي.
وهو لهذا كله لا يذهب إلى منزله، وإنما يسترق الخطى إلى الحانة.
هنا يحطم قضبان عزلته، ويتحرر من الشرنقة التي تلتف حول عنقه، ويشعر أن هناك آخرين يقاسمونه تمزقه وحرقته، هنا يكتشف بأنه محبوب لا من هذا أو ذاك، بمن تربط بهم روابط محددة، وإنما من جميع غفل، ليس له وجود، وإنه مواطن له حقوق، وأم كانت موهومة، وإنه لإنسان كبير في عالم مكتظ بالناس الكبار....».
-4-
ثم يورد المؤرخ سمات فلسفة العطب على النحو التالي:« يبقى الإنسان الوديع المسالم، الذي يكفي الناس خيره وشره، ومحافظاً على اتزانه النفسي، وصحته العقلية، واستقراره الاجتماعي، طالما لم يتعرض لهزة، ولم يصطدم بفاجعة، حتى إذا ما داهمته نازلة تخرجه عم أطواره الطبيعية، وجد نفسه مرغماً على ارتكاب حماقة، تسبب له ولعائلته الدمار والخراب.
قد يقاوم متمسكاً برصيده من المحاكمة العقلية، ولكنه سرعان ما يتداعى، ويتسلل إليه العطب وتظهر عليه أعراض التشقق الداخلي، والانهدام السلوكي، وينقلب إلى شخصية من شخصيات ديستوفسكي، يقدم على اغتصاب نفسه فبل الإقدام على اغتصاب الآخرين.
يبدو أن المجتمع المعاصر مكتظ بهؤلاء المعطوبين الذين يتسلقون المناصب المسؤولة ويتجولون في دهاليز السلطة، غير مبالين بالأذى الذي يخلفونه وراءهم، ولا بالمتاعب التي قد يلحقونها بأصدقائهم والمقربين منهم.
ويورد المؤرخ مثالاً من واقع الحياة اليومية، ويسجل اعترافات موظف حكومي متقاعد:«هذا العالم الذي نعيشه عالم مجنون، مجنون... كانت لنا قيم محددة، تنظم حياتنا وتضبط علاقاتنا، وها قد تداعت هذه القيم دون أن يقوم مكانها أي بديل، كنا نؤمن بالوطنية، والنيل، والصدق، والتضحية، والواقع والتفاني، فماذا بقي لنا الآن؟ الوطنية هي في الانتهاز، والنيل هو في تفضيل المصلحة الشخصية، والصدق هو في المخادعة المستمرة، والتضحية هي في إذاء الآخرين، والترفع هو الانغماس في الصغائر، والتفاني هو التخلع الأخلاقي.
كل شيء يتفتت، ويختصر أمام عيوننا الشاخصة، ولكننا لا نملك القدرة لا على التغير، ولا على التأقلم، ماذا نفعل؟
«حاولت أن أقاوم هذا الانهيار بشيء من التماسك الداخلي، والمناعة الأخلاقية، ولكنني فشلت، إذ اكتشفت أن المقاومة نوع من الحماقة غير المبررة.
كيف أقاوم والخلل تسرب إلى منزلي وعائلتي، هل تصدق؟ أبنتي«نساكن» رجلاً في مثل سني، طبعاً في أن تؤمن الحصول على بعض الرفاهية.
قالت لي دون خجل:«ماذا تريد مني أن أفعل؟ هذا الرجل يغدق علي ويغطي كل نفقاتي ولا يتذمر.
قد يمل مني بعد فترة، وقد يتركني، ولكنني سأجد غيره»، أبكتني كلماتها، ولكنني فشلت في إقناعها بالتخلي عن سلوكها.
أبني عضو ناشط في تنظيم في تنظيم مشاغب، ويناضل من أجل الاعتراف بشرعية الشذوذ الجنسي، وهو يرفض مناقشة هذا الموضوع معي، لأنني-حسب زعمه-«رجعي متزمت». منذ شهر تقريباً، ذهبت لزيارة أخي، وهو ميسور الحال بسبب ارتباطاته مع ألمافيا، صافحته بحرارة، بعد أن كنت أقاطعه وطلبت منه أن يساعدني، فوقع لي شيكا بمبلغ محترم ونصحني أن أحيا حياة طبيعية، وأن إجابة الأمور بشجاعة، وبعد أن دست المال«المتسخ» في جيبي شعرت بالخجل، ولكنني تجاوزت الأزمة، وحينما شجعتني زوجتي قائلة:«ماذا جنيت من استقامتك يا مسكين، أخوك رجل نبيل وشهم...»
«وفجأة قررت أن أفقد عقلي: ذهبت إلى بار مشبوه، وأنفقت ربع ما حصلت عليه من المال، وفي اليوم التالي ذهبت إلى بار مشبوه آخر، وأنفقت ربعاً آخر، ثم توالت سهراتي في البارات إلى أن أتيت على كل ما أملك، كنت أشعر بحاجة ماسة إلى ارتكاب حماقة أو أجنحة أو أي شيء آخر... ما قيمة كل ما أفعله وما أبنية إذا كان متعامل مع ألمافيا تقل زوجتي بأن هذا المتعامل نبيل وشهم؟».
-5-
هل من الضروري أن تكون مؤرخاً للفكر المعاصر، تمتاز بخفة الدم وقلة الأدب حتى تكتشف هذه الفلسفات الثلاث: فلسفة الروليت، وفلسفة الحانة، وفلسفة العطب؟ هل من الضروري أن تسافر إلى لندن وباريس وروما حتى تلتقي نماذج تجسد هذه الفلسفات: يكفي أن تبقى في منزلك، وأن تستحضر بعض معارفك حتى تكون مؤهلاً لكتابة أطروحة عن هذه الفلسفات؟.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد