19-02-2018
«قرآن التنوير»: تاريخ ترجمة القرآن في أوروبا المسيحية
يمكنك تمييز الطبيعة السياسية للفنون في أوضح صورها، في فن الترجمة. وتزداد وضوحًا عندما تستهدف إعادة تقديم نص يؤمن بقداسته قوم لا تربطك بهم علاقة ودية. هذه العبارة مدخل مناسب إلى كتاب «قرآن التنوير: سياسة الترجمة وبناء الإسلام»، الصادر عن منشورات وانوورلد، بالإنجليزية، عام 2009، لمؤلفه المصري «زياد المرصفي»، أستاذ الأدب المقارن بـ«كلية الملك بلندن – King’s College London».
يمكن تقسيم الكتاب، بفصوله السبعة، إلى جزأيْن. يسرد الجزء الأول محاولات ترجمة القرآن في أوروبا، خلال عصر التنوير، وأثر كل من الموقف العقدي المسبق، والخلاف الطائفي المسيحي، على النصوص النهائية، وهو الجزء الذي يتناوله مقالنا هذا.
أما الجزء الآخر، الأكبر حجمًا؛ فيدرس تأثير هذه الترجمات على عدد من أبرز أعلام فرنسا في عصر النهضة، والقرن الذي تلاه، فنتناوله في مقالة أخرى.
الترجمات الأولى
يفتتح «المرصفي» دراسته بتاريخ موجز لأبرز محاولات ترجمة القرآن في أوروبا. بدأه بالدعوة التي أرسلها «ألفونسو» السابع، ملك قشطالة وليون وغيرها، إلى «بطرس المبجل»، الراهب واللاهوتي الفرنسي، للقدوم إلى إسبانيا عام 1142، ولم تزل ذكريات الحملة الصليبية الأولى عالقة بالأذهان.
كان «بطرس» يرى اتخاذ تنصير المسلمين لا إفنائهم هدفًا نهائيًا، وهو ما يستلزم دراسة دينهم ونصوصه. وهناك، أشرف بطرس على إصدار أول ترجمة لاتينية للقرآن. لكنّ النص القرآني المترجم تخللته كثير من التفاسير والشروحات، من مصادر مختلفة ترجمت عن العربية أيضًا، فجاء أقرب إلى إعادة صياغة تفصيلية للنص المقدس منه إلى ترجمة منضبطة، وعرف باسم «مدوّنة طليطلة – Toledan Collection».
بعدها، جرت محاولات عديدة لإنتاج ترجمات أكثر التزامًا وحرفية، منها ترجمات لاتينية لبعض السور في مقابل النص العربي الأصلي، لكنها لم تلقَ نفس انتشار مدونة طليطلة وقبولها، وكانت أشد إتقانًا لكنّها أكثر ملاءمة للمستشرقين ودارسي العربية منها للمثقف الفضولي.
استمر الحال هكذا حتى عام 1543، حين طبع «تيودور ببلياندر» الناشر والمستشرق السويدي، مدوّنة طليطلة للمرة الأولى في مدينة بازل السويسرية، بعد خلاف مسيحي كبير بين من يرى في ذلك إفسادًا لعقيدة العامة، ومن يرى في كشف هذه الهرطقات أمامهم وسيلة لتحذيرهم من خطر عقيدة العثمانيين. وتبعا لذلك دفعهم إلى الاستبسال في قتالهم.
كان رموز حركة الإصلاح البروتستانتية، مثل «مارتن لوثر» اللاهوتي الثائر، من أبرز المتحمسين لهذه الخطوة، حتى أنهم شاركوا في تعزيز المدوّنة المنشورة بمختلف الحجج والتفانيد اللاهوتية. لكن الحقيقة أن الخصم المستهدف من كل هذا لم يكن العثمانيين فحسب، بل الكاثوليك وسائر الطوائف المسيحية الأخرى أيضًا. فبقراءة هذه الهرطقات –في رأيهم-؛ سيكتشف العامة مغبة الجهل واتباع رجال الدين الكَذَبة.
إلى جانب ذلك، كان اتهام الفرق المسيحية نقادها بالإسلام أو العمالة للمسلمين أمرًا شائعًا. ومع نشر هذه النصوص، عكف القساوسة والمصلحون عليها لكشف مواطن التشابه بين المنافسين والعثمانيين. وسيتواصل إنتاج ترجمات أخرى –سرًا في الأغلب، خوفًا من الكنيسة والسلطات- في دول أوروبية مختلفة، نقلًا عن ترجمات سابقة، مما سيزيدها اغترابًا عن النص الأصلي.
التنوير: من مراتشي إلى سيل
أدّى الشعور بالاكتفاء فيما يخص النص القرآني -سواء بمدونة طليطلة، أو بما تلاها من ترجمات فخمة، مثل ترجمة الفرنسي دي ريير عام 1648- إلى التفات السلطة السياسية والدينية نحو النصوص العربية الأخرى، مما أثرى المكتبة المترجمة في أوروبا كثيرًا، وجعلها مع نهاية القرن الـ17، جاهزة لاستقبال ترجمة موسوعية حديثة تليق بالنهضة المعرفية الأخيرة.
بالفعل، تحقّق ذلك عام 1698، في مدينة بادوفا الإيطالية، حيث نُشِرَ سفر جليل أودع فيه «لودفيكو مراتشي»، المستشرق والكاهن الكاثوليكي الإيطالي، عُصارة عمره المديد. يحوي النص نقلًا للفظ القرآني الكامل بحروف لاتينية، مع ترجمة تفصيلية، وتعليقات وحواش مكثفة، نُقِلت عن مصادر عربية جديدة.
لكنّ مراتشي أسهب في عرض الردود والتفنيدات اللاهوتية، والتنقيب المتكلّف عن التناقضات النصية عقب كل فقرة مترجمة إلى درجة مزعجة، أصبحت معها التكذيبات والمعارضات اللاهوتية -التي سبق نشرها في مجلدات منفصلة قبل أعوام قلائل- هي المتن والهدف الأساسي.
هنا، ينبغي الانتباه إلى أن هذا الجهد الحثيث الذي طلبته الكنيسة جاء في سياق حركة إصلاح كاثوليكية جبّارة تهدف إلى استعادة المجد الفكري واللاهوتي للكنيسة التي كانت من قبل مركز الدراسات الاستشراقية في العالم.
في الحقيقة، كانت الروح العدائية تكتنف نص مراتشي بأكمله من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. ففي الأولى، نجد الكاتب يهدي عمله إلى ليوبولد الأول، الإمبراطور الروماني المقدس، قاهر العثمانيين وحامي بيضة الدين. وفي الأخيرة، يهنئ مراتشي نفسه على نجاحه في قتل محمد بنفس سيفه، كناية عن نصه المقدس. لكنّ تحامل الكاتب وقلمه المرتاب سيزداد وضوحًا عند مقارنته بترجمة رائدة أخرى ستصدر بعد نحو ثلاثة عقود، إلى الإنجليزية هذه المرة.
في عام 1734، نشر «جورج سيل» المحامي والمستشرق الأنجليكاني الإنجليزي -الأكثر تأثرًا بفلسفة عصر النهضة، خاصة سبينوزا– ترجمته للقرآن عن اللغة العربية، وبالاستعانة بالترجمات الجادة السابقة. جاءت ترجمة «سيل» رائقة، سلسة، وُظّفت فيها التفسيرات والشروح المكثفة لإنتاج نص متكامل ومتماسك.
يرجع جزء كبير من الاحترام الذي أبداه سيل للنص القرآني، إلى رفضه التصور الخرافي الذي ساد أوروبا في العصور الوسطى وما بعدها عن المسلمين، باعتبارهم مجموعة من الهمج خدعهم دجّال بهرطقات متهافتة، فراحوا يقاتلون جيرانهم وينهبون ثرواتهم.
كان تصور سيل أكثر نضجًا وعقلانية، ينظر إلى الإسلام كظاهرة مرتبطة بظروف تاريخية وجغرافية معينة، وإلى الرسول كرجل دولة ومشرّع ومصلح كبير، وهو التصور الذي ظهر في مقدمته المهمة للنص المترجم. كان سيل، في رفضه للتحامل الأوروبي الجائر، يسير على خطى تيار تنويري صدامي، هاجم ملوك أوروبا المسيحيين إذ هم أنفسهم، كما قال من سبقوه، لا يفضُلون هذه الصورة الشيطانية لنبي الإسلام من أي جهة.
كما أن التعصب تخصص مسيحي استخدمته مختلف الطوائف المسيحية بعضها ضد البعض. إلى جانب هذا، كان لاختيار الإنجليزية لغة نهائية علاقة واضحة بالخلاف الشهير بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكة حول إصرار الأخيرة على استخدام اللاتينية في الطقوس الكنسية والكتابات اللاهوتية.
نص وصورتان
انتقى «زياد المصرفي» في الجزء الأول من كتابه بعض المواضيع القرآنية للمقارنة بين تناول «مراتشي، وسيل» لها في الترجمة والتعليقات، منها الناسخ والمنسوخ. كان موقف «مراتشي» هنا متشددًا حتى ضرب مثالًا بأمير يضع تشريعًا مع إعلانه إمكانية قيامه بإبطاله مستقبلًا، ويتساءل: كيف يمكن للرعية احترام هذه التشريعات وتلقيها بجدية؟
في المقابل، أبدى «جورج سيل» تقبلًا كبيرًا للظرف التاريخي والسياسي للوحي، وما قد يستتبعه من تدرج أو تبديل للتشريع، كما توقف سيل عند بعض مواضع النسخ التي استشكلها مراتشي، وذكر ما يماثلها وظيفيًا من نصوص الكتاب المقدس. في السياق نفسه، يرى المرصفي أن أزمة مراتشي الرئيسية هي عجزه عن التمييز بين الثابت/الأبدي والمؤقت في منظومة الإسلام.
ثم عرج الكاتب على الآيات المتعلقة بالمسيحية، حيث يظهر اختلاف حاد آخر بين تناول مراتشي وسيل، وتبعا لذلك ترجماتهما وشروحهما. يقف مراتشي طويلًا عند ما يراه خلطًا في القرآن بين مريم العذراء، والدة المسيح، ومريم أخت موسى وهارون، واعتبارهما شخصًا واحدًا.
ويرفض مراتشي أي محاولة يائسة من المفسرين لتبرير النص أو توجيهه. لكنّ هذا الموقف أثار تعجب المرصفي، إذ تنقل جميع المصادر الإسلامية التي استعان بها مراتشي ردودًا صلبة – حسب قوله – على هذا الادعاء، ناهيك بتفسير «الكشاف»، الذي أكثر مراتشي من النقل منه والاعتماد عليه، ففيه يفنّد مؤلفه – أبو القاسم الزمخشري – هذا القول بالتفصيل.
على الجانب الآخر، قابل سيل هذا الادعاء باستنكار صريح، قائلًا إن تشابه الأسماء في القرآن، مثل هارون أخي موسى، وهارون الذي نسبت إليه مريم، لا يعني أن النص يرى المسمى شخصًا واحدًا، وكيف يمكن القول باقتراف نبي الإسلام لخطأ هزلي كهذا «رغم تعارضه مع عدة مواضع أخرى في القرآن، تكشف بوضوح عن معرفة محمد بالسبق التاريخي لموسى على المسيح، البالغ عدة عصور».
كتب مراتشي سفره متترسًا درع فارس صليبي، يقظًا للخطر العثماني على حدود أوروبا، والخطر الفكري لعقيدتهم المزيفة التي قد يجد فيها العامي للوهلة الأولى «كل ما يبدو في انسجام مع قوانين الطبيعة وبدهيات العقل»، كما سيجدها «خالية من أسرار الإيمان المسيحي التي تبدو غير معقولة أو مستحيلة». فأخذ على عاتقه كشف حقيقة «الجزء الأكبر من عقيدتهم، المليء بالهراء والتناقضات»، بعباراته التي نقلها المرصفي.
أما جورج سيل، فمثلما رفض محاكمة الرواية القرآنية للصلب، في ضوء الأناجيل القانونية وحدها، وسرد نصوصًا عدة من الأناجيل «المنتحلة»، مثل إنجيل برنابا، توافق عقيدة المسلمين، نجده يظهر الاهتمام بمواطن التشابه، لا الاختلاف، متى مرّ بمواضع النزاع، ساعيًا إلى تعزيز فكرة التعايش مع المجتمعات المسلمة، المؤمنة والموحدة، لا الوثنية كما شاع آنذاك، بديلًا عن ثنائية التنصير أو الإفناء.
إضاءات
إضافة تعليق جديد