مسرح العبث المميت
الجمل- وليام مانسون- ترجمة: د. مالك سلمان:
عبثي – "غير منطقي بشكل جامح؛ غير عقلاني؛ مناف للطبيعة أو العقل" – معجم أكسفورد
إن العقل البشري الفردي, بقدرته المتأصلة على التحليل النقدي ﻠ "الحقائق" التي يتلقاها, يبقى الحدَ النهائي الذي لم يتم استعماره كله بعد. ولا أزال على قناعة بأن هذه القدرة, في حال مقاومتها للدعاية المتواصلة, يمكن أن تجد طريقها إلى الفهم الحقيقي للجرائم والسياسات الحكومية المحيرة والمموَهة. ليس صحيحاً أن المواطن الأمريكي العادي عاجز عن التفكير النقدي, ولكن ليس هناك أي حافز لاستخدامه. ففي كل مكان يذهب إليه, يشعر بأنه محاصر, وممنوع من الممارسة الحرة لمبادئه وقيمه. ومن وجهة نظر "المدراء" السلطويين للمجتمع الجماهيري, من "الناجع جداً" أن يتمتع 300 مليون إنسان بعقل "واحد" فقط – ساذج, ومخدَر, ومطواع – مشكل من الإعلام الجماهيري و "التضليل" الحكومي. (ومن "الناجع جداً" مراقبة الاتصالات, ليس اتصالات "الإرهابيين المشبوهين" فقط, بل اتصالات المواطنين كافة.) يتغاضى الطلبة عن جهل أساتذتهم المطلق, ويتعلمون "درس" التكيف والتآلف (إجراء الاختبارات, معدلات التخرج العامة, الشهادات, و "البحث عن وظيفة", إلخ). كما يتعلم الموظفون كبتَ شكاواهم المبررة ويتصرفون كما يطلب إليهم – لكي يحافظوا على وظائفهم الضرورية لبقائهم.
إن مثل هذه العادات المتأصلة في القبول السلبي يتم تحويلها على الفور إلى موقف غير نقدي ومتقبل بشكل واضح تجاه تدفق "الرسائل" المتطفلة المستمرة التي تنهال على أدمغتنا بشكل يومي. والنتيجة هي الاعتماد, أو الإدمان, على الإعلام – الذي, بالتعريف, يعترض معطيات "الواقع" الخام ومن ثم "يعالجها" بتحويلها إلى شكل أكثر تناسباً مع المواطن- المستهلك الخانع. فاللغة نفسها – التي كانت تستخدم فيما مضى بإسهاب لطرح وتبادل الأفكار – تعرضت للانحطاط إلى "فن الإقناع" (أي, التسويق والدعاية السياسية). وهكذا يقوم العقل الفردي, الغارق في لجة الرسائل المضللة, بإبطال واجبه الإنساني المتمثل في الفكر النقدي والتحليل الشكاك. دعونا نأخذ بعض الأمثلة (الواضحة) القليلة:
* حتى أواسط سنة 2002, لم يكن المواطنون الأمريكيون واعينَ لأي "تهديد" عسكري مزعوم آتٍ من العراق. ولكن مع حلول شهر آب/أغسطس, وبعد خطاب تشيني التلفيقي, انطلقت "حملة تسويقية كاملة", كما اعترف رئيس أركان بوش (والخبير بالعلاقات العامة) آندرو كارد بشكل عابر. وسرعان ما هبط سيلٌ من التأكيدات والاستنتاجات غير المنطقية على المواطنين الأمريكيين المنحوسين وهم يشاهدون الأخبار أو يقرؤون الصحف. وفجأة أصبحت خطط خبيثة تتعلق بأسلحة الدمار الشامل تشكل "خطراً جسيماً متزايداً". مدافعُ يخرج من فوهاتها الدخان, وغيوم فطرية, وأنابيب من الألومنيوم, وشبكات إرهابية سرية, وكعكة اليورانيوم الصفراء – صور تتكرر بشكل يبعث على الغثيان.
ومما يبعث على الصدمة, فشل المواطنون بشكل ذريع في تشغيل قدراتهم على التقييم النقدي للأدلة المزعومة والتفكير بشكل عقلاني, حتى أنهم فشلوا في طرح الأسئلة الأكثر وضوحاً (وضرورة). يمكننا أن نضعَ جانباً التضخيم العبثي واللامنطقي الذي تميزت به "الحرب" الأمريكية "على الإرهاب" – وكذلك الأسئلة التي صارت مألوفة فيما يخص عمليات تفتيش الأمم المتحدة (الناجحة), والتقارير حول (عدم وجود) أسلحة الدمار الشامل, إلخ. ومع ذلك, كان بمقدور أي مواطن أمريكي عاقل أن يدرك, بقليل من التفكير, النفاقَ العبثي والغريب وبث الرعب الذي يلف كل هذه الحملة الإجرامية. فعلى سبيل المثال: لماذا كلفت الولايات المتحدة نفسَها عناءَ التظاهر, بصفتها إحدى الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة, بالسعي للحصول على تفويض "مجلس الأمن" (خطاب باول المخجل والفارغ) – و بعد أن فشلت في ذلك, قامت بغزو العراق في كل الأحوال؟ كان بمقدور الأمريكيين الشكاكين الحريصين أن يروا التناقض الواضح – مع سقوط قناع الدبلوماسية الذي كشف عن أمة عدوانية متعطشة للحرب؟
وحتى لو سمح الأمريكيون لأنفسهم بالانخداع حول امتلاك العراق المزعوم لأسلحة الدمار الشامل, كيف يمكن لغزو (غير قانوني) أن يشكلَ حلاً للمشكلة؟ ففي نهاية المطاف, كيف يمكن للحرب أن تمنع وقوعَ الحرب, والتي كان احتمالُ وقوعها مجرد افتراض ليس إلا؟ وحتى لو كانت أسلحة الدمار الشامل تلك موجودة فعلاً, كان بمقدور أي شخص عقلاني أن يستنتج أن وظيفتها "دفاعية" (ضد إيران و/أو إسرائيل)؛ أو, بمثابة احتمال ضعيف, من أجل شن هجوم محتمل على دولة مجاورة في المستقبل. بالطبع, لجأ بوش وعصابته بلا أي خجل إلى تقنية "الكذبة الكبيرة", قائلين إن "الغيمة الفطرية" يمكن أن تحدث في الولايات المتحدة نفسها. كان بمقدور أي طالب ذكي في الصف السادس الابتدائي أن يسألَ لماذا يخاطر مثل هذا الدكتاتور, مهما كان "مجنوناً" كما قيل, في شن هجوم كهذا – فقط لكي تنهالَ عليه آلاف الصواريخ النووية؟
* مثال آخر (واضح؟): بعد اغتيال بن لادن, في باكستان (!), بواسطة في عملية بوليسية قام بها فريق من الوحدات الخاصة, كان المرء يتوقع أن تقومَ جوقة من المواطنين الأمريكيين العاقلين الحائرين بالمطالبة ببعض التوضيحات. ففي نهاية الأمر, إذا كان بمقدور مثل هذه "العملية الخاصة" السرية أن "تقضي على" بن لادن, لمَ الحاجة لغزو عسكري لأفغانستان بأكملها في الدرجة الأولى (والذي أدى إلى سفك دماء مئات الآلاف من الضحايا البريئين وتشريد أعداد هائلة منهم)؟ وبالطبع: هل كانت "طالبان" تشكل حقاً أي تهديد لأمن المواطنين الأمريكيين في "الوطن الأم"؟
* أو: دعونا نأخذ المثال (المحبط) للصناعة الطبية الأمريكية. بينما يموت عدد قليل جداً من المواطنين الأمريكيين كل عام نتيجة "أعمال إرهابية", تشير الدراسات الموثوقة إلى أن 225,000- 300,000 أمريكياً (على الأقل) يموتون كل عام نتيجة الأخطاء الطبية, وإجراءات المشافي الخاطئة, والآثار الجانبية للأدوية. "الرعاية" الصحية الأمريكية؟: "العامل الثالث المسبب للموت," تبعاً إلى "المعهد الطبي", و "منظمة الصحة العالمية", و "هيلثغريد", ومصادر أخرى. ومع ذلك يصر الأمريكيون الليبراليون, الذين يفترض أن يتمتعوا بشيء من العقل والتفكير, أن مثل هذه "الرعاية الطبية" ضرورية جداً لكل المواطنين – وأن أولئك الذين يرفضون شراء "ضمان" "أوباماكير" يجب معاقبتهم. حتى أن الحكمة الشعبية القائلة "درهم وقاية خير من قنطار علاج" قد نسيت مع اعتقاد الأمريكيين بأن الأطباء (وعلاجاتهم السحرية التي يتم الترويج لها على شاشات التلفزيون) ضروريون للحفاظ على "الصحة" (وهو مفهوم نابع من الحس السليم تعرض للتدمير أيضاً).
* وماذا عن: "التوافر" النسبي للبرامج والمبادرات الحكومية. لم يعترض المواطنون, بشكل عام, عندما تمكنت الولايات المتحدة من إنفاق حوالي 3 تريليونات من الدولارات في العراق – حيث دمرت أمة بأكملها, وقتلت مئات الآلاف من العراقيين, وضحت بآلاف الجنود الأمريكيين الذين قتلوا أو أصيبوا بتشوهات دائمة. كما أن معظم المواطنين قبلوا بإنقاذ الحكومة الأمريكية للبنوك "العملاقة التي لا يمكن أن تفلس", هذه البنوك التي باعت, بشكل غير قانوني وباستهتار شديد, سندات خزينة عديمة الفائدة, وزورت وثائق الرهن العقاري وإعادة الملكية, إلخ. كان بمقدور دافعي الضرائب الأمريكيين تقديم تريليونات من الدولارات إلى هذه الحالات "المحتاجة", إما على شكل مساعدات مباشرة أو عن طريق قروض بلا فوائد. (المواطنون الشكاكون والصحفيون الباحثون عن الحقيقة فقط هم الذين حاولوا اكتشاف ما يحدث فعلاً.) ويمكن للمواطن العاقل (الذي بات نوعاً مهدداً بالانقراض) أن يتساءل: كيف أصبحت هذه البنوك بهذه "الضخامة"؟ ... ...
تبعاً لإيمانيويل كانط, يمكن تلخيص الروح التحررية التقدمية لأنوار القرن الثامن عشر في عبارة: "الجرأة على المعرفة". واليوم, بالنسبة إلى أولئك الذين لا تعكر الأفكار المقلقة "أحلامَهم السعيدة", يمكن للمرء أن يقدم لهم مقولة سقراط التي جاءت في كتابات أفلاطون: "الحياة غير الممَحَصة لا تستحق العيش".
http://dissidentvoice.org/2013/08/deadly-theater-of-the-absurd/#more-50220
تُرجم عن ("ديسيدنت ڤويس", 17 آب/أغسطس 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد