أدونيس:ضد القذافي مع ليبيا الحرة غير الأطلسية
-1-
الحلف الأطلسي صيّاد له شهيّة الذئب:
يعرف كيف يصطاد النِيّاق النافرة، والنعاج الحُبْلى.
-2-
أكبر جبل عربيّ يمكن أن يتحوّل في عين الحلف الأطلسيّ إلى نملةٍ بائسة:
-»أذلك انبهارٌ أم احتقارٌ؟». يسأل فقيرٌ هنديٌ سائحٌ، صديقه الشاعر العربي الذي لا يعرف السياحة أبداً.
بماذا يُجيبه؟
-»الحلف الأطلسيّ عند سلطات العرب مرادف عسكريّ لحكمة إلهيّة خفيّة. حيث الوَبَأُ يفرز الوَبأَ، وحيث الوطن يلتهمُ بعضه بعضاً».
-3-
بين المستقبل وسماء الحلف الأطلسي عهدٌ تتتلمذُ السلطة العربية على قراءته في مدرسة للعميان، حيث لا يُسمع إلاّ صرير منشارٍ يحزُّ عنق الضوء.
-4-
الطّفل العربيّ الذي وُلد، فجر هذا اليوم، صار في أحضان الحلف الأطلسيّ، عشيّة هذا اليوم نفسه، شيخاً.
لا يفاجئْك، أيها القارئ، هذا التحوّل السريع.
فنّ السّلطة عند العرب، هو نفسه شاهد الولادةِ، وعرّاب الشيخوخة.
ـ 5 ـ
تبدو سماء الحلف الأطلسي، عند بعض العرب، بريئةً كمثل الوردة التي تَحدّثَ عنها آنجيلوس سيليسيوس: يفوحُ عطرها لأنه يفوح. دون سببٍ. دون «لماذا؟». وهكذا تغطّي هذه السماء أرض العرب لأنها تغطّيها.
والعجبُ أنها عينٌ ترى كلّ شيء في العالم، إلاّ تلك البقعة النبويّة المسحوقة: فلسطين.
وهي لا ترى إلى الأرض العربية، أرضياً. وإنما ترى إليها، سماويّاً.
تكاد، فيما تنظر إليها، أن تُمطر فوقها صلاةً.
تكاد كلّ كلمةٍ تقولها أن تتحوّل إلى محراب.
-6-
فنانٌ بارعٌ هو الحلف الأطلسيّ:
كمثل النحّات، لا يكتمل عملُه إلاّ بالحَذْفِ، وإلاّ بالتّصفية والتّنقية.
وكمثل الغَيْبِ عند بعضهم: لا يرقى إليه أيّ تفسير.
وما يقوله تخضع له جميع الإرادات.
وصوته أكثر من أن يوصف بأنّه شبه إلهيّ.
-7-
لسماء الحلف الأطلسيّ مخيّلة تظلّ دائما في درجة التوتّر القصوى.
من يقول لنا، إذاً،٬
لماذا، كلّما خطَتِ الأرض العربيّة خطوة إلى الأمام، أمسكت بها هذه السماء وردّتها إلى الوراء خطوات؟
ولماذا تحبّ هذه السماء أن تجثم على الأرض العربيّة، وتحول بينها وبين أن تنهض أو حتى أن تتنفس، أحياناً؟
ولماذا تكره أطفال الأرض والطفولة، خصوصاً أطفال العرب وطفولاتهم؟
ولماذا تستأثر دائما بقصب السّبق في جرّ أبناء الأرض إلى العذاب والخراب؟
ولماذا لا تريد لهم أن يبلغوا سنّ الرّشد؟ ألكي تعرف كيف تواصل رسالتها لهم، مبتكرة حليبهم وطرق رضاعتهم، الى جانب الأسرّة والدّمى؟
-8-
لا تأبه سماء الحلف الأطلسيّ لتلك الأصوات القليلة الصّارخة:
ماذا يحولُ، أيتها السماء دون طغيانٍ يمكن أن يولد غداً على أنقاض الطغيان الذي تهدّمينه؟ ولماذا عند العرب لا يحارَبُ الطغيانُ إلاّ بطغيانٍ آخر؟
وما يكون دور الشّابات والشبّان الذين تحضنينهم الآن؟ هل سيقدرون أيضا على الغضب؟ هل ستحضنينهم في هذه الحالة، وكيف؟ أم أنّ الغضب مُروَّض مسبقاً؟ وهل ستكون سلطة الغد، حريّة وعدالة وكرامة، أم أنها ستكون تنويعاً «معتدلاً» على السّلطة التي هدموها؟
-9-
إنه الجواب - الخطاب المنتظَر الذي ستوجّهه إلى الشّابات والشبّان، سماء الحلف الأطلسي:
«اشربوا، أيها الشبّان والشّابات لبن الغضب وعسله كما تشاؤون، لكن في الكؤوس التي صنعتها خصيصاً لكم – بأعناقها المائلة، وألوانها النبيذيّة.
ولا بأس أن تأخذكم النشوة. أن يقتل بعضكم نفسه فيما يقتل غيره، توكيداً على براءة التضحية، وصدق الشّهادة. ولا بأس أن يبدو الإنسان أقلّ قيمة من دجاجةٍ، وأدنى من ضفدع. ولا بأس أن تتحوّل أرضكم العربيّة الى مجازر ومقابر. فذلك ضروريّ لا من أجل «التطهير» وحده، وإنما أيضا من أجل «التطهُّر».
وسوف نتابع طريقنا:
نعدّ الرؤوسَ كرةً كرةً، أو رصاصةً رصاصة،٬
قبل أن نربطها بحبلِ عُروةٍ وُثْقى،٬
مشدودٍ إلى عمودٍ سماويّ.
حيث الفضاء صاروخ كرويّ،٬
والكذبُ الجُرْحُ والمِرْهَم.
هكذا تكون الكلمةُ ثقباً في الّلسان،
ويكون اللّسانُ ثقباً في الرأس.
يقال: الإنسانُ أمامَ الأشياء كلّها.
وأقول لكم، أنا سماء الاطلسي: «الإنسان وراء الأشياء كلّها.
اختاروا. لا تتردّدوا.
بعضهم يؤمن لكي يفهم، وهؤلاء هم الفائزون.
وبعضهم يفهم لكي يؤمن، وهؤلاء هم الخاسرون.
طوبى، طوبى!»
-10-
لا تصلّي سماء الحلف الأطلسيّ إلاّ للأنقاض.
لم نسمع قبلُ أنّ الآلهة تبكي.
اليوم نراها تبكي تحت هذه السماء، ونسمع الزّفير والشّهيق.
هاتوا، إذاً، أغطية – بيضاً أو حُمراً، وغطّوا هذه الجثة الضّخمة التي تُسمّى الحريّة العربيّة.
وها نحن الذين نقول عن أنفسنا بأننا أبناء اللّغة التي نطق بها اللّه، والقاموس جدّنا الاوّل، نسير وراء سلحفاة التّاريخ:
الكون طابعٌ بريديّ،
ولا نعرف أن نكتب رسالةً واحدة.
فانتازيا ختاميّة
(حول المعارضات العربيّة)
1ـ لا تزال الحياة العربية تتقلّب في جحيم القرون الوسطى. ولا معنى لأيّة ثورة عربيّة، إذا لم تكن قائمةً أساسيّاً، على إرادة الخروج من هذا الجحيم، ومن ضمنه «نعيم» الحمايات والتدخّلات الدوليّة، بمختلف أشكالها ومستوياتها. يحتاج العرب إذاً إلى ثورةٍ مختلفة، جذريّة وشاملة، لا تعرفها أبجديّة الثورات التقليديّة، ولا يمتّ فيها إلى الدولة بأيّة صلة، كلّ ما يمتّ إلى الدين بأيّة صلة.
دون ذلك لن تكون ثوراتنا أكثر من صراخٍ في أبواق الغيم. أو: لن تكون إلا تنويعاً آخر على عبوديّاتنا، وما أكثرها.
2- يتحدّث اليوم معظم الكتاب في الصحافة العربية عن المسلمين (بمختلف طوائفهم)، والمسيحيين (بمختلف طوائفهم أيضاً،) لا بوصفهم مواطنين يتساوون في المواطنة، بل بوصفهم جماعات دينية، وبوصفهم أكثريات وأقلّيات دينية. تماماً كما يتحدّث الكتاب الأجانب. وهم في ذلك يطمسون مفهوم المواطنة، وأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، ويطمسون الفرد ـ الإنسان، وحقوقه وحرياته بوصفه فرداً حرّاً لا يخضع ثقافيّاً للجماعة وقيمها؛ وفي طمسهم هذا يرسّخون قيم القرون الوسطى وينظرون إلى المسلمين بوصفهم غزاة، يطلبون إليهم أن يسلكوا مع غيرهم من سكان البلاد التي فتحوها سلوك التسامح...إلخ.
لا بدّ من تغيير هذه الطرق في الكتابة عن الأوضاع العربية الراهنة. لا بدّ من أن يتمّ النظَر إلى الجميع بعين المواطنة، لا بعين الدين، أو بعين الأكثرية والأقلّية دينيّاً. ويعرف الذين يتحمسون لحقوق الإنسان وحرياته، ولو نظريّاً ولفظيّاً، أنّ الحقّ ليس أكثريّة أو أقلّيّة. وأنّ هذين مفهومان سياسيّان، مرتبطان بالنظام الديموقراطي وآلياته السياسيّة الانتخابية.
ولا أظنّ أنّ هؤلاء الكتاب يريدون حقّاً أن نواصل الحياة والفكر، كما لو أننا نعيش في القرون الوسطى.
أدونيس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد