مأزق الإسلام السياسي
ينطوي الإسلام السياسي على قدر هائل من العنف. استرجاع فكرة «الجهاد» في غير زمانها، كفريضة دينية ضد الآخر كافية لتبرير كل أشكال العنف والقتل. قام الإسلام السياسي الحديث كله على مشروع إعادة تأهيل المسلمين وتصحيح إيمانهم وممارستهم وعلى شكل من «الحاكمية» الإسلامية، باعتبار المفاسد والأزمات كلها مصدرها الابتعاد عن الإسلام الصحيح.
يتجه الإسلام السياسي أولاً إلى المسلمين الذين «ضلّوا» وفشلوا في إقامة نظام الإسلام، فهم موضوع فعله قبل غير المسلمين. يبدأ الإسلام السياسي من فكرة «الصحوة» لينتهي في إعلان الحرب على المسلمين الذين توزعوا فرقاً ومذاهب وجماعات واتجاهات.
الإسلام السياسي لا يعترف بتاريخ المسلمين، بواقعهم وحياتهم وكل ما أنتجوه وأبدعوه وفكّروا فيه. هم أصحاب الحقيقة المطلقة وَمَن عداهم في شبهة الارتداد والكفر والخيانة. هذه المنظومة العقائدية لا تقبل المساومة، فتتعاطى مع العالم وتدير علاقاتها بالآخرين خارج حدود الزمان والمكان وخارج الواقع واحتياجاته وحتى توازناته. هي بطبيعتها ضد التاريخ والجغرافيا وثقافة القانون والدول والحدود والمكتسبات الإنسانية والحضارية. هذه الظاهرة لم تعد قائمة بذاتها منذ صار احتضانها من دول واستخدامها لتحقيق أغراض في الصراعات الدولية. لم يعد الإسلام السياسي مجرد حركات سرية وتنظيمات في هامش المجتمعات منذ أن ارتبطت بحركة تمويل دولي واكتسبت إمكانات هائلة للنشاط ومعها وسائل تكنولوجية حديثة أشد فتكاً وتدميرا. هذه الموجة التي تجتاح العالم الإسلامي انتعشت بفضل الأزمات والصراعات والفوضى واتخذت لنفسها أشكالاً مختلفة.
يصعب الحديث عن مواجهة الإسلام السياسي في اتجاهه التكفيري القتالي في عالم الفوضى هذا. استوطن الإسلام السياسي في مشكلات ونزاعات مفتوحة، وحاول أن يأخذ شرعية منها: من الاحتلال الإسرائيلي ومعه الاحتلال الغربي، أو من أنظمة الاستبداد، أو من التمييز الطائفي، أو من الأوضاع الاجتماعية. السياسة وحدها تستطيع معالجة هذه الظاهرة، بدءا من تحصين المجتمعات من النزاعات الدولية والإقليمية، مروراً بتقوية الدول بشرعيتها الشعبية وبعدالة القوة التي تمارسها لضبط المجتمع، وصولاً إلى تفعيل الثقافة المدنية. في هذا السياق، لم تنجح تجارب القمع الدموي التي واجهت الإسلام السياسي في الجزائر أو العراق أو سوريا أو سواها، بينما يشكل النموذج المصري حتى الآن مشهداً مختلفاً يمكن الرهان عليه. برغم العنف الذي بادر إليه الإسلام السياسي دفاعاً عن مكتسبات سلطوية طارئة، فإن الدولة المصرية بكل مؤسساتها ما زالت قادرة على حماية المجتمع والتحكّم بالعنف. لكن الأهم من ذلك هو المستوى الرائع من الوعي الشعبي المصري بثقافته المدنية الذي حاصر هذه الظاهرة ويسعى إلى عزلها ضمن بيئة حزبية ضيقة هي بيئة «الإخوان».
الخطر الحقيقي في مصر يأتي من الاستنفار الدولي الغربي لدعم «الإخوان» في السياق المعروف لهذا التعاون الذي يُراد منه استخدامهم للإمساك بالمناخ السياسي للمنطقة ضد كل عناصر استقلالها واستقرارها.
إن لجوء الإسلام السياسي إلى العنف المسلح بوصفه أداة رئيسية في الصراع يعني الارتباط الواضح بقوى تمويلٍ وتسليحٍ للدولِ دورٌ رئيسيٌّ فيها. برغم ذلك لا معطيات موضوعية لحرب أهلية مصرية كما في حال المشرق العربي. لكن الفوضى يمكن أن تكون وصفة مطلوبة لكل دول المنطقة التي يُعاد تشكيلها وتتجه أكثر نحو «الفوضى الكيانية» التي تطرح مصير دولها ووحدتها للبحث.
ما بدأ يحصل في لبنان هو من جهة امتداد طبيعي لمسار الأزمة السورية وتداعياتها، لكنه من وجه آخر ليس معزولاً عن قرارات إقليمية ودولية رفعت الحصانة عن استقرار البلد ولم تعد في وارد تحييده، وهي قررت إدخاله في التوازنات الإقليمية ونزاعات القوى في سوريا. ونكاد نقول إن لبنان قد انضم بكيانه ومكوّناته إلى مصير «المسألة السورية» نفسها بوعي أو بغير وعي من قواه الأساسية، والأرجح باختيار طوعي للأطراف التي أعلنت منذ البدء انخراطها في صراع المحاور.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فلا يعني ذلك أننا أمام قدر لا مردّ له لكي ننضم إلى الحروب الأهلية الدائرة على امتداد المنطقة. إن البلد أمام محنة، لكنه أمام فرصة كذلك هي في يد قواه السياسية لكي ينأى بنفسه عن الحريق الطائفي الذي اختبر نتائجه من قبل ويجب أن يعرف عبثيته على مستوى أي مشروع طائفي. إن التنوع اللبناني الطائفي والسياسي والإرث المدني عناصر ما زالت تساعد على إعادة إحياء مشروع الدولة المركزية إذا جرى تفعيلها واستدركت معظم أطراف الطبقة السياسية احتمالات الصراع الأهلي بمراجعة سياساتها وممارساتها. فهل يعود اللبنانيون عن «حافة الهاوية» كما قيل أم انهم ركبوا المغامرة؟
سليمان تقي الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد