إسقاط مفاهيم الحداثة وتمجيد الفكر السلفي
حاول الاميركيون تدمير الذاكرة الثقافية للعراقيين بدءا من المتاحف والمكتبات وصولا الى المخطوطات ومنعوا كليا عودة الدراسة في الاقسام العلمية في كلية العلوم التقنية.
«القديم هو الاصل الذي يبنى غيره عليه. اي هو ما يحتاج اليه, على النقيض من الفرع الذي يحتاج الى غيره».
هكذا يتحدث «ادونيس» في الثابت والمتحول. الفصل الاول من الكتاب الثاني تأصيل الاصول عن القديم, الذي لا يناقش اشكالية ارتقائه الى مستوى المقدس, او على الاقل الى مستوى «الرجحان» الذي تفسيره بكون الاصل هو الحقيقة. او بمنطق الاستعارة يمكننا ان نقول بأن القديم هو الحقيقة ما دام هذا القديم هو الرجحان, وهو تطبيقنا للنص المقدس.
بيد ان هذه المشكلة التي ما برحت ترهن الفكر العربي ارتهانا ماضويا, وتقرر سلفا بان مساحة الاجتهاد محدودة بحدود تفسير النص (القديم) فقط, سبق وعورضت من قبل عدد كبير من المفكرين المسلمين والعرب.
فالدكتور مصطفى النشار وهو واحد من الفلاسفة المصريين المعاصرين يتساءل في مجرى كتابته عن التاريخ العربي للفلسفة قائلاً: «هل اننا الامة التي تعيش في التاريخ وتمجد الماضي, وتتمنى وجوده في الماضي؟ هل يعني اننا من فرط عيشنا في الماضي وحبنا له نسينا التذكير به, وبخاصة في مجال الفلسفة نظراً الى انشغالنا بالاحياء الديني دون بقية الجوانب الحضارية الاخرى؟ هل يعني ذلك اننا امة تعنى بالدين فقط وتغفل عن الاهتمام بالفلسفة والادب والفنون والعلوم؟...».
هناك اسئلة خطيرة يطرحها الدكتور مصطفى النشار, وهي بحاجة الى دراسة لا الى جواب. اذ ان مساحة الدراسة سوف تكشف امامنا خريطة القصور الذي نمارسه خلال عملية التأسيس الوهمية لمستقبلنا كأمة او كمجموعة انسانية تعيش متغيرات القرن الحادي والعشرين.
اذن لنبدأ اولاً من خريطة المتغيرات. وهي خريطة تتركب الآن بمعزل عن ارادتنا. ومن دون الاخذ بحقائق حاضرنا, او حتى بمطامح واحلام المستقبل رغم كونها متواضعة لا ترتقي الى مستوى المساهمة الفعالة في تحريك معطيات العصر او تثويرها...
والمشكلة في هذه القراءة ان اغلب المتابعين والباحثين العرب يدرسون هذه المتغيرات انطلاقاً من مظاهرها الخارجية وآثارها الآنية. فهي في نظر الذين يعتمدون تفسير «جيف سيمونز» وغيره من الباحثين الاميركيين الذين يرون في كل الذي حصل في العراق مثلا كان عملية سعي رئاسي اميركي شخصاني من قبل الرئيس بوش للعودة الى البيت الابيض وضمان اعادة انتخابه!!
فيما دراسات معمقة اخرى صدرت في اوروبا في الغالب رأت بالمتغيرات الحديثة التي طرأت على صعيد العالم العربي عموماً والعراق خصوصاً, انها تهدف الى تحقيق ما يلي:
اولاً خلق واقع عربي جديد ينهض على قانون الاستجابة العربية التامة للاستراتيجية الاسرائيلية الاميركية في المنطقة كلها, انطلاقاً من الساحة الفلسطينية, وتركيزا في الساحة العراقية, وامتدادا الى بقية الساحات العربية.
ثانيا تقوم سياسة (نظرية) العود الصلب او تليينه حسب قول الصحفية البريطانية (فيليسيتي اوبوتنوت) على تحويل المنطقة العربية برمتها, ابتداء من الساحة العراقية, الى منطقة حاجة ذات ارتباط احادي ومصيري. والحاجة هنا تنهض من واقع تحديد موارد العالم العربي بالخامات الناخبة (البترول, الغاز, الفوسفات وغيرها). يرافق ذلك احتياج متنام للاستهلاك المحلي مصدره شبه موحد, ونوعيته استهلاكية صرفة. ففي مثل هذا النظام الاستهلاكي العربي, تنتهي او تسقط عدة نظريات ومطالب حاولت النخب العربية ايجادها والمطالبة بها, وربما في مقدمتها مسألة التنمية والنمو الانتاجي او على الاقل الالتحاق بالركب العلمي المتنامي للأمم.
ثالثا التغيير المنهجي للثقافة العربية. وهنا ننتبه الى ما يحدث الآن في العراق. حيث تم تكليف لجنة «مبهمة» يترأسها يهودي عراقي لوضع مناهج تعليمية او استراتيجية تعليمية جديدة, مع التركيز على تدمير بعض البنى التقنية والعلمية التي حاولت بعض الجامعات في بغداد والبصرة والموصل تأسيسها.
لكن هل تعني كلمة التغيير القضاء على مفاهيم الحداثة وارجاع الفكر السلفي, او حسب ما نسميه, بقوة الماضي, للحضور ثانية في الهيمنة على الفكر الاكاديمي؟
هنا نرتكب خطأ مضادا يجب تجنبه, فالماضي العربي بما يحمل من ثوابت كلية ترتقي الى مستوى الايمان, هو الوعاء الذي تنضج فيه الافكار الاسلامية, والقومية وهذه الافكار رغم كل ملاحظاتنا المعاصرة حولها, صارت من اشرس ادوات التصدي للوجود الامبريالي الجديد بل هي كما تصفها الجهات المعادية بالقوة الاصولية السلاح الوحيد المشهور حاليا بوجه هذه الهجمة.
اذاً ستبدو فكرة التغيير المنهجي قائمة على خطة قوامها لا للماضي ولا للمستقبل. فالعالم العربي هو حاضر مطلق, حالة من حالات «الانزهايمر» حيث الكائن المصاب هو جسد محشو بالآن فقط, اي بكينونته وثقله في هذه اللحظة الحاضرة, انه يعيش محجوبا عن الماضي برمته, وغير معني بالمستقبل.
لهذا يدمر الاميركان بل دمروا فعلا الذاكرة الثقافية للعراقيين, المتاحف, المكتبات, المخطوطات, ومنعوا كليا عودة الدراسة في الاقسام العلمية من كلية العلوم التقنية التابعة لوزارة الدفاع وهي التي تحتوي على اذكى كادر علمي.
ان هذه النظرية ليست حلما يصعب تطبيقه من قبل اميركا واسرائيل. ففي اسرائيل هناك اكثر من نموذج نجحت التجربة التطبيقية فيه نجاحا باهرا... اذ اشارت الدراسات الاسرائيلية الى ان تحويل قرية «ام الفحم» الفلسطينية الى متحف للفن الاسرائيلي المعاصر, وجعل ساحاتها متاحف في الهواء الطلق, وبناياتها القديمة مقاصف ونواد تقام فيها اللقاءات الثقافية والسياحية... حول القرية الشرسة, الى بقعة آمنة لم تحصل فيها عملية مضادة واحدة, ولم تنهض فيها اي حركة دينية اسلامية ايضاً.
ان بؤرا مشابهة تسعى القيادة الاميركية في العراق الى استحداثها في مناطق محددة ببغداد, كالسعدون المحاذية لنهر دجلة, حيث اشترى بعض الاغنياء اليهود عقارات قديمة كانت لهم وباشروا بترميمها ثانية, ناهيك عن اعادة تأهيل شارع «ابي نواس» تأهيلا جديدا سوف يجعل من مثل هذه البؤر المؤهلة للانتشار امكنة تجريبية اختبارية للمنهاج التغييري الطويل الامد الذي تسعى اليه الادارة الاميركية في العراق.
يجب الا يخامرنا ادنى شك, بأن اميركا ستبقى طويلا في العراق. وان ما ستقيمه ليس الديمقراطية التي قد يؤدي قيامها الى الغاء الوجود الاحتلالي الاميركي, بل هو ذلك النظام المروض المهجن, ذو الحاضر المطلق والذي منه ومن بؤرته تبدأ عملية التغيير في العالم العربي, حيث لا بد من ان يؤثر في جميع المستويات على الجوار وعلى العالم العربي.
رابعاً على الصعيد الابداعي ستبدو الساحة الابداعية اكثر قابلية للمتغيرات. فنحن نمتاز ابداعيا بميزة فريدة قوامها, ان الكتاب او النص المضاد هو النص الاكثر رواجا. وان القارئ والمشاهد يندفعان صوب العمل الذي يعري الحاضر ويتحدث عن المستقبل بسوداوية. وقد سبق وقلنا ان الكائن العربي هو انسان مدموغ بالماضي, ومقهور بالحاضر, وقلق ازاء المستقبل.
من هنا ستبدأ عملية التغيير الابداعي من خلال الترويج للثقافة الاعلامية الامتصاصية عبر الفضائيات التي تعتمد بالدرجة الاولى على برامج الـ(توك شو), اذ مثل هذه الحوارات السريعة (البرقية) التي لا يمكن ان تؤسس موقفا بقدر ما تعلن عن مشاريع مواقف متقاطعة, ناهيك عن الفسح في المجال لصحافة متناقضة, كثيفة تغزو الاسواق متصادمة مع بعضها بعضاً, ونافية لاسباب وجودها, وراسمة لخرائط مستقبلية غير قابلة التحقق.
قتل الابداع يبدأ كما طبق عبر الفترة التي اعقبت (المكارثية) في اميركا, باطلاق العنان لاقصى حالات النفي والتطرف في لعبة الفن المضاد مثلا وهذا ما بدأت تعيشه الساحة العربية الآن, والا كيف ندرس جديا ظاهرة الفنون التجهيزية, وهي فنون تمتاز بعدم الديمومة ولكن بقوة انفعاليتها وبالصدمة الخارقة التي تولدها.
انها كالعقل الذي يعالج بالكهرباء, بالصدمة الكهربائية القوية, فهي اما ان تنهيه او تعيد تنشيطه ثانية ولكن من البداية الى النهاية التي يرسمها الآخر.
نلاحظ ان خريطة المتغيرات المفروضة على الساحة العربية ليست ضئيلة ولا ثانوية, بل هي مصيرية. فهل علينا ان نتقبل هذه الخارطة ام نرفضها؟
هنا السؤال الاكثر قلقاً...
اذ القول المجاني بضرورة رفض هذه المتغيرات لانها قادمة من الخارج, ومن قوى معادية وهي ضد مصالحنا, الى ما هنالك من مصطلحات هو قول ثوري ولكن غير مسؤول, وهو بالتالي ينتمي الى العدمية التي تنفي ولا تقدم البدائل.
اما القول بالبدائل قبل القول بالرفض فذلك يتطلب منا ان نضع مشروعنا النهضوي الذي يقف الى جانب الصورة التأسيسية الاكيدة للمستقبل.
ان ذلك يتطلب اولا اجراء تغييرات اساسية في البنى السياسية العربية, كان المعتزلة وعلى رأسهم مفكرهم «الجاحظ» (225هـ/ 868 م) وهو الاديب والمفكر البصري المعروف يرى ان من واجب الامة ان تعزل الظالمين ومن يقيمون على الخلافة بغير سند شرعي, وانهم لا يراعون مستقبل الامة... فلا غرابة ان يتوسع هذا الرأي الذي اطلقه المعتزلة مثلا ليصل الى زمن الغزالي (505هـ/1111م) رأياً قائما على سقوط وموت الامامة لانها باتت تفتقر الى المقومات والشروط اللازمة لها.
ندرك من ذلك ان نظرية ضرورة التغيير في البنى السياسية كلما دعت الضرورة هي نظرية اسلامية بتحتة, وهي وقائية حسب رأي (الماوردي) لان الامة التي لا تتغير سياسيا سوف يأتي من يغيرها من الخارج لانها ان بقيت متحجرة على اسسها القديمة تغري المعاول بهدمها. ويرى ابن جماعة القاضي الدمشقي (723هـ/1333م) «ان صاحب الشوكة له حق في الحكم الى ان يقوم آخر اقوى منه فيقهره وينتزع منه السلطة ويحكم بدلاً منه...».
ندرك من ذلك بأن النظام او الانظمة العربية وفي مجرى الاجراءات الوقائية على الاقل لا بد لها من ان تسارع الى اجراء تغييرات اساسية في المشروع السلطوي ذاته, وفي قضية البناء الوطني العام.
لكن ذلك قد يصطدم ايضا مع القوى السلفية, من جهة, ومع القوى الاميبريالية من جهة مقابلة... والغريب ان كلتا القوتين المتصادمتين (السلفية والامبريالية), تتفقان على ازاحة النظام العربي قبل السماح له باجراء اي تجديد او تغيير في علاقاته مع الجماهير او مع العالم الخارجي...
هنا تبرز ازمة النخبة العربية. وهنا تكمن اشكالية المواقف المعلنة. تماما كما حصل في العراق. اذ عندما اعلنت هذه الطبقة انها تقف ضد الحرب الاميركية البريطانية على العراق. ثم تجيير هذا الرفض لمصلحة النظام العراقي, الذي هو مرفوض اصلاً من قبل النخبة العربية الواعية. ايضا في ما يتعلق بمسألة التغيير المطلوب في النظام العربي. فاذا ما طالبنا بضرورة مبادرة هذا النظام لتجديد ذاته وتغيير نمطيته سوف نتهم باننا نسعى الى اطالة عمر هذا النظام تحت لافتة تجديده, او (تلميعه) واذا اتخذنا موقفا (راديكاليا) شرسا وطالبنا بالتغيير نكون الى جانب احدى القوتين, السلفية او الامبريالية. اذا ما العمل, كما قال ذات يوم لينين؟!
ان مراهنة على نظرية تغيير ضمن التغيير, حسب ما نادى به ذات يوم في الستينيات المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه ضمن نظرية (ثورة ضمن الثورة)... يمكنها ان تبلور مشروعا نهضويا عربيا ينطلق من فكرة تعميق الابداع, والذهاب الى قلب المعادلة العلمية.
بمعنى تطبيقي آخر فانه اذا كان انشاء مفاعل ذري عربي هو من المحرمات الاميركية الاسرائيلية... فان هذا الجانب المرتكز على ثورة (الكم) الكوانتوم هو ركن واحد من اركان المثلث النهضوي العلمي التغييري الحديث. لان ما تبقى هما الركنان القائمان على ثورتي الكمبيوتر والبيولوجيا وكلا الحقلين نستطيع ان نذهب بهما الى اقصى حدود التجلي. وما تجربة (وادي السليكون)في الامارات العربية الا واحدة من التجارب الناجحة التي سوف نحصد ثمارها في القريب العاجل... اما التجارب البيولوجية في الاكاديمية المصرية فهي تمضي بشكل مذهل ولكن دون دعاية او اعلان صاخب الامر الذي دفع المحرر العلمي لصحيفة (هآرتس) الاسرائيلية الى الحديث عنه وتنبيه الاوساط العلمية الاسرائيلية اليه.
اما على الصعيد الثقافي فإن التنوع البحثي الجديد واسلوب اصدار المطبوعات التي لا تنهض على نمطية قديمة مستهلكة ناهيك عن الاخبارية الواسعة في الحقول الفنية والانشائية والمعمارية, سيكون بامكانها تطوير البنى التغييرية العربية.
نحن ندرك اننا لا نستطيع ان نتملك, او غير مسموح لنا اصلا ان نمتلك, اسلحة متطورة او فتاكة. ومن الآن لن يسمح لنا ان نؤسس جيوشا هجومية او حتى دفاعية فاعلة. لكن ذلك لن يمنع من مواصلة البناء وتطوير الحياة الفكرية, والسياسية والاقتصادية, وبالتالي كنتاج لكل ذلك تطوير الحياة المدنية والاجتماعية وخلق المجتمع المدني الحديث المتحرر والمتحرك. ولدينا امثلة حية في المانيا واليابان وحتى الصين... لذلك لا بد من الذهاب من الآن صوب المشروع النهضوي تحت شعارات جديدة اساسها قلب المعادلة الاساسية اي هضم المتغيرات, واستيعاب المتغير....
حسان نصر
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد