أوروبا تلوّح للاجئين بفزّاعة دبلن وبمعتقلات جزر اليونان
الجزر اليونانية تغلي باليائسين بعدما تحوّلت إلى مراكز احتجاز مكتظة بآلاف اللاجئين. إنهم محبوسون هناك، لا يُعادون إلى تركيا، لا يُنقلون إلى البرّ اليوناني: لا أفق، لا أجوبة، ولا حتى وعود جديدة يمكنُ تقديمَها. اليمينُ المتطرّف يهاجُمهم هناك، الاكتظاظُ يسبّب التوترات، الحوادث. الوضعُ يتفاقم من أشهر، فلا يبقى سوى «مشاعر الثورة»، كما تنقل منظمات حقوقية.
هل من تفسيرات لدى المعبد الأوروبي لحقوق والمبادئ والحريات؟ المفوّض الأوروبي ديمتريس أفرامابوليس، المسؤول عن القضية، لم يعد يجرؤ على مواجهة الصحافيين. لا وقت للأجوبة، إنما فقط لمزيد من الأخبار السيئة: ابتداءً من منتصف آذار المقبل، كل من ينجو عبر اليونان، سيعاد إليها، مع إعادة تشغيل نظام «دبلن».
هذا النظام تمّ تجميد العمل به خلالَ ذروةِ تدفقاتِ اللجوء إلى أوروبا العام الماضي، بعدما أسقطَ الأمر الواقع القاعدةَ التي تحرّكُه: بلد الدخول الأول إلى أوروبا هو المسؤول عن اللاجئ، فلو انتقلَ إلى بلدٍ آخر فسيتمّ رفض طلب لجوئه مع قرار بإعادته.
لم تنجح محاولات إيطاليا واليونان، المعنيتين الأكثر، في الانتقال إلى نظام آخر على أساس تقاسمِ الأعباء، يستبدل نظاماً يحمّل المسؤولية لدول قدرها الجغرافي جعلها بوابةً أوروبية. أكثر ما حصلتا عليه مبادرة لـ «إصلاح» النظام، مع وعود بتلقي الدعم تحت ظروف ضغط كبير.
تعليق نظام دبلن كان أحد العوامل التي سمحت للاجئين بالبقاء حيث وصلوا، سواء في ألمانيا أو السويد أو غيرها، بعدما فتح المجال أمام حصولهم على وثائق اللجوء والإقامة. فترة السماح تلك ستنتهي بعد 15 آذار المقبل، ما يعني رفض طلبات اللجوء لكل الذين يقدمونها في غير بلد وصولهم الأول، سواء اليونان أو إيطاليا أو غيرها، بعد ذلك التاريخ.
ينطبق الأمر طبعاً على من تمّ تسجيلهم وأخذ بصماتهم في بلد الوصول، والمفوضية الأوروبية أعلنت أمس أن المسألة باتت محكمة: «مئة بالمئة» ممن يصلون إلى اليونان وايطاليا يجري تسجيلهم الآن بعدما جرى تحسين الإجراءات هناك.
إعادة التشغيل ستتم تدريجيا، كما اقترحت بروكسل، لكن الأمر سيكون كيفياً على كل حال.
التوصية تطلب ألا يتم في البداية إعادة الجميع إلى اليونان خصوصاً، لأن نظام لجوئها لا يزالُ تحتَ الضغط، مقترحةً استثناء من هم في «أوضاعٍ هشّة» والقصّر غير المصحوبين.
الإعادةُ إذاً ستكون القاعدة، أما كيفية التطبيق فتسودها الفوضى: يجبُ أن تقدّم اليونان ضمانات فردية، لكل حالة، بأنه سيجري استقبالها لتعيش بـ «كرامة».
توصية غريبة أخذاً بالاعتبار أن أثينا لم تتوقف عن الاستنجاد بالدعم الأوروبي لمساعدتها. يضاف لذلك أن سياستها لا تستدعي جعل ظروف الاستقبال «مثالية»، مع خشية من تحولها إلى «مستودع للأرواح»، كما حذرت حكومتها مراراً.
الخطوة الأوروبية متعددة الأهداف، ليس بينها تحسين ظروف الاستقبال أساسا، لا في اليونان ولا في غيرها. المطلوب إعادة تشغيل منطقة شنغن التي تضررت التجارة فيها من إجراءات الرقابة الحدودية المؤقتة، بعدما فرضتها ست دول من أصل 26 دولة.
المطلوب إيجاد فزاعات لردع اللاجئين من التوجه لأوروبا. باختصار مفيد، ذكره نائب رئيس المفوضية فرانس تيمرمانس، تشغيل خطوط دبلن خصوصا إلى اليونان لأنه «سيوفر لنا المزيد من المثبّطات ضد الدخول غير الشرعي، وخطوة مهمة للعودة إلى الحالة العادية بالنسبة لتشغيل دبلن ونظام شنغن».
الواقع يظهر أنه لا ينبغي أخذ الحديث عن حرص على ضمانات «الكرامة» بجدية. بعض المنظمات الناشطة على الجزر اليونانية تقول إن ما بقي هناك ليس سوى «مشاعر الثورة».
في تلك الجزر هناك نحو 16 ألف إنسان، يجري إيقافهم في مراكز احتجاز. صفقة الأوروبيين مع تركيا قضت بذلك، فأنقرة لا تقبل باستعادة سوى من يتم إبقاؤهم على الجزر، لذا أرسلت مندوبين عنها للمراقبة لتطبيق هذا الشرط هناك. لكن لا شيء يعمل تقريباً.
حتى الآن، لم تتم إعادة سوى حوالي 1200 لاجئ من الجزر إلى تركيا، فيما لا تزال الجزر تستقبل لاجئين بمعدل 90 واصلا يومياً، رغم إجراءات التشديد التركي. أعداد الواصلين تعني المزيد فوق آلاف المحتجزين داخل منشآت تحولت إلى معتقلات مكتظة، مسوّرة بالأسيجة المضاعفة. إنه «نجاح كبير للاتفاق»، كما يقول الأوروبيون بارتياح نظراً لأن نحو عشرة آلاف كانوا يصلون في ذروة التدفقات، لكن ذلك يزيد نمو وبروز تشوهات ما أنتجته الصفقة مع أنقرة.
إعادة تشغيل دبلن لتحميل اليونان المسؤولية، وسط تلك الظروف التي عاينها المسؤولون الأوروبيون خلال زيارتهم الميدانية، ليس إلا «نفاقا شنيعا» كما علقت منظمة العفو الدولية أمس.
مديرةُ المنظمة في بروكسل ايفيرنا مكجوان قالت إنه «بالنسبة للمفوضية كل طرق اللاجئين تؤدي إلى اليونان»، قبل أن تعقب «طالبو اللجوء على الجزء يواجهون الاكتظاظ ودرجات الحرارة المنخفضة جداً، نقص الماء الساخن، والعنف والهجمات بدافع الكراهية».
هجماتٌ عديدة تعرضت لها مراكز اللاجئين على يد جماعات توالي اليمين المتطرف، الأشهر بينها مركز احتجاز «موريا» على جزيرة خيوس. الاكتظاظ يقود إلى مشاحنات وحوادث، ليتراكم الاحتقان داخل الأسوار. منظمات حقوقية قالت إن ما يحدث هناك «غليان»، لتعلّق منظمة أطباء بلا حدود أنه لم يبق في تلك الأماكن سوى «مشاعر الثورة».
العالقون في اليونان، جزرا وبرا، وصلوا إلى نحو 60 ألف طالب لجوء، ليكون ذلك نتيجة مباشرة للصفقة التركية وإغلاق حدود طريق البلقان. التشوهات جعلت الاتحاد الأوروبي محطّ انتقاد متواصل من المنظمات الدولية، بعدما كانت مشغولة لوقت طويل في إحصاء تجاوزات الأنظمة القمعية. الحبل على الجرار، كما يقال. أخيراً، خرج مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي بكلام يضع الأمور في نصابها، وفي مجال التهديد الذي صنعته السياسة الأوروبية.
انتقد المسؤول الأممي بشدّة عمل الأوروبيين على ربط المساعدات الدولية والمزايا الأخرى بشرط «السيطرة على تدفقات الهجرة»، مصوّبا تحديدا على «السابقة» التي صنعتها الصفقة مع تركيا.
قال إن تلك الصفقة «تشجع حكومات أخرى على طلب المال من الاتحاد الأوروبي مقابل استضافة اللاجئين»، مشيرا إلى ما هو أخطر «ربما في نهاية المطاف تسمح (هذه السياسة) للحكومات المستضيفة باستخدام حركة السكان كورقة ضغط أو حتى تهديد».
ليس «ربما»، فنهاية المطاف صارت خلفنا. لا يمرّ أسبوع تقريباً من دون أن يخرج مسؤول تركي، من رئيس الدولة نزولا، ليقول إن قيام الأوروبيين بخطوات ضد تركيا سيدفع أنقرة لإغراق أوروبا باللاجئين. الآن هم مرتهنون لأنقرة أكثر وأكثر، بعدما باتوا محاصرين بنمو اليمين المتطرف. المخاوف كبيرة من مكاسب أكبر له في حال أي تدفقات جديدة، خصوصاً على مشارف انتخابات حاسمة في هولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
بعض المسؤولين في دول البلقان قالوا إن الحل الأمثل، بعدما أغلقوا الطريق بإيصاد الحدود، أن تتحول الجزر اليونانية إلى أماكن احتجاز. بدا الأمر مجرد دعايات انتخابية لاستعادة مكاسب اليمين المتطرف، قبل اتضاح أن تلك الأمنية لم تكن بعيدة عن التحقق. هل صارت الجزر اليونانية كذلك بمحض التداعيات، أم بتخطيط مسبق يدرك أين ستصل ويصرّ عليها؟ الخبر السيئ، لمن يعولون على الردع والتفزيع، أن الهاربين من الحروب والمآسي تجاوزوا ذلك بمراحل.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد