آخر النعاة المحترمين
نعوة متأخرة لبشير: آخر النعاة المحترمين تلك الأزمنة المهيبة ..
عندما كان الموت وقوراً
سلمان عز الدين
كان طويلاً ببشرة جافة وعينين حجريتين عصيتين على الابتسام ، وسوف أتذكره طيلة السنوات اللاحقة لموته ، كرجل ولد بثيابه ... تلك الثياب نفسها التي دفن بها : البنطال الخاكي الأزلي والقميص المترع بالأزرار والحطة التي ربما كانت حمراء ذات يوم ، ولن تكتمل الصورة إلا بالعصا الماريشالية التي لم تفارق يده الغليظة قط . كان هذا هو المظهر الملائم للرجل الذي استطاع أن ينتزع اللقب الأكثر شؤماً : الناعي. سنواتي الأولى التي قضيتها في قريتي المعلقة على سفوح جبل الشيخ ، هي الفترة التي شهدت أفول مجده ، ومع ذلك فمن بين كوابيسي الكثيرة ، كان حضوره هو الأشد وطأة ، إذ بدا ، على الدوام ، مضمخاً برائحة الموت ، وإلى الآن ، لم يستطع أحد أن يقنعني بأن انحناء ظهره لم يكن بسبب حمله الدائم لعزرائيل .كان بشير ( اسمه الأكثر حدة بين جميع مفارقاته ) ببساطة هو مرسال الموت ، ففي تلك الأزمنة المهيبة عندما كان الموت ما يزال وقوراً يأتي متلفعاً بعباءة الليل ومسبوقاً بثلوج وأمطار خرافية ، كان بشير يمضي وحيداً قاطعاً الدروب الوعرة بين القرى حاملاً النعوة في عينيه وعلى جبينه ويوزعها على أبواب غارقة في النوم ، وفقط عندما ينبلج فجر اليوم التالي على مجلس العزاء ، كان يطلق ، مع النفثة الأولى من سيجارته ، زفرة راحة منهياً دوره في لعبة الحزن الطقوسي . مات بشير ، وليسامحني الرب فأنا لم أحزن عليه كثيراً إذ شعرت بظلاله الكتيمة تنسحب من فوق رأسي ، وكأن الموت نفسه قد أعفاني من زيارته المحتومة . ولكن شعوري هذا لم يكن الأكثر جحوداً ، فناعينا لم يجد من ينعيه ، ذلك أنه باختصار كان آخر النعاة ، وكان الموت كالحب والكبرياء قد صار أقل ثقلاً ، بل وعادياً تماماً . وهكذا انتقل خبر وفاته بلا مبالاة ومن دون تمتمات طقوسية ، وعبر أكثر الوسائل يسراً وحيادية في الوقت ذاته : الهاتف .حدث ذلك في الزمن نفسه الذي كف فيه الدجاج عن أن يكون ملوناً ، وتخلت الجدات عن قطف البابونج عن السطوح ، واختفى إلى الأبد مبيض النحاس ، وصار بائع العوامة ذو الحمار شيئاً لا يمكن تصديقه.ولكي أستعيد صورة بشير بنزاهة أكثر احتجت لأن تصفعني عشرات الميتات الباردة التي افتقدت إلى ناع يمنحها قداستها وإلى أن أرى بعينيين ذاهلتين كيف يمكن للشخص أن يموت في الشارع بلا نظرات شفقة من أحد ، وكيف غدت أسباب الموت مضبوطة ومصنفة بدقة علمية جارحة بعد أن كان أحد لا يجرؤ على مساءلة الموت عن الأسباب ، حينها علمت أن الناعي بشير لم يكن رمزاً لمهابة الموت وحسب بل ولقداسة الحياة أيضاً ، ولأصبح, إثر ذلك, عرضة لنوبات حنين إلى ذلك الطيف الشبحي الموغل في الزمن . الصورة التي استعدتها بتطفلي على ذواكر آخرين , أكثر نقاء : كان بشير موظفا عند القدر , بلا راتب أو مقابل , ومع ذلك فإن الرتابة لم تتسرب يوما إلى عمله إذ كان يلون نعوته حسب هوية المتوفى اللهجة الجنائزية المجلجلة لشاب سقط في بئر , والنبرة العميقة المستكينة لشيخ جليل ومحبوب , والحيادية التقريرية لآخر كان بخيلا ينتظر الجميع موته ... وبهذا فهو لم يكن يحدد مكانة الميت فقط وإنما استجابة الناس التي يتطلبها الموقف . وفي أوقات الهدنة التي يعلنها الموت , كان يعالج الآثار الجانبية لمهامه بالمزاح , ولكن لابد من مرور وقت طويل يسقط فيه الحزن بالتقادم , لكي يبيح لنفسه هذا الترف . من بين طرائفه الكثيرة يحفظ الأهالي واحدة مازالوا يرددونها : ذهب مرة بنعوة إلى قرية نائية , يقطن في بيت شيخها مرابع ( أجير ) مصري لا يعرف شيئا من تقاليد أو مفردات الموت في القرية التي قدم إليها حديثا والذي استفاق هلعا على صوت الناعي المدوي : مين ؟- ناعي - عاوز إيه يا أخ ناعي ؟- اسمي بشير ... معي نعوة - طيب ما تسيبها عندك وتمشي , وبكرة الصبح نبقى ندخلها لجواب أمام جدار في شارع دمشقي فاجأني الحنين . إذ قرأت, مبهور الأنفاس, ورقة باهتة تكاد تكون غير مرئية , كتب عليها بخط متعجرف ولامبال : نعوة فاضل ......أبناء الفقيد : الدكتور ... والمهندس ... والمحامي اخوتهالعقيد ......والطيار .....والمدرس ....انسباؤه:الوزير السابق ...والسفير ......وانتظرت بضع ثوان لأدرك أنني واقف أمام الموت , فقد كانت كلمات بلا قطرة حزن , أو شبهة خشوع , اقرب لأن تكون قصيدة فخر من كونها نعوة , ومع ذلك فقد جعلت مني مهووسا بملاحقة الملصقات الجنائزية ( ربما لأبحث عن وجه الموت الذي اعرفه منذ الأزل ) . ويوما بعد يوم تعلمت أن أقرأ خلف هذه الكليشات الجافة , بعض الحقائق والدلالات , تارة بعقلية باحث اجتماعي وتارة بروح روائي : ثمة ملصقات مكتوبة بتقيد حرفي بالكليشة الأكثر شيوعا دون حرف زائد أو ناقص , مما يوحي بان الميتة كانت منتظرة منذ زمن وبأنها لم تخلف أي إحساس بالفاجعة , وأخرى يشوبها الاستعجال والتسرع ربما تكون قد كتبت في لحظات عدم التصديق المرعبة التي تعقب الفراق الأبدي , وهناك ملصقات مزدحمة بالآيات القرآنية وبالمدائح للمرحوم الحاج مع رصف أسماء أولاده الذين , على الأرجح , كتبوا كل هذا الإطناب ليريحوا ضمائرهم ويقنعوا أنفسهم بأنهم يستحقون الثروة التي تركها لهم الحاج . ثمة نعوات مسيحية بصليب على الترويسة ، مقتضبة تحتل أماكنها بأناقة يوم الأحد على جدران الكنائس ، ونعوات إسلامية معتدلة بآيات هادئة مطمئنة ، وأخرى أكثر تشدداً مليئة بالوعيد تبدو مصاغة لتهديد الأحياء أكثر مما هي عزاء لهم ، ونعوات علمانية بلا صليب ولا آيات ومن دون أية إشارة إلى قداس أو صلاة .ولكن واحدة منها فقط ستعلق بذاكرتي وتحرق جوفي دونما أمل بالشفاء : ففي زقاق منسي في دمشق القديمة عثرت على هذه النعوة الصادمة : توفي يوم السبت الماضي ابننا بهاء . أرجو من كل أصدقائي وكل من يعرفني أن يوافيني إلى منزلي ليواسيني وزوجتي ويعيننا على هذا البلاء .. التوقيع : محمود سليم اللبان .. هذه الكلمات الحارقة وحسب ومن دون أية كليشة أو جملة روتينية بليدة . ومن يومها وأنا أجدّ في البحث عن ورقة أخرى تنعي محمود سليم اللبان نفسه ، فرجل استطاع آن يملأ هذه الكلمات القليلة بكل هذا الحزن , لا يمكنه أن يعيش طويلا .كنت أظن أنني الوحيد الذي تعيش معه نعوة اكثر من زمن قراءتها , حتى ذلك اليوم الذي وقف فيه الكاتب الصحفي ( غ . س ) أمام واحدة ملصقة على عامود قبالة مقهى الروضة ، فبعد دقائق طويلة من الصمت الواجم هرع الكاتب إلى داخل المقهى ليبدأ هذياناً لم ينته حتى الآن عن تلك الأيام التي قدم فيها مراهقاً خجولاً إلى دمشق الستينات ، حيث وضعه حظه العاثر ( أو السعيد .. من يدري ؟ ) في دائرة حكومية واحدة مع فاتنة من النساء اللواتي بكرن في التحرر . كانت تواظب على تنورة قصيرة كاشفة عن إغواء مهدد لا طاقة للفتى على مواجهته ، ولم يجد سوى حمام الدائرة كمكان ينزف فيه رغبته المميتة ، وعندما نجح بعد سنوات كثيرة من ذلك بالفرار بعيداً عبر نجاحات مهنية وزواج موفق فإن صورتها لم تنفك ترش أحلامه بشلال من الشهوة المعذبة ، إلى تلك اللحظة التي قرأ فيها نعوتها ، غير أن ما أحزنه أكثر لم يكن موتها وإنما كما اعترف فيما بعد إدراكه المحبط بأنها شاخت لدرجة أن صار لها أحفاد ينعونها . في هاتين الحادثتين فقط أطل الموت بوجهه الأكثر ألفة كمبدد للذات ومفرق للجماعات ، أو بعبارة أكثر معاصرة : كنقيض حدّي للحياة يسعى إلى نفيها في الوقت الذي يضفي عليها معناها ، وما عدا ذلك فإن كل الأوراق الصماء تتواطأ على شيء واحد : ابتذال الموت عبر تحويله إلى تفصيل دنيوي هامشي بل وإدراجه ضمن أكثر الشؤون الحياتية يوميةً واعتياداً . في نعوة ربما تكون الأكثر جرأة كتب شاب نزق على الهامش منذراً المعزين الذين تسول لهم أنفسهم بالتأخر ولو ساعة واحدة ، باضطراره إلى عدم استقبالهم فيما أرفق آخر نعوة والده بملاحظات تجارية تنطوي على تهديد مبطن للمدينين مذكراً إياهم بأن الدائن الآن صار هو .& عندما توفيت زوجة موسى الساعاتي اليهودي ( في يوم ما من خمسينات القرن الماضي ) , فقد وجدها أصدقاؤه المغتاظون من بخله الشديد , فرصة ملائمة للتشفي , اجتمعوا حوله وتواطؤا على إقناعه بأن الواجب يحتم عليه أن ينعيها في جريدة محترمة , ولكن موسى كان معتادا على أن يأخذ لا أن يعطي دون أن يكترث كثيرا لكون الموت هو الطرف الآخر في الصفقة هذه المرة , فنشر النعوة على الشكل التالي : موسى بن إبراهيم ينعي لكم زوجته التي توفيت الخميس الماضي , كما ويعلن لكم عن استعداده التام لتصليح جميع أنواع الساعات وفي كل الأوقات وذلك في محله الكائن في شارع الأمين بدمشق&وعبر هذا الإعلان الصريح يكون قد استعاد أضعافا مضاعفةالليرتين اللتين دفعهما للجريدة ثمن النعوة . بمثل هذا الدم البارد وهذه الروح العملية التي لا ينجح الموت بتشويش حساباتها ، ما زال الأحياء ينعون موتاهم في الصحف ( وإن كانت الأساليب قد صارت أقل فجاجة ) ، وهم إذ يتزاحمون على حشر أسماء ذويهم الراحلين في الصفحات التي تضيق أساساً على أخبار الأحياء ، فإن تخليد أحبائهم ليس من بين دوافعهم . وقد فطن أحد الإعلاميين إذ صار على أبواب الترشيح لمنصب مهم إلى الجميل الذي أغدقه عليه الفقراء فخاطبهم عبر إحدى الصحف وتحت عنوان شكر وعرفان : الإعلامي .... يتقدم بالشكر الجزيل والامتنان لجميع الأخوة الفقراء ، أحبة الله على الأرض ، لتفضلهم بتقبل صدقاته عن روح المرحوم جده الشيخ ... وعندما نعت إحدى العشائر الكبرى شيخها على نصف صفحة ، ردت عشيرة منافسة بشكر على تعزية وعلى صفحة كاملة , دون أن تجد مشكلة في كون فقيدها قد توفي منذ ثلاث سنوات .. ولكثرة عبارات المديح والتمجيد والتعظيم الزائفة , يبدو الكثيرون وكأنهم يمنحون موتاهم صكوك غفران مجانية مؤكدين إقامتهم الأبدية في الجنة , مما يجعل النكتة الشهيرة التي يتداولها السوريون اكثر من واقعية : كتب رئيس تحرير إحدى الصحف على هامش نعوة معدة للنشر : إن بقي فيها مكان والمقصود ب ( فيها ) هو الصفحة بالطبع , ولكن عبارته هذه أخذت طريقها سهوا الى النشر , وتماما بجانب الجملة الأخيرة من النعوة : رحم الله فقيدنا وأسكنه فسيح جنانه ... إن بقي فيها مكان ومع ذلك فإن هذه المواظبة على النعي الصحفي سرعان ما شكلت مدرسة , تخرج منها نعاة محترفون ؛ كتاب في حالة استنفار دائم بأقلامهم وجملهم الجاهزة وما إن يرحل مبدع ( تحت وطأة السأم والنسيان ) حتى يهرعون إلى صب جام ابتذالهم في زوايا لها رائحة النعوات , يبدؤونها دائما ب : كان .. وكان .. وكان ثم يختمونها ب : رحلت عنا باكرا يا أبا فلان .. هكذا بلا وجل طالما أن الموت قد صار كائناً تافهاً يمشي بميوعة مراهق ، في الشوارع دون أن يلتفت إليه أحد .ما حكايتي مع الموت ، ولم الغضب إن كان عزرائيل قد أراق هيبته وكأنني من أعوانه المخلصين ؟ !لا أدري إن كان هذا قد شاهدته في فيلم أو مسرحية أو قرأته في كتاب ( ربما يكون من نسج خيالي وحسب ) : شاب يخرج من جنازة ليدخل في أخرى ، يوزع أكاليل الورد على قبور مجهولين ، ويواسي ثكالى ومنكوبين لا يعرفهم ، وعندما وقف أخيراً في مواجهة الموت أدرك دوافعه بوضوح ؛ لقد كان يداري خوفه من الموت بالاحتماء به ، وإذ كان عاجزاً عن إيجاد معنى لحياته المبددة بلا هدف فقد نذر نفسه لليقين الأكبر بعد أن تأكد بأنه المصدر الوحيد للمعنى .هذا الشاب هو أنا بالتأكيد ، ولذلك فلا أحد مثلي قادر على رثاء بشير آخر النعاة ، ولا أحد غيري يدرك أي فراغ ألمّ بأهالي قريتي بعد وفاته . لن يجدوا ،بعد ذلك اليوم ، من يقدس موتهم ليقفوا إثر ذلك وحيدين ضائعين إزاء إحساس العصر الكاسح والذي يتجسد في مقولة أدركوا بفطرتهم فحواها دون أن يتقنوا ترديدها : الحياة والموت سواء ، لا قداسة للموت بعد الآن ولا معنى للحياة
إضافة تعليق جديد