أدونيس: «الكلامُ أو الموت»
(تحية الى مصطفى صفوان)
- 1 –
- «هذا شارعٌ شيعيٌ»، قال صاحبي، وهذا سنّي، وذلك مسيحي. ثم أردف متمتماً: «لحسن الحظ، في هذا الشارع الأخير أزقةٌ كثيرة».
- هل تقصد أن المدينة هي مجموع هذه الشوارع؟ وإذاً، أين هويتها، بوصفها مدينة؟ أم ان لها ثلاث هويات، أو أكثر؟ أم انها مجرّد مكان جغرافي؟
- الهوية، مدنياً وإنسانياً، ثقافة. انتماء الى لغة. الى فن. الى علم. وليس الى دين، أو جماعة. أو عرق، أو إثنية.
أن تكون لك، بهذا المعنى، هوية، هو أن تكون لك «الهويات» كلها.
- إذاً، لستَ «لبنانياً» يا صديقي إلا بالإقامة والسُّكنى. وأسألك: مع أي شارعٍ تُحسّ بالتطابُق والتماثل بين خطواتك وخطواته؟
- لا أحس بالتطابق الدقيق حتى مع نفسي أو جسدي، فكيف يمكن أن أتطابق مع شارع؟
- و «الحوار» بين الطوائف – الشوارع، أو الشوارع – الطوائف؟
- ليس في شكله السائد إلا حرباً لإبادة المكان، هذا الذي يُسمّى «وطناً». الحوار الإنساني الحق هو الحوار بين البشر بوصفهم أفكاراً وحريات، لا بوصفهم أدياناً.
- 2 –
شارعٌ – قفيرُ نَحْلٍ تقوده غابات، لا من الجبل لا من السهل. غابات غامضة ولا تُرى. للنهار فيها شكل الفمِ، ولِلّيل شكل الثدي.
- 3 –
شارعٌ – أتعلّم السهر لكي أعرف كيف أُترجم كوابيسه،
وكيف أقرأ
سِحْرَ خيطه الرمادي
الذي يصل بين سواد التعب وبياض الصلاة.
- 4 –
شارعٌ – انظْر الى البشر
كيف يحاولون الصعود الى السماء عُراةً
على سلالم الكلمات.
- 5 –
شارعٌ – يوزّع الموت في «قِسْمةٍ ضِيزى»:
مسرحاً دائماً لملهاةٍ في ثوب مأساة،
ولمأساة في ثوب ملهاة.
وما أكثر الأجسام التي هي نفسها
الخشبة واللغة والممثلون.
- 6 –
شارعٌ – ادخلْ في المعدن، واسألْه:
من أين لك هذه الأجنحة؟
واسألْه:
لماذا تشوّش اليد فيك على العين،
ولماذا يخاف العنق من الرأس؟
- 7 –
اخترْ شارعاً، أي شارع، وحاول أن تمشي فيه.
لن تقدر إلا بمشقة،
وسوف ترى أن عينكَ هي التي تفكّر:
تخلق ممراتٍ لقدميك،
وتخلق لكل ممرٍّ خطواته.
وسوف ترى الفضاء كأنه دخيلٌ ومجنون.
- 8 –
شارعٌ –
نجومٌ على جدرانه
بعضها احتفالٌ بغيابٍ اكتمل،
وبعضها يهيئ احتفالاً
لغيابٍ آخر مُنتظر.
- 9 –
شارعٌ –
ليس صحيحاً أنّ المفتاح صامتٌ
في رأسك،
أنتَ، يا من يفتح بابَ اللغة على الصمت.
- 10 –
شارعٌ – كأنّ الموتَ ثَدْيٌ
لرضاعٍ دائم.
- 11 –
شارعٌ –
للجدران فيه حلمٌ مُلحٌّ:
أن تكتسي بالصور.
كل صورةٍ عبدٌ وسيّدٌ معاً،
وكل صورة تعرّف نفسها بأنها وطنٌ للجميع.
حقاً، إن كان هناك وطنٌ للجميع فهو الصورة.
- 12 –
شارعٌ – الحلمُ هنا، هو نفسه
بحيرةٌ من الدم.
هكذا سوف تعترفين، أيتها الأرزة الحكيمة،
أنّ الهواء
قد يكون أحياناً سُمّاً آخر.
- 13 –
شارعٌ – يداهُ في الحِبر
وقدماهُ في الحلم:
لا يُحبّ إلا قراباتٍ
يقدر أن يعانقها من بعيد.
- 14 –
شارع – أُمٌّ لولدٍ
لا اسم لها،
لا اسمَ له.
- 15 –
شارعٌ – يرفض القفلُ المفتاح الذي صُنعَ من أجله.
- 16 –
شارع – القتلُ ابنٌ لآدم
وجَدٌّ للدّين.
أَمْطري، أيتها السماء، كتباً
على رصاص الشوارع.
- 17 –
شارعٌ –
لشجرة الأرز فيه عاطفة نبيلة،
سمحت مرّة لنجّارٍ مجنونٍ
أن يصنع منها سفينة.
لكن، كان للخشب مزاجٌ لا يروق للموج:
يسهر دائماً مع سُوس الشاطئ.
وكان للموج مزاجٌ لا يروق للسفر:
دائماً يفتح نوافذَ للوداع.
- 18 –
شارع – يقدّم ركبتيه طعاماً للتعب.
أن تتمكن من السير فيه، دون حواجز:
تلك هي الأعجوبة.
- 19 –
شارعٌ – يرفض أن تزوره الشمس،
إلا بوصفها خادمة.
كيفما سرت فيه، ترى أنّك مطوّق بالملائكة.
ملائكة في عراكٍ دائم،
كلٌّ منهم مصطبغٌ بدم الآخر.
- 20 –
شارعٌ – يعمل القمح فيه أجيراً
عند قبضة المنجل.
- 21 –
شارعٌ – الفراغ يُملي غيومه على الفضاء:
الأَجسام تُهجر
والثيابُ هي التي تُزار.
- 22 –
شارعٌ – أحشاء ممزّقة
تُخاط بإبرة الصلاة.
- 23 –
شارعٌ – الحظّ أكثر فتوّةً من الزمن:
العربة ملكةٌ
والدواليب تقود المستقبل.
- 24 –
شارعٌ – طيور الكلمات الجارحة، كلمات الأمر والنّهي،
تسهر على الزمن
وتقلّبه بين أعشاشها.
- 25 –
شارعٌ – يُفتي بين أزهاره حكَمٌ واحدٌ
هو القَشّ.
- 26 –
شارعٌ – ثقوبٌ في جسد الوقت.
- 27 –
شارعٌ – تزوّج الماء فيه بركةً موحلة،
وانتظم الذباب في نقابةٍ إلكترونية.
أعِد، أيها العابر، تنقيح خطواتك.
- 28 –
شارعٌ – بريدُ أحشاءٍ يبحث عن عناوين ضاعت.
هوذا الرمل يُقبل نحوك،
بربطة عنق سوداء.
هي ذي سيارة إسعاف معطلة
يجرّها البكاء.
- 29 –
شارعٌ – دَمٌ يُثلِجُ:
الصخب يكتب الصمت
والنَّردُ يعلّم اليقين.
- 30 –
شارعٌ – أطفالٌ في أشكال حجارةٍ،
رجالٌ في أشكال دُمىً.
أظنّ أن الحبّ حليبٌ لا إناءَ له.
متى ستولد المرأة؟
أحَقٌ في صدرك قمرٌ أيها الفضاء؟
- 31 –
شارعٌ – لماذ لا تهبطون فيه مع جنّياتكم،
أيها الشعراء؟
كمثل ما يفعل الأفق عندما يستحمّ في الغيم
كمثل ما يتدلى الأمل من عنق اليأس،
واليأس من عنق الأمل.
المسرّة قهوةٌ لغوية.
- 32 –
شارعٌ – حناجر بُحّت، وأخرى تلتهم نفسها.
الألسنة معامل
تحفر جسدَ لغة ليست إلا تُراباً.
هل التراب معدن الذهب حقاً، كما يقول المتنبي؟
ومن أين لهذا الشاعر، هذه الثقة؟
- 33 –
شارعٌ – أصابع تجسّ الهواء. خطوات في قوالب تصنعها اللحظات.
أشواق كمثل أقفالٍ من كَرزٍ اصطناعي.
اخترْ لعواطفك أحجاماً تليق بها.
الجرح معيار.
- 34 –
شارعٌ – زمرّدٌ بلاستيكي. امزج وقتك بنثاره. هباءٌ مؤسِّس مُؤَثَّث:
هباءٌ يحاصر الفضاء.
«الكلام أو الموت» كتاب للعالم النفساني مصطفى صفوان. صدر حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ونقله الى العربية العالم النفساني مصطفى حجازي.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد