أفغانستان: الأرض التي لن تعرف الراحة
يرتبط اسم أفغانستان في التاريخ الحديث بـ «طالبان»، التنظيم الإرهابي الشهير، وزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، ولكن ما لا نعرفه عن هذا البلد أهم بكثير مما جرى الترويج له في العقد الأخير من القرن الواحد والعشرين، أي منذ أحداث 11 أيلول 2001.
أفغانستان بلاد جميلة، من حيث طبيعتها، ومن حيث تنوّعها الثقافي والعرقي. ليست غنية بالنفط والموارد الطبيعية، ولكنها ذات تاريخ حافل يعود إلى أيام الإسكندر المقدوني الذي عبر أفغانستان ليصل الهند، وبنى مدناً عديدة فيها، مثل مدينة هرات وقندهار وغيرها وعرفت هذه المناطق حينها باسم الإسكندرية تيمناً بالإسكندر.
جعل موقع أفغانستان الجغرافي البلاد في حالة حرب دائمة، فهي تقع على «طريق الحرير» وهو مصطلح يستخدم لوصف الطريق التي تصل أوروبا بالهند. على حدودها الجنوبية تقع باكستان، الدولة النووية حليفة الولايات المتحدة الأميركية. تصلها بالصين حدود ضيقة تسمى «منقار البطة»، غرباً تحدها إيران، وفي الشمال تحيط بها ثلاث دول من آسيا الوسطى هي طاجيكستان، أوزباكستان وتركمانستان.
«اللعبة الكبرى»
رغماً عنها دخلت أفغانستان «اللعبة الكبرى» بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، المتنافستين على شبه الجزيرة الهندية وآسيا الوسطى. وقد استخدم هذا المصطلح، «اللعبة الكبرى»، للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، أرثر كونلي، ضابط الاستخبارات البريطاني في شركة الهند الشرقية لتوصيف المنافسة الروسية ـ البريطانية على شبه الجزيرة الهندية وآسيا. ثم صار هذا التعبير متداولاً عام 1901، بعدما استعمله الروائي البريطاني روديارد كيبلينغ في روايته الشهيرة «كيم».
تراجعت وطأة المنافسة المحتدمة الروسية ـ البريطانية على أفغانستان مع بدء الخطر الألماني بمداهمة أوروبا في بداية القرن العشرين منذراً بالحرب العالمية الأولى. فلم يعد في وسع روسيا وبريطانيا التصارع على النفوذ في أفغانستان، بل باتت أولوياتهما تقتصر على حماية أقاليمهما الحيوية من ألمانيا، وبذلك تقرر وضع نهاية لهذا الصراع، وهذا ما تجلّ في الاتفاقية الروسية ـ البريطانية عام 1907 التي أرست الحدود المعروفة اليوم لأفغانستان.
أدخلت روسيا جيشها إلى أفغانستان عام 1979، وذلك بعدما تحوّل النظام الحاكم في البلاد إلى الحزب «الديموقراطي الشعبي الأفغاني» الموالي للاتحاد السوفياتي بعد انقلابين عانتهما البلاد وحرب أهلية دموية، وكانت السعودية وباكستان والولايات المتحدة تدعم «المجاهدين» بالسلاح والمال في أفغانستان، وهي الحركة المعارضة للشيوعيين الأفغان.
وبعدما ألقت الحرب الباردة أوزارها، ولم يعد للاتحاد السوفياتي من وجود، تحوّل الحكم عام 1994 في أفغانستان إلى «طالبان»، وجرى احتلالها أخيراً عام 2002 على يد الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث 11 أيلول.
«اللعبة الكبرى» هذه لم تنته، بل تغيّر اللاعبون مع تغيّر توازن القوى في العالم. تدخلت الولايات المتحدة في أفغانستان عسكرياً، وفرضت سيطرتها على البلاد، لم تقض على تنظيم «طالبان» نهائياً، ولكنها فرضت على باكستان عدم دعمه وهددت باحتلالها عسكرياً. بدأت أفغانستان تتحوّل إلى دولة ديموقراطية تدريجياً، وفي 29 أيلول من هذا العام انتُخب أشرف غني رئيساً للبلاد بعد حميد قرضاي.
إيران تدخل أفغانستان من بوابة هرات
في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة ترسل جنودها إلى الأراضي الأفغانية، كانت إيران تعمل على التسلل إلى المشهد الأفغاني بصمت. فلقد بدأت ببناء علاقة اقتصادية وجغرافية قوية مع أفغانستان، إضافة إلى دعم مجموعات موالية لها في البلاد مثل الهزارة، المجموعة الاثنية التي تعتنق المذهب الشيعي في شمال غرب البلاد، والطاجيك ذوي الأصول الفارسية.
وتعد منطقة هرات، الواقعة في الشمال الغربي للبلاد، التي بقيت آمنة نسبياً ولم يصل إليها نفوذ «طالبان»موطئ قدم إيران في أفغانستان. ومنطقة هرات متصلة بمدينة مشهد الإيرانية بسكة حديد تمتد على مسافة 400 كم على طول «طريق الحرير» القديمة، وهي جزء من مجموعة سكك حديد قيد البناء، يشيدها مهندسون إيرانيون، وتموّلها الجمهورية الإسلامية بالتنسيق مع الحكومة الأفغانية.
تريد إيران إذاً أن تخلق نفوذاً لها في أفغانستان، لتضمن وجود جارة لها لا تهددها، وتكون صلة وصل تجارية لها إلى آسيا.
الاستقرار في أفغانستان، ووجود حكومة، حتى لو كانت ذات إيديولوجية مختلفة، أمران أساسيان بالنسبة إلى إيران. همّ إيران الكبير إجلاء اللاجئين الأفغان، البالغ عددهم 2،4 مليون لاجئ، عن أرضها، وأن تبقى أفغانستان ضمن إطار نفوذها الاقتصادي.
ولكن لماذا تبدأ إيران من هرات؟ بحسب دراسة تحت عنوان «مصالح إيران المتواصلة في أفغانستان» كتبتها الباحثة سوميتا نارايانان كوتي ونشرتها مجلة «واشنطن كارترلي» عام 2014، تقع هرات في «قلب النفوذ الاقتصادي الإيراني»، وكأنها «منطقة عازلة»، بمعنى أنها أكثر ارتباطاً بإيران من أفغانستان. ونظراً لأهمية هرات، بدأت إيران منذ عام 2001 بإنشاء مشاريع بنى تحتية، وطرقات وجسور فيها، إضافة إلى مشاريع تربوية وزراعية. وفي عام 2009، أُنشئت غرفة تجارة إيرانية ـ أفغانية فيها. ولتعزيز قوّتها في أفغانستان، لا تستخدم إيران الأدوات الاقتصادية فقط، بل الأدوات العسكرية أيضاً، عبر نشر جيشها على الحدود ومحاربة تهريب المخدرات عبرها بالتنسيق مع الحكومة الأفغانية، ويظهر ذلك في اتفاق ثلاثي بين أفغانستان وباكستان وإيران عام 2009 لمحاربة تجارة المخدرات عبر الحدود.
بعد قرنين من الزمن، أي منذ القرن التاسع عشر حتى القرن الواحد والعشرين، «اللعبة الكبرى» مستمرّة، مع وجود قوى عالميّة وإقليمية، وخاصة الصين وروسيا والولايات المتحدة وإيران، تضع نصب عينيها السيطرة على أفغانستان ذات الموقع الاستراتيجي ساعية إلى خلق فضاء خاص لها فيها. وتضارب المصالح بين هذه القوى، سيستمر في التجلي على الأرض الأفغانية التي لن ترتاح أبداً، لكونها تربط العالم بآسيا الوسطى حيث الموارد الطبيعية.
لور الخوري
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد