«وديعة أولمرت»إلى أردوغان:سوريةواسرائيل ومدى نجاح الخيارالتركي
ثمة تقاطعات مهمة بين المفاوضات غير المباشرة الجارية حالياً بين سورية وإسرائيل برعاية تركية وتلك المفاوضات التي حصلت في التسعينات بين الطرفين برعاية اميركية.
ولا تصل هذه التقاطعات الى حد التطابق، باعتبار ان المفاوضات الراهنة تُجرى بغياب مباشر للراعي الاميركي وانها تحصل في محتوى مختلف للشرق الاوسط عما كان عليه في العقد الماضي.
فعشرات الآلاف من القوات العسكرية الاميركية «تحتل» العراق المجاور للحدود الشرقية لسورية، وسط تصاعد في النفوذ الايراني في الشرق الاوسط عموماً وفي العراق خصوصاً بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين في البوابة الشرقية للعرب. كما ان القوات السورية انسحبت من لبنان في نيسان (أبريل) العام الماضي وتعرضت سورية لضغوط هائلة ربما هي الأقسى بالمعنى الاستراتيجي والمباشر منذ تأسيس الدولة السورية، قبل ان يستقر الوضع على تجذر الاعتقاد ببقاء نفوذ سوري في لبنان.
يضاف الى ذلك، ان الشرق الاوسط يشهد مساعي لتقسيمه بين دول الاعتدال ودول التطرف بعد محاولات عنيفة لاندفاع المشروع الأميركي في المنطقة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، قبل انكفائه على ارض الواقع في الفترة الاخيرة.
ومع ذلك، يمكن تلمس بعض التشابكات في مرحلتي التفاوض: المحادثات المباشرة بحضور الشاهد الأميركي، والمفاوضات غير المباشرة بحضور ساعي البريد التركي.
ومن المقاربات التي يمكن الحديث عنها ان هذه المفاوضات غير المباشرة ما كانت لتُجرى بجون ان يحصل الجانب السوري على ما يشبه «وديعة أولمرت» التي هي على غرار «وديعة رابين». رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي وضع «الوديعة» في جيب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وليس في جيب وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، مثلما كان رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق اسحق رابين وضع هذه «الوديعة» في جيب وزير الخارجية الأميركية الأسبق في منتصف التسعينات.
ويعتقد ان «وديعة أولمرت» تقوم على اساس الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان. وكانت «وديعة رابين» تقوم على الاستعداد للانسحاب الى خطوط 4 حزيران (يونيو) 1967 «في حال» لبت سورية متطلبات السلام في مجالات علاقات السلم العادية والترتيبات الامنية.
وتعود «وديعة رابين» الى 3 اب (أغسطس) لدى لقاء كريستوفر رئيس الوزراء الاسرائيلي لإحداث اختراق في المسار السوري. وبحسب المعلومات، طرح رابين اسئلة افتراضية على كريستوفر:»لنفترض ان مطالب السوريين قبلت، هل سورية مستعدة لتوقيع اتفاق سلام مع اسرائيل؟ وهل ستكون على استعداد لسلام حقيقي يتضمن حدوداً مفتوحة وعلاقات ديبلوماسية كما هي الحال المصرية؟ هناك عناصر يجب تحقيقها في السلام مثل اقامة سفارات وعلاقات قبل إنجاز الانــسحاب».
انتقل كريستوفر من اسرائيل الى دمشق للقاء الأسد في 4 آب، وسأله:»ان رابين اخبرني انه اذا اعطى الاسد ما يريده، هل يستطيع التوجه في شكل حقيقي نحو السلام؟».
سأل الأسد: «ما المقصود بكلام رابين؟ هل يعني الانسحاب الى خط 4 حزيران1967؟ هذه خطوة ايجابية لكن ليست كافية لأن خط الانسحاب يجب ان يكون محدداً».
بقي هذا الالتزام غامضاً الى ما بعد توقيع اتفاق أوسلو في أيلول 1993. ولا شك في ان عدم حصول دمشق على توضيحات في شأن خط 4 حزيران جمد المسار السوري الى ما بعد قمة الأسد والرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون بداية 1994، الذي قال ان «تعهد رابين في شأن الانسحاب الكامل من الجولان لا يزال في الجيب»، الى ان تجددت الحركة على المسار السوري، حين التقى كريستوفر رابين في 19 تموز (يوليو) 1994، فجدد الاول طلبه الحصول على اجوبة على اسئلة الأسد حول «خط الانسحاب». ويروي رابين نفسه رؤيته للموضوع عشية لقائه كريستوفر في ثلاث صفحات كتبها في دفتره الصغير ونشرتها صحيفة «معاريف» في 11 تشرين الاول (أكتوبر) 2002 وجاء فيها «ما تم الاتفاق عليه هو: ارادة الانسحاب الكامل في مقابل سلام كامل بجميع عناصره، مدة الانسحاب ومراحله، الجمع بين انجاز سلام كامل قبل إكمال الانسحاب بإجراء انسحاب اولي، إجراءات امنية».
يسأل رابين نفسه: «اذا سيحصل؟»، ثم يجيب:»ان السوريين حصلوا على وعد بانسحاب كامل هو اكثر ما تتجرأ اي دولة عربية اخرى على المطالبة به في مقابل عدم وجود اتفاق على اي عنصر من عناصر صيغة ما عرف بالصفقة الكاملة او أرجل الطاولة الأربع» اي الأرض والأمن والسلام والتزامن. ويضيف:»ان عملية المفاوضات ستبدأ عندما يتوقع السوريون ان الأميركيين سيخونون اسرائيل خطياً. لقـد بدأوا المفاوضـات وجعلوا من استئنافها شرطاً للحصول على تنازلات اضافية من اسرائيل».
في المقابل، يؤكد مسؤولون سوريون ان كريستوفر ابلغ الاسد في تموز 1994 «موافقة رابين على الانسحاب من الجولان الى خط الرابع من حزيران كالتزام لا بد منه للانطلاق الى معالجة بقية عناصر اتفاق سلام كامل. وفي هذا السياق طرح الرئيس الأسد على الوزير الأميركي سؤالين للتأكد من صحة ودقة مضمون الالتزام الاسرائيلي. السؤال الاول: هل يعني رابين أن الانسحاب من الجولان سيشمل كل الأراضي التي كانت تحت سيادة سورية في الرابع من حزيران، فكان جواب وزير الخارجية الأميركي: نعم. السؤال الثاني: هل هناك اي ادعاء اسرائيلي بأي قطعة من الارض الواقعة ضمن خط الرابع من حزيران، فكان جواب الوزير الأميركي: لا يوجد اي ادعاء».
كان التأكد السوري من حصولهم على التزام بالانسحاب من كامل الجولان وراء الانخراط في المفاوضات المباشرة. والوصول الى حافة توقيع اتفاق السلام قبل انهيار قمة الاسد - كلنتون في 26 اذار (مارس) 2000. وعلى رغم التكتم على طبيعة المفاوضات، يعتقد ان شيئاً مشابهاً حصل بين أردوغان وأولمرت الذي سأل عن الحدود التي يمكن ان يذهب فيها السوريون استراتيجياً وفي تلبية متطلبات السلام الأمنية والسلمية والمائية، «اذا» انسحبت اسرائيل من الجولان. ويعتقد على ناطق واسع ان الفهم السوري الحالي لاستعداد أولمرت للانسحاب من الجولان، هو وراء الموافقة على ارسال وفد للإقامة في فندق واحد مع اسرائيليين وقيام الجانب التركي بنقل الرسائل.
وكان الأسد اعلن في نيسان الماضي ان أردوغان ابلغه استعداد أولمرت «الانسحاب الكامل من الجولان» ثم جاء الى دمشق ليشرح تفاصيل «الوعد»، ما يمكن التفسير انه بمثابة «وديعة أولمرت» لدى رئيس الوزراء التركي وان كانت المعلومات المتوافرة ضئيلة. غير ان النسق العلني لمواقف أولمرت لا تتناقض مع هذا الاعتقاد بوجود ما يشبه «الوديعة»، ذلك ان أولمرت قال إنه «يعرف ماذا تريد سورية، وسورية تعرف ما تريد اسرائيل». لكن الأهم، انه قال ان رؤساء الوزراء الاسرائيليين السابقين: اسحق شامير، رابين، شمعون بيريز، بنيامين نتانياهو، وايهود باراك فاوضوا السوريين وانهم «قدموا تنازلات مؤلمة، وهي موثقة». ماذا يعني ذلك؟ ان المفاوضات غير المباشرة تجرى على اساس «البناء على ما سبق» وعلى اساس «السجل السابق» للمفاوضات. وبين هذا وذاك، يكتفي الطرفان بالقول ان «المفاوضات تجرى وفق مرجعية مدريد».
ومن الملاحظات الأخرى في المفاوضات الراهنة ان «عناصر الطاولة الاربع» لم يعد يجري الحديث عنها. كانت عناصر التفاوض الإعلامي والسياسي العلني في التسعينات تربط «عمق الانسحاب بعمق السلام» ثم «عمق الانسحاب بعمق الامن» و «عمق الانسحاب بعمق المشاركة المائية». اي عناصر طاولة السلام كانت ترتبط بشؤون سورية - اسرائيلية: الانسحاب، الامن، علاقات السلم او التطبيع، المياه.
الجديد في «المفاوضات غير المباشرة» ان الجانب الاسرائيلي، او بعض المسؤولين الاسرائيليين، يربطون الانسحاب من الجولان بقضايا استراتيجية تتعلق بتحالفات سورية. لم يعد المطروح حالياً وآنياً مواضيع المياه والامن والسلم، بل علاقات سورية بـ «حماس» و»حزب الله» وإيران.
الجانب السوري يرفض ان يكون ثمن السلام التخلي عن الحلفاء، فقد قال الرئيس الأسد قبل ايام ان دمشق لن تتخلى عن علاقات طبيعية مع ايران استجابة لمطالب اسرائيل، بل ان مذكرة للتعاون العسكري بين دمشق وطهران وقعت بالتزامن مع انطلاق مسيرة التفاوض. لكن في الوقت نفسه، تتحدث المصادر السورية عن «التغيير الاستراتيجي» الذي ستشهده المنطقة في حال تحقق السلام الشامل وأعيدت الحقوق.
بهذا المعنى، نجح المفاوض السوري في فرض عوامل ضغط إضافية على اسرائيل. عوامل ضغط تتعلق بالأمن الاستراتيجي. بعدما كان الاسرائيليون يتجنبون الالتفات الى مساعي سورية لاستئناف مفاوضات السلام بعد غزو العراق عام 2003، تصاعد الاهتمام الاسرائيلي بعد حرب تموز 2006 في لبنان، الى ان وصل الى استعجال اسرائيلي للتفاوض وإقناع ادارة جورج بوش بعدم العرقلة. ان التحولات الاستراتيجية في الشرق الاوسط، دفعت سورية وإسرائيل الى اللجوء الى «الخيار التركي» في الأشهر الاخيرة من ولاية بوش حيث تسمح هذه المرحلة الانتقالية للاعبين الإقليميين في فرض وقائع جديدة تساهم في تحديد خيارات الادارة الأميركية في العام المقبل.
إبراهيم حميدي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد