«أجاثا كريستي» الروائية التي اقتحمت عالم بوليسية الرجل
تعد هذه الروائية سيدة للرواية البوليسية في تاريخ الرواية، كونها مؤسسة لهذا الشكل في السرد الروائي، وقد استطاعت أن تستقطب شرائح متعددة إلى قراءة الرواية.
المرأة التي عاشت كثيراً ورأت كثيراً وارتحلت كثيراً وكتبت كثيراً، قالت ما لم تقله كاتبة من قبلها، صورت أجواء روائية غاية في الإثارة والحساسية والجرأة الأدبية، ولو لم تكتب اسمها تحت كل هذه الإبداعات البوليسية لما كان بوسع أحد أن يتصور بأن ثمة امرأة غارقة في الرومانسية تقف خلف كل هذه الأجواء.
وتأتي أجاتا كريستي لتكتشف جانباً جديداً من إمكانات المرأة الإبداعية عندما تفتح باب الرواية البوليسية التي تكتبها المرأة، إنها تدخل إلى عالم لا ترغب فيه المرأة، ولم تطرقه المرأة من قبل.
أكثر الكتب قراءة
عاشت كريستي ثمانين سنة، وأنجبت ثمانين كتاباً واعتبرت أعظم سيدة في العالم سنة 1971 ورسخ اسمها منذ ذلك التاريخ في ضمائر ملايين القراء من مختلف بقاع العالم ومن مختلف اللغات الحية، فقد بيع لها ملياران ونصف نسخة من مجمل مؤلفاتها، وهو الرقم الذي لا يتجاوزه أحد في العالم غير شكسبير، وحسب إحصائيات لهيئة اليونسكو الثقافية، فإن كتب أجاثا تحتل المركز الثاني في عدد اللغات التي ترجمت إليها عالمياً حيث لم يسبقها سوى منتجات شركة والت ديزني المنشورة، وقد ترجمت كتب أجاثا إلى ما يقارب 103 لغات في العالم.
وغدت كريستي السيدة الأولى في عالم الأدب البوليسي يعتمد على رواياتها كبار المخرجين لنقلها إلى السينما وتتبارى دور نشر كبرى لطباعة وترجمة أعمالها في طبعات متتالية.
سأتحدث بسطور قليلة عن حياة وأدب هذه الكاتبة التي ولدت يوم 15 سبتمبر من عام 1890 لأم انجليزية وأب أمريكي.
تصف كريستي مرحلة طفولتها/ كان شعري مرفوعاً كما كان دارجاً في تلك الحقبة ويسمى –على الطريقة الإغريقية- مع ضفائر عالية تحيط بها عصابة حريرية بيضاء ملونة كان هذا الزي فعلاً زياً أنيقاً.
وعن مرحلة طفولتها تقول: /من أمتع سنوات حياتي وأسعدها، سنوات طفولتي الأولى، كان لدي بيت وحديقة كنت أعشقهما، ومربية ممتازة، وكان أبي وأمي يجسدان الحب والحنان وجعلا من حياتهما حياة ناجحة وهانئة/.
وكأي امرأة عادية فقد تزوجت وأرادت أن تبني بيتاً وتربي أطفالاً.
في كتابها /أجاثا كريستي والشرق/ تتحدث الكاتبة الألمانية شارلوته ترومبلر عن شخصية كريستي وأدبها، وبعض الوقائع الانعطافية في سيرة حياتها، كما تتحدث عن خبرة هذه الكاتبة في مجالي التحقيق الجنائي، والتنقيب كما يكشف أسباب الحب الجارف الذي تكنه كريستي للشرق وللتاريخ القديم، حيث تقول كريستي في مذكراتها: / ما أعظم حبي لهذه البقعة من العالم! ما زلت أحبها وسأحبها إلى الأبد/.
في إشارة لها بأنها سيدة منزل تمارس حياتها المنزلية تقول كريستي في مذكراتها: أفضل وقت أخطط فيه لأفكاري هو أثناء قيامي بغسيل الصحون/.
وتقول: لو سئلت عن ميولي لأجبت بأنني أحب كل طعام جيد وأكره الكحول وكل ما يدخل في صنعه الكحول.
حاولت التدخين فوجدته بغيضاً ولم أجد ما يغريني بالتعلق به, أحب الأزهار وأعشق البحر وأهوى السفر، ولا سيما في بلدان الشرق الأدنى.
أحب المسرح وأكره الأفلام الناطقة إذ أعجز عن متابعتها وأكره الإذاعة وضوضاءها وأبغض المدن وازدحامها.
تجربة الزواج
كانت في الرابعة والعشرين عندما التقت السيد أرشبالد كريستي وتزوجته، وكان طياراً، ولكن هذا الزواج باء بالفشل رغم أنه دام سنوات وأثمر ابنتها روزالين، ففي عام 1928 اكتشفت كريستي أن زوجها يحب سكرتيرته، وهي فتاة سمراء تدعى نانسي نيل تصغرها بعشر سنوات، ويسعى للزواج منها وهي العقبة الوحيدة في وجه هذا الزواج.
وبالفعل فقد هرب الرجل من كريستي ليتزوج من هذه السكرتيرة الجميلة فكان ذلك بمنزلة وقع الصاعقة على أجاثا التي استسلمت للأوهام رغم مواهبها الأدبية، وما زادها كآبة في تلك المرحلة أن والدتها فارقت الحياة فبقيت كريستي في أزمة نفسية حادة أدت بها إلى ترك سيارتها في إحدى الطرقات واللجوء إلى فندق على أحد السواحل تحت اسم مستعار هو اسم سكرتيرة زوجها، وبدت فاقدة للذاكرة تطلب من الناس التعرف إليها وتحديد هويتها، ثم نشرت رسالة بهذا الأمر في إحدى الجرائد المحلية ولكن من دون جدوى لأن الرسالة كانت محررة باسم آخر، لكن فيما بعد تعرف إليها بعض أهلها ونقلت إلى مصح نفسي تتلقى العلاج.
بدايات الدخول إلى عالم الكتابة
بعد بقاء طويل تحت الإشراف الطبي في المصح تماثلت كريستي للشفاء وعادت إلى القلم لعله ينسيها صفعة الحب فكتبت روايتها/ الرجل القاتل/ وهي تعاني أزمة المرأة المطلقة التي هجرها رفيق دربها ليقترن بامرأة أخرى. لكن تبقى المرارة تعتصرها مدى الحياة فيبدو هذا جليا في رواياتها التي تصور في بعض المقاطع واقع هذه المرارة الشخصية، واذكر هنا مقاطع البداية من روايتها/ المرآة المكسورة/ التي تقول فيها: مارينا غريغ امرأة جميلة ذات موهبة رائعة، كانت لها قدرة عظيمة على الحب والكراهية، ولكنها لم تكن مستقرة فمن المؤسف حقاً أن يفقد المرء الشعور بالاستقرار. وفي/ذاكرة الأفيال/ تقول: السيدة بيرتن كوكس تفتح من جديد خزائن ماضي رافينز كروفتا، ولكن هذا الماضي مختلف ومخيف. وفي/تحريات باركرباين/ تكتب: أحست السيدة باليأس والأسى، ولكن حياتها انقلبت رأساً على عقب بعدما قرأت في الصحيفة إعلانا يقول: هل أنت سعيد.
مرحلة جديدة من الحياة والكتابة
لم تستسلم كريستي لليأس ولكتابة المرثيات، وهنا تقرر أن تبدأ فصلاً جديداً من حياتها، هذا الفصل الذي سيكون بطله زوجها الثاني، فقد سافرت إلى العراق وتزوجت من السيد ماكس ما للون وهو عالم آثار كان يعمل في المناطق الأثرية في العراق في محاولاته للكشف عن مدينة/أور/ السومرية، وربما كرد على زوجها الذي تزوج امرأة تصغرها بعشر سنوات، فقد كان هذا الزوج الثاني يصغر أجاثا أيضا بست عشرة سنة، وسرعان ما وجدت الكاتبة فيه حباً جارفاً دام 50 عاماً. كان هذا الزواج لهما تشجيعاً للقيام بـ مغامرات آثارية مثيرة تابعتها الصحافة البريطانية بدقة بين 1928- 1958. وقضى الزوجان فترات طويلة ومتقطعة طوال ثلاثة عقود كانا يتنقلان خلالها بين بالميرا وأور ونمرود وبابل والقاهرة، حقق خلالها ماللون مجداً تاريخياً كباحث عن الآثار في حين كتبت كريستي روايات مهمة في مسيرة حياتها الأدبية مثل: جريمة في وادي الرافدين، جريمة على النيل، جريمة في قطار الشرق السريع، ومسرحية اخناتون.
لقد أتاح لها الزواج من عالم الآثار الكثير من الميزات، ومنها التنقل بين الآثار، والتعرف إلى العديد من الشخصيات الأثرية والعلمية، وكذلك التنقل في العديد من دول العالم. كما أتاح لها الاطلاع على الطقوس الشرقية التي كتبت عنها في وقت كان العالم يقف مندهشاً أمام الاكتشافات الآثارية قبل التي أسهمت في حركة السياحة إلى بلاد الشرق. تقول كريستي في مذكراتها:/ التنقيب عن الآثار عمل بوليسي أيضا لأنه ينطوي على مغامرة وإثارة/.
وقد أحبت كريستي الآثار وخرائب أور وبابل، فكتبت عنها وصورتها وأرشفتها لمصلحة بعثة ماللون.
تقول كريستي إن ماللون قال لها: /هل تعرفين انك الوحيدة من بين علماء الآثار من يملك كل هذه المعلومات عن الآثار؟/.
كما أن كريستي تنتقي موضوعاتها بدقة، فإنها تنتقي عناوين رواياتها وكذلك الجمل المعبرة عن أي عمل جديد تقدمه ومن عناوين هذه الروايات: لغز ستافورد- ليل لا ينتهي – القضايا الأخيرة للآنسة ماريل- ذو البدلة البنية- الحصان الأشهب- المرآة المكسورة.
تبدأ كريستي رواياتها بجمل تجذب القارئ فتدخله بتدرج إلى وقائع عالم الرواية، فيشعر قارئها برغبة لقراءة رواية جديدة وكأنها تكتب سلسلة متصلة.
الملكة الثانية للامبراطورية البريطانية
إلى جانب كل هذا المجد الأدبي وهذه الشهرة العالمية التي حققتها بقيت أجاثا كريستي التي لقبت بـ :/ الملكة الثانية للامبراطورية البريطانية/ سيدة هادئة الطبع، تعيش حرارة وبرودة وقائع الحياة الاجتماعية العامة، وبعد كل هذه التجارب والمحن والإبداعات قالت في نهاية حياتها: هذه نزهاتي الطويلة قد انتهت، وحمام البحر الذي آسف عليه، وتناول شريحة من اللحم الـ (ستيك) أو التفاح، أو ثمار العليق، وها هي متاعب الأسنان أيضاً، والحرمان من الطباعة الأولى الدقيقة، لكن مازال هناك الشيء الكثير.. الأوبرا.. الموسيقا.. ومتعة الإيواء إلى السرير والذهاب في نوم عميق أحلم فيه بأشياء متنوعة.
شكراً لله على هذه الحياة الجميلة التي عشتها، وعلى كل هذا الحب الذي لقيته.
تقول جانيت مورجان التي كتبت سيرة حياة كريستي:
إن أجاثا كريستي سيدة ريفية بكل معنى الكلمة، ليس لأنها ولدت وترعرعت في توركاي، المنتجع الصيفي جنوب بريطانيا، بل لأن مظهرها وعاداتها كانت مطابقة لحياة وعادات الحقبة التي عاشتها تماماً، ولم تمر في حياتها بأحداث دراماتيكية ولم تسع وراء المغامرة.
لكن بقي من هذه السيدة الكثير، بقي منها كل ذاك الإرث الروائي والأدبي، وبقيت شخصية امرأة كافحت من أجل ألا تستسلم لليأس الذي كاد أن يستبد بها.
لقد رغبت كريستي في أن تقول شيئاً لأبناء هذا العالم، وقد ترجمت رواياتها إلى غالبية لغات العالم.
تحمل هذه الروائية خصوصية إبراز الجانب القوي من شخصية المرأة وهي تتحدث عن وقائع وأحداث قاسية يتعرض لها الإنسان، وهنا يمكن للقارئ أن يكتشف جوانب قاسية من شخصية المرأة بشكل عام من خلال ما ترويه أجاثا كريستي في أدبها الروائي.
عبد الباقي يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد