«هيرمان هيسّه» شاعراً في لغة الضاد
«كاتب يعيش أزمة وجودية دائمة». قد تكون هذه العبارة الأصح لوصف هيرمان هيسّه (1877 ـ 1962) أحد أبرز روائيي القرن العشرين، وواحد من أهمّ الأدباء الألمان منذ عصر النهضة. كان هيسّه رائد «أدب التجربة»، إذ كان يؤمن بأنّ دور الكاتب ليس تفسير العصر الذي يعيش فيه، أو تحسينه، بل استخدام معاناته الشخصيّة وأحلامه لإطلاع القارئ على «عالم كامل من الصور والروح والخبرة»، كما كان يقول. وهذا فعلاً ما فعله هيسّه، إذ تمحورت مسيرته الروائية حول ترجمة مواجهاته اليومية مع الحياة ومع الأحداث من حوله، ومع التغيرات التي شهدتها بداية القرن العشرين. كلّ هذا تجسد في روايات ظهر فيها حبه للطبيعة واحترامه لتقاليد وقيم الطبقة الوسطى التي انتمت إليها عائلته.
حبّه الكبير للطبيعة ولـ«حالة الإنسان الأولى» يمكن ردُّه إلى تشكيكيته تجاه الحياة المعاصرة، بسبب الحروب التي عاصرها. صاحب «نوبل الآداب» (1946)، من الرومنطيقيين الباحثين عن وحدة كونية تجد حلّاً للتناقضات في النفس الإنسانية، لكنّه تميّز عن الرومنطيقيين الآخرين الساعين إلى تعريف مشاكل الإنسان الوجودية انطلاقاً من اتحاده الروحي مع باقي الكون (أو عدمه). هكذا، غاص في مشكلة طبيعة الإنسان الداخلية، ويبدو هذا جلياً أكثر في أعماله التي كتبها بعد 1916، تاريخ تعرُّفه إلى عالم النفس كارل يونغ. استناداً إلى نظريات هذا الأخير، غاص هيسه في المشكلة التقليدية للرجل الفاوستي، أي التشرذم بين الشرّ والخير، ذاهباً أبعد من غوته وغيره من الكتّاب الألمان، من خلال إيمانه بأنّ مصائب الوجود الإنساني هي نتيجة التفكك في طبيعة الإنسان الروحية.
لم تكن زيارات هيسّه ليونغ تجربته الأولى مع الطب النفسي. عندما كان في الخامسة عشرة، أدخله أهله مصحّاً، بناءً على نصيحة صديق رأى في هيرمان الصغير «تجسيداً للشرّ والشيطان»، وشُخّصت حالته آنذاك بأنّه يعاني من الحزن الشديد. ثم في 1916، دخل هيسه مصحاً في سويسرا نتيجة اكتئاب حاد بعد موت والده، ومرض ابنه وتدهور علاقته بزوجته والحرب العالمية الأولى. تجربة هيسّه مع الطبّ النفسي ساعدته على إعادة النظر في مشاكله في صغره، وراح يكتب ويُخضِع نفسه للتحليل الذاتي في سعيه الدائم نحو هويته الحقيقية.
رأى صاحب «عودة زردشت» (1919) نفسه تائهاً وباحثاً كما كان غوته ونيتشه، وكان أثر ذلك جلياً على شخوص رواياته. موضوع واحد دارت حوله تجربته الأدبيّة، وهو البحث عن الاكتفاء الذاتي وتحقيق الذات. في رواية هيسّه الأولى «بيتر كامينزند» (1904) نجد البطل تائهاً، لا يشعر بالاكتفاء، يبحث عن طريقة لإثبات نفسه. تسيطر الطبيعة في الكتاب لينتهي بعودة البطل إلى «حالة الإنسان الأولى» وتحوّله إلى مزارع. أما في «النابغة» (1906) فنعود إلى مراهقته، ونستشف كرهه الشديد للتعليم التقليدي الذي تلقّاه، كما يبرز التناقض بين الطبيعة والتأثير المدمِّر للحضارة. مع «داميان» (1919) بدأت «الرحلة الداخلية» لهيسّه، كما سمّاها، ردَّة فعل على الحرب العالمية الأولى ونتائجها المأساوية. في هذه الرواية تحديداً، يظهر تأثير جلسات العلاج النفسي التي تابعها هيسّه، إذ يواجه بطل الرواية سينكلير شياطينه الداخلية على الطريقة الفاوستية. فسينكلير يعيش مشتّتاً بين حياته البورجوازية بقيمها، وعالم خَدَمِه المظلم والجاذب في الوقت نفسه. أمّا داميان فهو «شيطان فاوست» الذي يعلّم سينكلير جمع المظاهر المتناقضة في الوجود في كلّ متجانس. ويتابع هيسّه تناول المعضلة الفاوستية للإنسان بطبيعته المفككة في رائعته «ذئب السهوب» (1929). في هذه الرواية يظهر تأثّر هيسّه بالأسلوب السردي لصديقه توماس مان الذي ساعده لاحقاً على الهرب من النازية. في رائعة مان «الجبل السحري» (1924) يصف الأديب الألماني رحلة هانز غاستروب بين ازدواجية المعضلة الفاوستية وحالة الغريب الباحث عن مكان لنفسه في مجتمع لا ينتمي إليه، وتستمرّ رحلة البحث عن الذات والسلام الداخلي عند هيسّه في «سيدارتا» (1923)، و«نارسيسيوس وغولدموند» (1932).
البحث عن الوحدة الداخلية وفهم النفس، ومحاولة الوصول إلى «الرمز الأبرز للطبيعة الحقيقية»، هدفان وجدا ترجمتهما في رمزية اليوتوبيا المستقبلية في عمله الأخير «لعبة الكريات الزجاجية» (1943). في هذا الكتاب، يصف هيسه رؤيته لدولة مستقبلية فيها وجود منظّم ثقافياً، ويستند إلى زهد روحي يصعد من قلب رماد حضارة دمّرها الإنتاج الكبير غير المسؤول، والقوميات الضيقة، والعسكريتاريا، في إسقاط واضح لمشاعره الخاصة الرافضة للدولة النازية والحالة التي آلت إليها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. إلى جانب هذه الروايات، كتب هيسه عدداً من القصص القصيرة تمحورت أيضاً حول ازدواجية الإنسان وضياعه بين الخير والشر. من هنا، لا يمكن إنكار الجاذبية المستمرة التي تتمتع بها أعماله وأدت إلى نشوء فرقة روك معاصرة باسم «ذئب السهوب». يمكن إرجاع ذلك إلى تشبيهاته الشعرية وهوية أفكاره التي تقوم بأكثر من فعل الإيحاء.
ديما شريف
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد