استعراب أم استشراق روسي؟
كلما حاولنا مقاربة مسألة الاستشراق، ينصرف الذهن نحو الدراسات الاستشراقية التي أنجزت في بلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وأهملنا الدراسات التي أنجزت في عدد من الأقطار الأوروبية الشرقية التي لها تاريخ طويل وتقاليد راسخة في هذا الميدان وفي مقدمتها روسيا وأوكرانيا وبولونيا والمجر وجمهوريات ما كان يعرف سابقا بيوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وهو ما جعل تاريخ الاستشراق في هذه البلدان يكاد يكون مجهولا في وسط المثقفين العرب، وجعل الباحثين المعاصرين يعزفون عنه لندرة المؤلفات العربية المكتوبة حوله، والتي اقتصر بعض ما نشر منها في دراسات عامة حول الاستشراق العالمي أو مقالات متفرقة في بعض المجلات العربية. ماذا عن الاستشراق الشرقي؟
يعود اهتمام روسيا بالاستعراب الى القرن الثامن عشر بناء على مبادرة من القيصر بطرس الأكبر الذي أمر بنسخ بقايا الكتابات العربية المحفوظة في مدينة بولغار. هذه المدينة اعتنق سكانها الإسلام في العام 922 . ومن الواضح أن عملية نشر هذه الكتابات لعبت دوراً مهماً في تطوير الاستعراب الروسي في تلك الفترة.
أطلق بعد ذلك الكاتب المعروف أ. كانتيمير (1723-1673) مبادرته في تأسيس أول مطبعة بالحرف العربي. وهذا يعني وفق الوثائق الروسية ان اول مطبعة للحرف العربي تأسست في روسيا، وليس في بيروت أو حلب كما هو شائع. وفي العام 1716 صدرت في روسيا أول ترجمة كاملة للقرآن الكريم باللغة الروسية. كما أنشئت بتوجيه من بطرس الأكبر أولى مدارس الترجمة للمستعربين. أما في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فقد دخلت اللغة العربية في مناهج المدارس الثانوية في بعض المدن الروسية مثل أستراخان.
غير أن بداية انطلاقة العهد الجديد في الاستعراب الروسي فتعود إلى بداية القرن التاسع عشر، إذ تم إدخال تدريس اللغات الشرقية في الجامعات الروسية. وتأسست أول أقسام اللغة العربية في خاركوف وقازان وفيما بعد في موسكو. كما يمكن اعتبار البداية الفعلية للاستعراب العلمي في روسيا في بطرسبورغ على يد أحد اكبر المستشرقين في ذلك الحين خ.د. فرين. وتأسست كذلك في العام 1854 كلية اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ، حيث ضمت قسم اللغة العربية وآدابها.
غير ان الصلات بين روسيا والعالم الإسلامي بدأت زمن الدولة العباسية، حيث تبادلت الدولة الإسلامية السفارات مع روسيا، ولمّا ضمت روسيا إليها بعض المناطق الإسلامية ازداد الاهتمام بالإسلام والعالم الإسلامي، وقد أفادت روسيا من الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا خصوصا في فرنسا، حيث أوفدت روسيا بعض الباحثين للدراسة في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس. وقد شجعت الحكومات الروسية في العهود المختلفة دراسة التراث العربي الإسلامي خصوصا ذلك الذي يتعلق بالأقاليم الإسلامية الواقعة تحت سيطرة روسيا، وذلك لتوسيع المعرفة بالشعوب الإسلامية، وكانت المصادر الثقافية العربية تشكل ركناً أساسياً من مصادر معرفة شعوب القوقاز وآسيا الوسطى، هذه المعرفة انعكست بشكل إيجابي لمصلحة روسيا كما يعترف بذلك المستشرقون أنفسهم، بل ذهب الامر ببعض هؤلاء الى اعتبار التراث الشرقي الإسلامي جزء من تراثهم. يقول المستشرق بلوندين: نحن الروس، وجميع الذين في الساحة الروسية القيصرية السابقة، شرقيون بأنفسنا، وجزء من أراضينا موجود في آسيا، وثلثي حدودنا مع دول آسيوية مثل تركيا والصين”.
في العام 1763 صدرت أول ترجمة روسية لكتاب الف ليلة وليلة وكان لإنشاء كراسي اللغات الشرقية في الجامعات الروسية أثره في نشأة وتطور المدرسة الاستشراقية، فاستحدثت جامعة خاركوف في العام 1804 كرسياً لتدريس اللغات الشرقية وبدأت جامعة قازان في العام 1811 بتدريس الالسنية.
لقد كان للاستعراب الروسي منذ البداية مدرستان متمايزتان، ارتبطت إحداهما بوزارة الخارجية الروسية، وقد أسهمت هذه المدرسة في خدمة القرار السياسي والمصالح الروسية الخارجية إذ برز في ذلك الوقت اتجاه للدراسات الشرقية لأغراض سياسية، يحركها التعصب ديني، ولكن في الوقت نفسه. كان هناك حركات تقف ضد هذه التيارات المتعصبة وضد الدراسات الشرقية الكنيسية غير المستندة إلى وقائع تاريخية ثابتة. اما المدرسة الثانية فقد اعتمدت الطابع المعرفي العلمي البحت، وحرص المستعربون فيها على استقلالية عملها . هذه المدرسة نشأت وما زالت في بطرسبورغ، حيث بذلت جهود كبيرة من قبل العلماء في بطرسبورغ لتحقيق درجة من الاستقلال المهني ونشر الدراسات بعيداً عن التوجه السياسي. وتمت الاستعانة بعلماء من الغرب، كما كان الشأن بالنسبة الى المجالات الأخرى المختلفة، فعندما بدأ القيصر بطرس الأول الإصلاحات في السياسة والعلوم والجيش ومختلف أوجه الحياة في روسيا، استعان بالخبرات الأوروبية من فرنسا وألمانيا وإنكلترا، ولكن “الاستعراب” الروسي ما لبث أن أخذ بتكوين نفسه معتمداً على المصادر الشرقية الإسلامية مباشرة، بداية من خلال التبادل الثقافي الذي جرى والمعايشة المباشرة للموظفين والعسكريين الروس في مناطق الفولغا والبحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى. أما في شمال القوقاز فقد عاشت اللغة العربية حياة كاملة ليس في الكتابة فحسب، بل وفي الحديث أيضاً .
شيخ المستعربين
ويعتبر المستشرق الروسي كراتشكوفسكي اول من عالج عدد من القضايا المرتبطة بتاريخ الاستشراق في مجال الدراسات الروسية حول الدين الاسلامي واللغة والأدب العربيين وحضارة العرب وتاريخهم، وتؤشر مسيرته الى » «بداية الاستشراق في روسيا»، فهو يعتبر بحق شيخ المستشرقين (1883 - 1951) الذي اقترن اسمه بالاستشراق الروسي طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهوعلم من اعلام المدرسة الاستعرابية الروسية خلال هذه الفترة وذلك للمجهودات التي بذلها في ميداني التعليم والبحث العلمي. ومن أهم الانجازات التي قدمها هذا المستعرب في الأدب العربي القديم، نذكر أبحاثه حول الشاعر عبد الله ابن المعتز والمتنبي وأبو العلاء المعري وأبو الفرج الوأواء الدمشقي وتاريخ الأدب الجغرافي العربي والأندلسي، وغيرها من الدراسات التي شملت جميع فروع اللغة العربية وآدابها. كما أنه من الرواد القلائل الذين انتبهوا الى ظاهرة الأدب العربي الحديث، حيث قدم فيه دراسات عامة تبحث في تاريخ الأدب العربي الحديث ونشأته وظواهره، ودراسات حول الأدب العربي الحديث في بعض الأقطار العربية وغير العربية كأميركا ومصر، ودراسات حول عدد من الكتاب العرب كطه حسين، محمود تيمور، توفيق الحكيم، ميخائيل نعيمه والشاعر محمد مهدي الجواهري. وقد أصدرت له أكاديمية العلوم السوفياتية ما بين 1956 و1960 ستة مجلدات تضم مجموع ما كتبه هذا المستعرب في مختلف المجالات الأدبية والفكرية.
ولد “شيخ المستعربين الروس” في فيلينوس عاصمة (ليتوانيا) عاش حياته الأولى في طشقند مع أبيه حتى العام /1888/ وهناك بدأ تعليمه الأولي. ثم تابع تعليمه الجامعي وأنهاه في جامعة (بطرسبورغ) عام /1905/. متخرجاً من قسم اللغة العربية في كلية الدراسات الشرقية، ثم قدم رسالته للماجستير في العام /1908/ عن الشاعر (الوأواء الدمشقي).
وصل إلى بيروت في شهر تموز (يوليو) من العام /1908/ في رحلة علمية اقترحها عليه أستاذه المستعرب (روزن). وفي هذه المدينة المتوسطية التقى العديد من العلماء والأدباء والمفكرين العرب، والمستعربين من أوربا الغربية. ففي جامعة القديس يوسف في بيروت التقى المؤرخ البلجيكي لامنس والفرنسي (رونزفال) والإيطالي نللينو.
ومن المفكرين العرب التقى كلاً من: لويس شيخو، جرجي زيدان، محمد كرد علي، أمين الريحاني، إسعاف النشاشيبي، وغيرهم. واستمرت صلاته ببعضهم لأغراض البحث العلمي. وبعد ذلك، عمل (كراتشكوفسكي) أميناً لمكتبة اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ، وأستاذاً للغة العربية في الجامعة نفسها. وفي العام /1921/ انتخب عضواً في أكاديمية العلوم السوفياتية، وانتخبه المجمع العلمي في دمشق في العام /1923/ عضواً فيه، كما كان عضواً في العديد من الأكاديميات والجمعيات العلمية.
أمضى كراتشكوفسكي جلّ حياته الفكرية يعمل في حقل الدراسات العربية. ففي حقل المخطوطات والكشف عنها وتحقيقها، كان له الفضل في اكتشاف مخطوط “المنازل والديار” للأمير السوري أسامة بن منقذ. وكذلك مخطوط “رسالة الملائكة” لأبي العلاء المعري. وقام بنشر كتاب “البديع” لابن المعتز. وفي مجال المؤلفات، قدم كراتشكوفسكي عملاً على غاية الأهمية في حقل المخطوطات العربية، ألا وهو كتابه “مع المخطوطات العربية” الذي يعتبر مسيرة ذاتية له، قدم فيه موقفاً شاملاً من الشخصية العربية والإسلامية، موقفاً مشرفاً للحضارة والتراث العربي الإسلامي. كما ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الروسية، وكذلك كتابه “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”.
لقد مر الاستعراب الروسي بمراحل متعددة امتدت من فترة قبل الثورة البلشفية على مرحلة متقدمة في تاريخها. وساهم فيه رجالات عدة من داخل روسيا والاتحاد السوفياتي ولاحقاً من خارجها. وهذا يعني أن الاستعراب الروسي كان في بدايته ما يزال يعتمد على الخبرات الأجنبية القادمة من أوروبا الغربية. لكنه ما لبث أن تجاوز ذلك إلى خبرات محلية وشرقية.
مع بدايات القرن العشرين حرّر المصري محمد طلعت حرب جريدة عربية باسم “التلميذ” في بطرسبورغ، ونشر كتاباً صغيراً يصف فيه انطباعاته عن روسيا. أما في مدرسة استعراب موسكو، فقد كان أول مدرس للغة العربية في معهد (لازاريف) الأستاذ العربي (مرقص الدمشقي 1914-1846) الذي تعلم في المدرسة البولونية الدينية بالقرب من القسطنطينية. وأتم دراساته العليا في كلية اللغات الشرقية في بطرسبورغ سنة 1868-1867 وحصل على الميدالية الفضية من أجل البحث الذي قدمه عن الخليفة علي بن أبي طالب. ثم أصبح رئيساً لقسم اللغة العربية في موسكو. وبقي في المعهد بين 1872 و 1900 إذ غادر بعدها إلى سوريا بسبب اعتلال صحته وتوفي هناك.
وبعد مرقص تولى التدريس في معهد لازاريف الباحث م. عطايا 1852-1924 الدمشقي الأصل، والذي كان مساعداً لمرقص في تدريس اللغة العربية منذ العام 1873 واستمر في التدريس أكثر من خمسين عاماً، وقد كان صاحب شهرة كبيرة في بيئة الاستعراب الروسي.
غوركي وتولستوي
لقد أسَّسَتْ العلاقات الثقافية القديمة بين العرب والمسلمين لتواصل مستمر توارثته الأجيال من الشعبين العربي والروسي عبر حقب مختلفة من الزمان، وتأثرت هاتان الثقافتان ببعضهما البعض من خلال الرواد من المبدعين الكبار، فالكاتب الروسي مكسيم غوركي يعلن مفاخرا عن تأثره بالثقافة العربية في ما كتبه عن الاساطير، حيث قال: “ينبغي أن أعترف شخصياً أن الحكايات كان لها تأثير إيجابي تماماً على نموي العقلي حين كنت أسمعها من ثغر جدتي والرواة الريفيين، وقد أذهلني ورفع من تقديري للحكايات وأهميتها حقيقة كونها عملاً منشوراً. لقد قرأت في عمر الثانية عشر “الأساطير العربية الجديدة... لقد كانت طبعة من طبعات الأقاليم الصادرة في القرن الثامن عشر”.
ليس غوركي وحده كان مبهوراً بالإبداعات الثقافية العربية” و”ألف ليلة وليلة” وحكايات شهرزاد، وإنما كان من قبله الكاتب الروسي صاحب “الحرب والسلام” ليف تولستوي، الذي غرق في عشق الشرق، وبُهر بالقرآن حيث قرأه جيداً، وتنبه لحياة المجتمع العربي والإسلامي، وأعجب بالحكايات والأساطير ضمن الطبعات الشعبية، التي كانت تقوم الحكومة بطباعتها للقراء الروس.
يقول الدكتور عدنان جاموس إن “تولستوي كان يكن احتراماً عميقاً للقيم السامية، التي دعا إليها الإسلام، ويشيد بشخصية الرسول العربي”، وكان قد ألف عدداً من الروايات والكتب، التي تعكس تأثره بالثقافة العربية. وذهب نفس ما ذهب إليه تولستوي الأدباء والشعراء الروس المشهورون أمثال ميخائيل ليرمونتوف، ونيكولاي غوغول، وكان قدوة هذه الكوكبة المشرقة من كبار المبدعين الروس الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين، الذي تأثر بلغة القرآن وبلاغته، وتأثر أيضاً بسيرة الرسول النبي محمد، كما تأثر بالأدب الشعبي العربي، وكتب متأثراً بالشرق وآدابه وفنونه كتابات شعرية كثيرة .
غير ان هذه المقاربات الروسية للعالم العربي والاسلامي، تركزت في مجملها على النتاج الادبي، ولم تتغلغل الى العمق الاجتماعي للشرق، كذلك بقيت هذه العلاقة “السياحية” رهينة النظرة الاستشراقية الاوروبية للعرب والاسلام، رغم علامات الاعجاب التي بامكاننا ان نتلمسها في كتابات هذا الاديب الروسي او ذاك. واللافت انه رغم البعد الزمني للعلاقات العربية – الروسية، الا ان هذه العلاقات “التاريخية”هي من الهشاشة والتواضع، بحيث انها تبدو قاصرة عن تقديم صورة حقيقية لاي راغب في التعرف على الحضارة العربية – الاسلامية.
واذا كانت بدايات الاستشراق الروسي، قد تحركت ضمن دائرة المعري وابن فضلان، وحكايات الف ليلة ليلة والقرآن، الا ان ما يسمى الاستشراق الروسي لم ينج من اغلال الماضي واغراءاته ايضا، الامر الذي يكشف عن قصور من الجانب الروسي في دراسته لعالم بدا انه على صلة معه منذ اكثر من 3 قرون. وهذا الامر ينسحب على الدراسين العرب الذين اقاموا في روسيا لسنوات وعقود طويلة، فهؤلاء في الواقع لم يكلفوا انفسهم عناء التأمل في الحضارة الروسية، وجل ما انتجوه عن المجتمع الروسي لم يكن اكبر مستوى من الواجبات المدرسية التي ينجزها الطلاب “لارضاء” اساتذتهم. ولذلك فان أي حديث عن حوار عميق بين الحضارة العربية والاسلامية، والحضارة الروسية، هو في الواقع حديث مفتعل ولا يمتّ للحقائق والمعطيات الواقعية بصلة. واذا استثنينا نشاط السفراء والملحقين الثقافيين، فإن في وسعنا القول ان أي جهد حقيقي لم يبذل بعد لتعبيد طريق المعرفة بين العرب والروس.
حسين نصر الله
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد