«رقصة البهلوان الأخيرة» لخيري الذهبي: دروب الجوع
«رقصة البهلوان الأخيرة» هي آخر رواية صدرت للكاتب والروائيّ السوريّ خيري الذهبيّ، الذي سبق له أن نشر أكثر من ثلاثة عشر عملاً روائيّاً، منها: «ملكوت السماء»، «طائر الأيّام العجيبة»، «التحوّلات: حسيبة، فيّاض...»، ومن هذه الأعمال ما تحوّل إلى أعمال تلفزيونيّة أو سينمائيّة.. صدرت الرواية عن دار التكوين بدمشق، 2008، تقع في 319 صفحة من القطع الوسط، تتوزّع على ثلاثين فصلاً.
تدور القصّة الرئيسة للرواية، حول شخصيّة «راضي» الذي كان موظّفاً كبيراً، مستلماً عدّة مسؤوليات، ثمّ ليجد نفسه محالاً إلى التقاعد، بعد صدور قانون تحديد الخدمة، بستّين سنة، ذلك القانون الذي أطاح الكثيرين ممّن ظنّوا أنّهم قد تخلّدوا في مناصبهم. فجأة يكتشف راضي نفسه مرميّاً كأيّ شيء منتهي الصلاحيّة أو المفعول، سُحبت منه كلّ امتيازاته، الحراسة، السيّارات، الهيبة، والمكانة الاجتماعيّة، وجد نفساً عارياً في خضمّ الواقع الذي أُلقي فيه بعد إحالته على التقاعد القسريّ، ذلك أنّه وثلّة من أمثاله، كانوا يجدون في أنفسهم الكفاءة والمقدرة كي يستمرّوا في مناصبهم معطائين وبحيويّة أكثر من حيويّة ونشاط كلّ الشباب. فتراهم دائمي الترقّب لرنّة هاتف، عسى قلب السلطات يلين، فتتّصل بهم، كي تعيد إليهم الاعتبار أو تستدعيهم كمستشارين يستحيل الاستغناء عنهم.. لكنّ الخيبة في كلّ مرّة تكون بالانتظار. كما تكون السخرية برفقتهم دوماً، حيثما توجّهوا يقرأون في عيون المحيطين بهم السخرية والتشفّي، ذاك الذي يعكس ما يعتمل في دواخلهم..
يحاول راضي التغلّب على عزلته أو إشغال نفسه، فلا تسعفه كلّ وسائل التكنولوجيا، بل تكاد أن تنقلب عليه، فالإيميل يغدو رعباً له، ذلك أنّه بدأ يتلقّى عليه رسائل تستهزئ به وبما آل إليه وضعه، كما أنّه كان يستقبل على الموبايل ما وصفه بالتشفيّات أو الولدنات. يكون الحدث المفصليّ بالنسبة للشخصيّة، وللرواية، هو تلقّي راضي كتاب مذكّرات من صديق قديم، جنرال متقاعد، أرسله إليه، ثمّ اتّصل واتّفقا على موعد في مقهى، حدّثه صديقه عن وجوب كتابته أيضاً لمذكّراته وسيرته الذاتيّة، قبل أن يسبقه أحد فيشوّه سمعته في الفترة التي قضاها في منصبه، ولمّا أبدى صعوبة ذلك، كونه لم يكتب بضع صفحات منذ أيّام الجامعة، تكفّل صديقه بتعريفه بمؤسّسة الإنشاء والتعمير، وهي مؤسّسة سرّيّة، تكتب سيراً بحسب الطلب لزبائنها. يقول راضي في التعليق عليها: «الإنشاء.. أهو البناء، أم الإنشاء اللغويّ.. حلو هذا اللعب على الألفاظ، والترميم، ما الذي يرمّمونه، المباني؟ أم الحيوات تريد الخروج من حسّ بالذنب والإثم عميق بكتابة الاعتراف راجي الغفران..». ص43. يقصد راضي المؤسّسة ويتعرّف على الأقسام المتعدّدة التي فيها، ثمّ يقرّر البدء معها بالعمل، وذلك بعد توقيعه عبر الإيميل عقداً بذلك، وبعد إجابته على أسئلة معيّنة كي تستطيع المؤسّسة تحديد نوع السيرة التي يرغب لنفسه فيها، سيرة شخصيّة عظيمة، من الفقر إلى المجد، أم أيّ نوع من تلك السير: كملحميّة، أسطوريّة، واقعيّة، غريبة. وأيّ آباء وأجداد كان يريد أن ينحدر منهم، هل كان يريدهم سادة، أو عبيداً، أمراء أو ملوكاً، أو مزيجاً من كلّ شيء.
يبدأ بتلقّي فصول من سيرته عبر إيميله، وهنا يكون التلاعب الزمن، حيث يتحوّل الزمن أزماناً، وتختلط العصور ببعضها، فمن الحاضر إلى الماضي، ومن مكان إلى آخر، من سيرة إله إلى سيرة أمير إلى سيرة فقير، إلى فلاّح ففرّان، ومن امرأة إلى أخرى، وكلّهنّ ممّن لهنّ دور رئيس في ماضيه، «أمّه، هدية، نادرة... أمية»، بعضهنّ لم يفلح في الشفاء منهنّ. ينتقل من سيرة إلى أخرى، وكلّها تدور في فلكه، لانتقاء السيرة الأنسب، وتأتي الكتابات عن تلك السير، بخطّ مائل كأنّه يخرجها عن السياق العامّ، أو لربّما هو نوع من التغيير أو بثّ النشاط في القراءة، لتنبيه القارئ أنّه يسير في دربين متوازيين، منفصلين متّصلين، متقاطعين، حيث يتحوّل كلّ درب إلى تفرّعات وتقاطعات، تتشابك خيوط اللعبة، فيغدو القاتل قتيلاً، والمستمتع معانياً، والمارد مطارَداً... تكون النهاية المُكئبة لراضي، يرعبه ويخرسه الاكتشاف، وذلك عندما يكتشف أنّه هو القتيل والمجرم معاً..
أكثر الذهبيّ في روايته من التذكير بالإيميل، حتّى أنّه جعله البطل إلى جانب الأبطال الآخرين، كأنّه يؤكّد بذلك على الدور الرئيس الذي يحتلّه الإيميل في حياة كلّ واحدٍ منّا، ومن جهة أخرى، كي يؤكّد على التصاقه بالحضارة التكنولوجيّة، واستثماره لها، لا كغيره من بعض كتّاب جيله ممّن يعادون الإنترنيت وتوابعه. ثمّ تكون هناك التضمينات الكثيرة والاقتباسات أو التناصّات مع قصص أسطوريّة، أو خرافيّة، من خلال التذكير بها: «إيروس، رونسون كروزو، عجائب المقدور في أخبار تيمور لابن عرب شاه، بدائع الزهور لابن إياس، ثمّ من خلال تحويرها أو تغيير بعض الأدوار فيها، يرد ذلك في بحر الفصول المكتوبة من قبل المؤسّسة المفترضة، وينقدها راضي على اتّكالها على النصوص التاريخيّة، وعلى تقليديّتها البادية. أي أنّ هناك ناقداً وكُتّاباً في الرواية، يقول الروائيّ ما يمكن أن يقوله أيّ ناقد في حال قراءته للكتاب، كي يأخذ منه المبادرة، ويحرّضه على البحث عن جديد مختلف عن تلك النقاط التي يتحدّث بطله فيها..
يحضر الجوع بمختلف صنوفه؛ الجوع الجسديّ، الجوع الجنسيّ، جوع العواطف، الجوع المتفشّي في البلاد إبّان الحروب التي كانت تُدفع إلى خوضها، ذلك مرفوقاً بالابتزاز المخجل، والحرمان القاتل الذي يجبر الناس على اقتراف كثير من الخطايا، كي يسدّوا حاجاتهم. كما يحاول الكاتب أن يغوص في قلب بعض المشكلات المحتدمة بين الأديان والحضارات، ملامساً شغافها فقط، محاولاً التقريب في ما بينها روائيّاً، من خلال إظهار بعض المشتركات، ثمّ التذكير بالإضافات والتغييرات التي أقحمت فيها، أو أُدخِلت عليها..
«رقصة البهلوان الأخيرة» رواية تجريبيّة، يأتي فيها تجريب الذهبيّ في مرحلة متأخّرة من عمله الروائيّ، يعتمد تداخل الأزمنة الأمكنة، ليكون للرواية زمنها ومكانها الخاصّان بها وحدها، منقطعة عن الزمن الراهن، وعائدة إليه في الوقت نفسه. يطرح من خلالها ملفّات وقضايا لا تزال معلّقة تبحث عن حلول. والبهلوان، المتعدّد الوجوه والأقنعة، يرقص لا طرباً بل مذبوح من آلامه المبرّحة لجسده وروحه..
هيثم حسين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد