أندريه برتون في الذكرى الاربعين لوفاته
في واحدة من أفضل المقالات عن أندريه برتون نوه الشاعر المكسيكي أوكتافوباث إلى نقطة جوهرية عن هذا الشاعر قائلاً, من المستحيل الكتابة عن أندريه برتون بلغة تنقصها العاطفة والشغف وهاهي ذكرى وفاته الأربعون تحل وبمناسبتها سيحتفل كل على طريقته حتى الخصوم ستكون لهم كلمة بشأنه ذلك أن ذكرى
برتون لابد أن يعيشها الجميع على حد عبارة الشاعر انسي الحاج فلكل قرن اسطورة, واسطورة القرن العشرين كما يرى البعض هي السوريالية, ولولا اندريه برتون وصلابته الفكرية لما كان لهذه الاسطورة مقامها في التاريخ الإنساني. ولد اندريه برتون في 1896 في تانشريه لودن- فرنسا لأب أصله من مقاطعة اللورين, و أم أصلها من بريتاني- مؤمنة وباردة سيصفها برتون لاحقاً بعبارات جد قاسية بخيلة, متسلطة, ضئيلة وحقودة, مما جعل الجو العائلي لا يطاق وهنا يكمن أحد الدوافع وراء تصريحه في كتابه (الحب المجنون) يجب طمر العائلة قبل كل شيء, ومع هذا فإن ثمة أوقاتاً جميلة في طفولة برتون لعبت دوراً كبيراً في تنمية حاسته التشكيلية خصوصاً منشورات المعارك من أجل الدادائية والسوريالية التي كان يتلقى فيها تربيته على طريقة تربية جده لأمه , بيير لكوجيس, الذي كان قاصاً ماهراً علم برتون اللغة وقصص الغموض والاسرار والاهتمام الشديد بالغابات, غادرت عائلة برتون في بداية القرن العشرين غابات بريتاني صوب باريس لتستقر قرب منطقة «بانتان» دخل اندريه المدرسة وبدأت حياته تتكدر بسبب الروتين المدرسي وتصرف أمه السلطوي, وما أن بلغ الخامسة عشرة حتى تجلى له بفضل أحد المعلمين أساطين الشعر ونوره, ما لا رميه وبودلير, شعراء الرمزية, فهذا يحضر القرارات الشعرية التي كانت تجري في مسرح لفيوكلولومبية بل حاول كتابة الشعر متأثراً ببول فاليري فكانت قصيدته الأولى التي نشرها أوائل 1914 في مجلة الكيتبة, مهداة إلى فاليري, وكانت الزيارات مع أبيه إلى بعض المتاحف والمعارض تمتع ناظريه وتعمق من حاسته النقدية, شاهد للمرة الأولى لوحات مانيس, فأثارت إعجابه بقدر ما كان والده يجدها مخزية, لكن دهشته الحقيقية تجسدت في زيارته متحف غوستاف مورو الذي أثر بشكل قاطع على مفهوم الحب لديه, ذلك أن الحب والجمال تجليا له بواسطة وجوه نساء «مورو» والوضعيات المعنية التي اتخذتها, وكم تمنى برتون لو حبس في ذلك المتحف ليلة ليطوف وحده القاعات كلها, وفي غمرة هذا التلقين الروحي والتطهير الشعري, وقع في حب ابنة خالته (مانو) التي أدرك من خلالها المزيج من الإغراء والذعر, لم تدم العلاقة طويلاً وفي تشرين الأول 1914 دخل كلية الطب تلبية لطلب أبويه, وها هو يغير في سجل الكلية تاريخ ميلاده من 19 شباط إلى 18, وهو تاريخ ولادة ابنة خالته, وسيكون لهذا التغيير أولاً عن تجربة حب فاشلة.. كان الشارع الفرنسي منشغلاً بأخبار اندلاع الحرب العالمية الأولى ولاسيما بانعدام الأمل في السلام بعد مقتل الاشتراكي «جان جوريس» وقد كتب برتون إلى صديقه رسالة يفصح فيها عن امتعاضه من المشاعر الشوفينية والحماسات الهيستيرية لدى الناس, والغريب أنه في هذه بالذات حصل على الطبعة الكاملة لأعمال رامبو التي تضمنت رسائل لم يحبذ أحد آنذاك قراءتها خصوصاً تلك الموجهة إلى جورج آرامبارد, في الخامس والعشرين من آب 1870, يحذر فيها من يقظة العسكر, تمنى برتون أن يعفى من الخدمة العسكرية لكن هيهات, فالفحص الطبي أكد أنه صالح, خدم في الجيش, وكان طوال فترة الحرب يغذي فكره بأفضل ما كان نتيجة شباب جيله أمثال «مارسيل ووشان» هذا الفنان الذي عبر عن اشمئزازه من الفن مفضلاً لعبة الشطرنج وهو صاحب نظرية جديدة تقول: أن كل ما يجده المرء من أغراض مرمية يمكن أن ترقى إلى مستوى الفن وفقاً لإرادة الفنان, ولهذا الفنان عمل في متحف نيويورك ويعد كواحد من مؤسسي الحركة الدادائية, وتأثر شاعرنا أيضاً ب¯ «أرنور كرافان» الذي كان يعتبر نفسه جندياً فاراً من سبعة عشر بلداً, غير اسمه مرات وادعى أنه الأبن الشرعي لأوسكار وايلد وذات يوم عبر الخليج المكسيكي فاختفى, ولا يعرف أحد أنه مات غرقاً, أو غير هويته واسمه ومهنته, وبات إنساناً آخر لا علاقة البتة بكل هذه الاسطورة التي خلدته كأب أول للحركة الدادائية, صاحب مجلة صغيرة مطبوعة على ورق لف اللحم, غير منتظمة الصدور كان يكتب كل موادها, صدر منها ستة أعداد فحسب عنوانها: «الآن» كان بروتون يختار التجارب الشعرية والفنية الجديدة التي شهدتها فرنسا منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى, من تتبع أخبار المجموعات الموضوعية ويستلهمها خصوصاً مجموعة «بونية» التي كانت تهاجم مراكز الشرطة والمصارف, كما كان يواصل مراسلاته مع شعراء الحداثة, آنذاك كفاليري وأبوليتير مستفيداً من ملاحظاتهم النقدية.
إزاء ما ينشره من قصائد ما تزال تعكس تأثراتهم وتأثرات مالا رميه ورامبو, إلا أنها قصائد واحدة تنم عن اسلوب بليغ لا يقبل السهولة, لكن الشيء الفائز في أعماله كان يحتاج إلى من يبرزه إلى العيان وإذا بنظره يقع أثناء إحدى استطلاعاته داخل ردهات المشفى في مدينة «نافت» على شاب أدخل للمعالجة غريب الأطوار يعاكس الممرضات بأحاديث غريبة ويرسم نفسه على بطاقات واقفاً وخلفه جثث الحرب, وكأنه متكئ على بار اللقاء بهذا الشاب سيغير حياة اندريه برتون, أنه «جاك خاشيه» الدادائي قبل الدادئية, المغرم بالملابس بحيث كان يجول مرتدياً بزي ضابط في الخيالة, أو زي طيار أو طبيب, يكره رامبو بل يشك حتى في وجوده, معجب بالفرد غاري, ويكاد يجهل أولينير ولم تعجبه مسرحيته (نديا تيرزباز).
هذا الإنسان هو الذي غير حياة اندريه برتون وبدأت أعماله تتوالى وتلقى النجاح والشهرة.
مها مؤيد
المصدر: الوحدة
إضافة تعليق جديد