حرب العقال والطربوش في حماه
الجمل ـ حماه ـ خلود حدق : أعترف أني أصبت بالدهشة عندما حدثتني صديقتي هدى عن موقف والدها الرافض لخاطب تقدم بطلبها مع أنه يتمتع بالمواصفات القياسية التي يتمناها أي أهل لابنتهم ومن جميع النواحي ،وقد ازدادت دهشتي عندما تعمقت بالسبب الوجيه لرفض والد هدى للأمر والسبب هو أنه من أهل الحاضر وهو الجزء الشمالي من مدينة حماة.
و الغريب عن مدينة حماة لا يعرف أن هذه المدينة تتميز عن غيرها من المدن بأنها تقسم إلى قسمين السوق والحاضر ؛ السوق هو حماة القديمة بأسواقها و حاراتها وأزقتها ونواعيرها ومجرى نهر العاصي فيها، يسكن هذه المنطقة الحمويون الأصليون وكبار العائلات العريقة والثرية والإقطاعية قديما .
أما الحاضر فهي منطقة محدثة من المدينة سكنها قديما بعض القبائل البدوية، التي قررت أن تستقر وتتحضر و اختارت تلك المنطقة لذلك سميت بالحاضر .
والجدير بالذكر أن هناك عداوة و كره قديم بين السوق والحاضر فأهل السوق يتفاخرون بأنهم أهل المدينة و سكانها أبا عن جد، وينعتون أهل الحاضر بأنهم المتطفلون على المدينة، ويصفونهم بالعقلية المتحجرة والهمجية في التعامل، و التخلف العلمي والعقلي أما أهل الحاضر فيعتقدون أنهم الرجال الأشداء و أصحاب الأصول البدوية العريقة، ذوو النخوة والكرامة وإلى ما هنالك، أما أهل السوق لا يصلون بأي شكل من الأشكال إلى مستواهم في تلك الصفات .
و تعقيبا على ذلك يحكى أن رجلا من الحاضر كان يرتدي الزي العربي ويضع على رأسه العقال تشاجر لسبب ما مع رجل من السوق يرتدي بدلة رسمية ويضع طربوشا على رأسه وهذه الفوارق كانت مهمة جدا، كونها العلامات المميزة بين أهل السوق وأهل الحاضر .
وأثناء الشجار غلب السوقي الحواضري، فشاع الأمر بين أهل المدينة حتى أن النسوة تناقلتها في صباحيات شرب القهوة، بأن "أبو الطربوش غلب أبو العقال عند طريق القلعة" لتنفجر الضحكات عاليا على هذا الخبر الطريف الذي يعتبره السوقيون نقطة لصالحهم وخاصة لعلمهم بما ينعتهم به أهل الحاضر .
مع العلم أن كلا الطرفين توحدا أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية وهناك وثائق تؤكد ذلك عن شخصيات عريقة من السوق والحاضر على حد سواء تعاونت ضد الاحتلال أثناء الثورة السورية.
فعلى الرغم من وجود هذه المناورات، إلا أن كلا الطرفيين يكملان بعضهما بعض في الواقع، فمن الناحية الإقتصادية مثلا هناك تبادل تجاري موسع بينهما فأهل السوق يتميزون بالحرف والمهن اليدوية، بينما أهل الحاضر يشتهرون بصناعة الأجبان و الألبان وتجارة الخضار واللحوم على أنواعها حيث أن عدد كبير منهم وإلى الآن يمتهن تجارة الأغنام مما يجعلهم من أثرياء المنطقة بسبب ما تكسبهم إياه هذه التجارة Kوالدليل على وجود الثراء عند تلك الشريحة هو الحلي والذهب الذي ترتديه النساء فعلى قدر فخامة وكثافة الذهب الذي تتزين به السيدة على قدر ما يكون زوجها ثريا ومن كبار التجار .
أما سيدات السوق فتنعكس عليهم الحالة المادية عن طريق الأناقة والترتيب والذوق الرفيع في جميع الأمور وخاصة في جلسات الإستقبال الدورية التي تقام في الصالونات ، وعند الصديقات والأقارب .
هدى فقد عقبت على رفض والدها للعريس بـ (إن استيائي هو ليس وليد فشل مشروع الزواج إنما نقمة على العقليات المتخلفة التي تحكم على الأشخاص حسب انتماءهم والغريب أن هذه العقليات لم يستطع لا الزمن ولا الانفتاح الفكري والعلمي والثقافي أن يغير فيها شيئا!!).
الدكتور محمد وهو طبيب في الجراحة النسائية يؤيد موقف والد هدى برأي خفيف ونظيف وهو المثل القائل ((خذ منهم ولا تعطيهم ))مع العلم أن هذا المثل يستخدمه كل من الطرفين اتجاه الطرف الأخر ليبيح لنفسه الزواج من الطرف الأخر دون ان يسمح بتزويج بناتهم إليه.
فالدكتور محمد هو أشهر من طبق هذا المثل بدقة شديدة فهو متزوج من فتاة من الحاضر لكنها مقيمة في كندا مع إخوتها ومع ذلك رفض رفضا قاطعا طلب أخوها للزواج من أخته ظنا منه أنه مهما أكتسب من أفكار وتربية البلد الذي يسكن فيه يبقى حواضري .
من المفارقة أن هذه العقليات مازالت موجودة إلى الآن رغم الاختلاط الكبير بين الفئتين بفضل التوسع والتداخل العمراني للمدينة ، بالإضافة إلى النضوج الفكري والعقلي وازدياد نسبة التعليم والانفتاح الثقافي بين الفئتين، إذ من المفترض أن يبشر ذلك بتلاشي مثل تلك العقليات التي تقسم المجتمع الواحد إلى مجتمعات ، والتي يكاد يصل انقسامها إلى داخل العائلة الواحدة ، على مبدأ أبن الست وابن الجارية، المثل الشعبي الدارج الذي أفرزته ثقافة حب التفوق والتميز الراسخة في مجتمعاتنا الشرقية عموماً وما المجتمع الحموي سوى نموذج مصغر ، ومن المؤسف أن فقدان هذه الثقافة لمقوماتها الحضارية التي تعطي للتفوق معناه الحقيقي، وتحولت مع الزمن جراء التخلف عن الركب الحضاري إلى محض أفكار بالية.
فالعم أبو عبد الرحمن من دمشق خلال حديثه عن نضاله في سبيل الإرتباط بمن يحب لا ينسى ذكر أنها حسب زعم عائلته دون المستوى الإجتماعي .فيقول ( وقف الجميع في وجهي عندما علموا أنني أريد الإرتباط بفتاة أصولها ليست دمشقية ومن عائلة متوسطة الحال، و والدي رفض الأمر بشكل قاطع لأن والده وأجداده كانوا أغوات وإقطاعيين أبناء الحسب والنسب الذين لا يناسبهم مصاهرة عائلة بسيطة ، لم أقتنع بهذه الحجج وتزوجت من الفتاة التي أحبها وكان ذلك منذ 45 سنة "، ويتابع العم أبو عبد الرحمن : "بعد أن تعرفت عليها عائلتي ،أحبها الجميع واحتلت مكانة مميزة لديهم وذهب حديثهم عن الحسب والنسب ادراج الرياح"
الجمل
التعليقات
أصل الإنسان هو
اعتقد ان هذا
روحي دوري على
إضافة تعليق جديد