«جنيف اليمني» يغرق في الفوضى.. قبل أن يبدأ
لم تأت الأطراف اليمنية إلى جنيف للتشاور، ولا للتفاوض، بل لاستكمال الحرب الجارية بمعركة سياسية لم تكن أقلّ شراسة. وفد الرياض وقف يدافع عن القرار الأممي الذي يراه منقذاً لـ «شرعيته». أما وفد صنعاء فقد وصل بعد رحلة تخلَّلتها عقبات كادت تمنع حضوره المؤتمر، فيما يرفض بشدَّة فكرة الوفدين والطاولتين المنفصلتين، التي يراها تجلياً يكرّس القرار الأممي المستنكر بالنسبة إليه. هكذا، جاء ليل أمس ولم يُعرف ماذا سيحدث في غده. مع ذلك، أكد حمزة الحوثي أنَّ المؤتمر لن ينتهي اليوم، كما هو مبرمج أساساً، بل سيمتد إلى ما بعد هذا الموعد.
خلاصة الاشتباك هي حول القرار الأممي الرقم 2216، الذي يعترف بـ «شرعية» حكومة المنفى، ويدعو الجيش اليمني و «أنصار الله» إلى الانسحاب من المدن التي يسيطرون عليها. بالنسبة إلى وفد الرياض، فإنَّ القرار يعتبر المكسب الأكبر، خصوصاً في ظلّ عجز ميداني تجلى خلال أشهر الحرب الثلاثة بعدم قدرة «التحالف» والميليشيات الموالية لـ «الشرعية» على تحقيق اختراق يمكن الركون إليه في أي مفاوضات. في المقابل، يعمل وفد صنعاء على إبطال أيّ مفاعيل لهذا القرار أو محاولات تكريسه.
على هذا النحو، عمَّت الفوضى المؤتمر المفترض. غبار القصف الكلامي المتبادل جعل الأمم المتحدة في مأزق حقيقي، في وقت استبق المبعوث الأممي اسماعيل ولد الشيخ أحمد إمكانية انهيار المؤتمر بالقول إنَّ مجيء الوفدين يُعدّ إنجازاً كبيراً بذاته، مشدداً، بعد لقائه وفد صنعاء، ليل أمس، على تمسكه بصيغة تمثيل محدّد بسبعة ممثلين عن الفريقين، مع ثلاثة مستشارين لكل منهما. وأشار إلى أنَّ هذه الصيغة عُمِّمت على جميع الأطراف قبل وصولهم.
طبعاً، المقصود من تعليقه كان واضحاً. وفد صنعاء الذي كان قد التقاه للتو، جاء مع 22 ممثلاً عن كافة المكونات السياسية، بينما أعلن وفد الرياض، بشكل واضح، أنَّه يرفض قطعاً الجلوس إلى طاولة واحدة مع «خصومه»، مطالباً بمحادثات غير مباشرة تراعي التمثيل المحدَّد من قبل الأمم المتحدة.
النتيجة لم تكن واضحة، حتى بالنسبة إلى المبعوث الأممي الذي لم يستطع تأكيد السيناريو التالي: هل سيحضر وفد صنعاء إلى قصر الأمم المتحدة. وفي حال حضر، كيف ستتم «المشاورات؟».
على كل حال، اعترف ولد الشيخ أحمد بالمعضلة التي وقع فيها. قائلاً ، إنَّ «هذه المشاورات دائماً تأخذ وقتاً وتتطلَّب الكثير من النقاشات»، قبل أن يترك الباب مفتوحاً أمام «المجهول» في اليوم التالي، إذ رأى أنَّه «يجب تقليص العدد (لوفد صنعاء)، ليكون هناك توازن حقيقي بين الفريقين ولكي تكون القضية عملية، لذلك فالمشاورات مستمرة».
وفد صنعاء حضر برئاسة مهدي المشاط، مدير مكتب زعيم «أنصار الله» عبد الملك الحوثي، إلى جانب أربعة من الجماعة. في الوجهة برز حمزة الحوثي الذي أكد رفضهم مبدأ وجود وفدين، يمثِّلان جبهتين، «ومصرون على أن يكون التمثيل على أساس جميع المكونات السياسية»، موضحاً أنَّ «المعني اليوم بإيجاد حلّ للعملية السياسية وإعادتها إلى السكة هي هذه المكونات والقوى السياسية، لتجلس معاً على طاولة مستديرة وتناقش كل الأمور».
هذا الطرح يعني عدم القبول بصيغة الطاولتين المنفصلتين. لكن الحوثي عاد إلى إبداء مرونة بالنسبة إلى عدد الوفد والطاولة الواحدة، معتبراً أنَّ «المبدأ الأساس هو أن يكون التمثيل على أساس المكونات السياسية، والباقي يبقى تفاصيلاً».
المنطق الذي يدافع عنه وفد صنعاء هو التالي: لا يمكن له القبول بأنه يتفاوض مع سلطة، فالحوثي شدَّد على أنَّهم لا يعترفون بالحكومة المستقيلة. يلقي بالكرة في الملعب الآخر، مذكّرا بأنَّ من أنتج هذه الحكومة، وكل شيء آخر، هي العملية السياسية التي قادتها جميع المكونات اليمنية، لذلك فهي برأيهم تبقى الأساس الثابت للعودة إلى التفاوض.
لكن عملياً لم يتبق وقت يمكن معه الاستمرار في هذا الاشتباك السياسي، والاختلاف على ما يفترض أنَّها بديهيات عقد المؤتمر. كان المخطط أن ينتهي المؤتمر اليوم، لكن حمزة الحوثي أكَّد، بعد لقائهم المبعوث الأممي، أنَّ المؤتمر سيُمدَّد، مشدداً: «ما أستطيع أن أقوله هو أن المشاورات لن تنهي غدا (اليوم) بالتأكيد».
من جهته، قال مصدر من وفد صنعاء بعد مغادرته الاجتماع إنَّه «لم نتفق على شيء، الخلاف مستمر، والتشاور مستمر».
رفض صيغة تفاوض الفريقين، وما يتعلق به من قصر التمثيل، تكرّر على لسان ممثلي وفد صنعاء. قال رئيس حزب «الحق» حسن زيد، إنَّه «لو كنَّا نؤيد هذه الفكرة لبقينا في صنعاء، فنحن أتينا كمكونات سياسية ونرفض فكرة وجود فريقين فقط».
في الاتجاه ذاته، ذهبت إجابة عبد الرحمن عمر الصقار، عضو الوفد والأمين العام لـ «الحزب الاشتراكي» اليمني، إذ قال إنَّ «المبعوث الدولي لم يستطع إقناعنا بهذه الآلية التي اقترحها، فهي آلية نرفضها صراحة لأنها تقوم على تقسيم مفتعل».
على جبهة الأمم المتحدة حيث كان وفد الرياض، لم تكن الأمور أفضل. المبعوث الأممي اجتمع إليهم صباحاً، وخرج الأعضاء السبعة وهم يحاولون كتم غيظهم، وهو ما عبَّر عنه أحدهم لمسؤول أممي، حين قال: «نحن نحب الأمم المتحدة، لكن يبدو أنه حب من طرف واحد».
داخل الصالة المغلقة كان هناك ما يبرر هذا التعليق. مصدر حضر الاجتماع، قال إنَّه شهد «شجاراً لم يكن من السهل إيقافه»، فيما أكَّد أنَّ أحد أعضاء وفد الرياض وقف وبدأ يصرخ في وجه ولد الشيخ أحمد، قائلاً: «أنت تبحث عن مجدك الشخصي، اتقِ الله في اليمن».
طبعاً تمكَّن أعضاء الوفد من تهدئة زميلهم الغاضب، بعدما أفرغ كل ما في جعبته. بقي المبعوث الأممي صامتاً، ورد أخيراً بأنه يتفهم أنَّ «الوضع صعب» على محادثيه. لكن مصدر غيظ الوفد الحكومي، على تنوعه، يبدو قادماً من اتجاه واحد.
هذا ما عبَّر عنه بدقة أحمد المسيري، قائد ما يسمى بـ «المقاومة الجنوبية»، حين قال في لهجة مشكِّكة: «أشعر أنَّ هناك محاولات لإفراغ قرار الأمم المتحدة من محتواه». كان متحفظاً على تقديم توضيحات وافية في هذا الشأن، مشيراً إلى أنهم شديدو الحرص على القرار لأنه بالنسبة إليهم يعدّ «طوقا للنجاة».
في الوقت ذاته، شهد الحديث عن «هدنة رمضان» معطيات متضاربة. البعض قال إن المبعوث الأممي لم يناقش معهم تفاصيل ذلك، في حين أكد مصدر من وفد صنعاء أن الهدنة شبه مؤكدة، موضحا أنها ستكون لمدة شهر رمضان ومن المحتمل أن يعلنها الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة ختامية. في هذا السياق، قال علي العماد، عضو المكتب السياسي في «أنصار الله»، متحدثاً إنَّ «الهدنة حق شرعي للمواطن اليمني، فالسعودية دولة عدائية وعليها إيقاف عدوانها بعيداً عن أيّ تفاهمات بين القوى السياسية».
مصدر حضر الاجتماع بين وفد الرياض والمبعوث الأممي، قال إنَّ ولد الشيخ أحمد فشل في انتزاع أي تزكية منهم لقضية الهدنة. أوضح أنَّ ما أراده المبعوث هو أن «يأخذ منّا أيّ شيء، قال لنا انه يريد فقط موافقة مبدئية، كي أخرج وأقول للإعلام أنكم توافقون على الهدنة من حيث المبدأ، لكننا رفضنا ذلك تماماً وقلنا له إنّ هدنتكم الأولى استخدمت ضدنا ولن نكرر ما حصل». وفي محاولة لسد الطريق على المنافذ التي اقترحها، قال أحد أعضاء الوفد إنَّهم رفضوا فكرة نشر مراقبين: «يريد مراقبين لمساحة 1200 كيلومتر، هذا عبث تام».
كما أن المبعوث الأممي لم ينجح في إيجاد تفاهم مع «أنصار الله» وحلفائهم. كلما طلب منهم شيئاً، من قبيل التنازل، كانوا يطلبون أن يقدم الطرف الآخر شيئاً يعرفون أنه لن يفعله. خلال النقاش، قال أحد أعضاء الوفد موجهاً كلامه إلى ولد الشيخ أحمد: «نحن نعترف بالرئيس (عبد ربه منصور هادي) إذا تم الاعتراف أن هناك عدواناً سعودياً».
مع ذلك، اعتبر مصدر أممي أن السعودية تواجه «مأزقاً.. هي لم تحقق أي شيء، وهناك خلافات داخل التحالف»، قبل أن يشرح أنَّ «من مصلحة قطر أن تتورط السعودية أكثر، لكن الإمارات تقف ضدّ ما يحصل».
وفد صنعاء وصل بشق الأنفس، فرحلته من العاصمة اليمنية استغرقت حوالي 45 ساعة. انتظر في صالة تشريفات مطار جيبوتي قرابة 24 ساعة، ليعود وينتظر ساعات في مطار القاهرة، لكن من دون أن يغادر الطائرة. عضو الوفد علي العماد قال معلقاً على ما حصل «يبدو أن هناك ضغطاً سعودياً نتج عنه مثل هذا التأخير»، فيما اعتبرت زميلته فائقة السيد، التي جاءت ممثلة لحزب «المؤتمر الشعبي العام» أنه «حتى لو قدّر لهم أن يشفطوا الأوكسجين، ويخزنوه بزجاجات، لمنعوه عنا أيضا».
جاء الليل ولم يصل ردّ المبعوث الأممي. وفد صنعاء لم يكن جالساً على جمر. بعد انتهاء جلبة المؤتمر في فندقهم «كرون بلازا»، غيَّر بعضهم ملابسه وغادروا. ركب ثلاثة على دراجة نارية، وساروا خلف سيارة تحمل نمرة ألمانية، جلس في مقدمتها حمزة الحوثي. إلى أين، سأل أحد المتفرجين، ليسمع ردّ راكبي الدراجة «للتجول حول البحيرة». لم يكن معروفاً بعد إن كانوا سيدخلون صالات الأمم المتحدة، ويراقبوا ضفاف بحيرة «ليمان» من هناك.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد