الأرض كائن حي والبشر جهازه العصبي
ربما يصعب على الناظر الى العالِم البريطاني جيمس لوفلوك بجسده النحيل وعينيه الزرقاوين وصوته الناعم وابتسامته الطفولية، ان يتصوره مُنظّراً كئيباً ومتشائماً وشبه يائس، لكن هذا العالم أصدر أخيراً كتاباً يطرح إحدى اكثر النظريات عتمةً حول مستقبل الكرة الأرضية. كما انه يصعب التصديق أن هذا الجد الحنون أوقد، على مدار 40 سنة، نار جدل عنيف حول نظرية «غايا»، التي استمد اسمها من الأساطير اليونانية القديمة؛ والتي ترتكز الى فكرة أنّ كوكبنا كائنٌ حي بامتياز!
فعندما كان في مقتبل أربعيناته، انتقل الى دراسة الفيزياء البيولوجية، بعد أن مارس الطب لفترة ليست بالقصيرة.
وحينها، صنع بضعة أجهزة مهمة، وخصوصاً تلك التي تستعمل تقنية التحليل الضوئي «كروماتوغرافي» Chromatography للتعرّف الى تركيبة المواد المختلفة. وسرعان ما استقطبت تلك الأجهزة اهتمام «وكالة الفضاء والطيران الأميركي» (ناسا)، التي كانت تخوض «معركة» استكشاف كوكب المريخ. وفي عام 1961، استدعت الوكالة الأميركية لوفلوك، وألحقته بفريق «مختبر الدفع النفّاث» في «باسادينا» بولاية كاليفورنيا، لكي يعمل على تكييف هذه الأجهزة مع شروط عمل المركبات في الفضاء الكوني. وسرعان ما بدأ ذلك البريطاني بالتدخل في ما لا يعنيه. «أبلغت علماء البيولوجيا أنّ تجاربهم كانت سخيفة، فهي ترى ضمناً أنّ الحياة على المريخ شبيهة بالحياة في صحراء كاليفورنيا»! ووجد لوفلوك نفسه مُطالباً بتفسير استخفافه بالآخرين بطريقة علمية مقنعة، تحت طائلة الطرد من «ناسا».
حثّ لوفلوك عقله على العمل بأقصى سرعة. واندفعت الى ذهنه فكرة تقول إن الظاهرة الحيّة التي تشمل النبات والحيوان والانسان، لها صفات مُحدّدة تنعكس في المحيط الذي تعيش فيه.
وزعم إمكان الحصول على دلائل في الغلاف الجوي عن وجود كائنات تتغذى منه وترمي فضلاتها فيه. يصح ذلك بالنسبة الى الأرض، كما لأي كوكب يحتضن ظواهر حيّة. فمثلاً، من المستطاع تحليل التركيبة الكيميائية للجو في المريخ؛ عبر تحليل الضوء الآتي منه، للإجابة عن سؤال مثل احتمال وجود حياة ما عليه، ومن دون الاضطرار الى السفر اليه. ويعني ذلك امكان الإجابة عن سؤال الحياة على المريخ بواسطة تلسكوب مزود بآلة للتحليل الطيفي لضوء الصادر من الكوكب الأحمر! واستطراداً، فإن التسليم بهذه النظرية يستوجب تغيير برنامج اكتشاف المريخ.
وأبدى جمع من علماء «الناسا» اعتراضهم. وطُلب من الرجل أن يعود إلى آلاته. لكن سرعان ما نال... حريته. فما أهمية وكالة «ناسا»، طالما أن لوفلوك وجد الخيط الذي لن يتخلى عنه. وفي عام 1965، نشر في مجلة «نايتشر» Nature مقالاً عن استشعار علامات الحياة على المريخ من بُعد. وبعد سنتيْن، نشر خلاصة لنتائج دراسته حول الموضوع المريخي، وبالاعتماد على الطريقة المُشار إليها أعلاه، وأرفقها بمقارنة مع الأرض. (أنظر الكادر: ماذا تعرف عن... الأرض؟). وبدت آراؤه متفرّدة الى حدّ الغرابة. وارتكز في تحليله أيضاً الى المبدأ الثاني من الديناميكيا الحرارية الذي يقول إنّ المادة تميل نحو الفوضى باطراد، ما يتعارض مع الطابع المُنظّم للحياة وظواهرها.
«قُلت إن كوكب المريخ قريب من التوازن الكيميائي، بأثر من سيطرة ثاني أوكسيد الكربون ( وهو غاز في غاية الاستقرار) بنسبة 95 في المئة عليه. في المقابل، تبدو الأرض مُضطربة في تركيبها الكيميائي. ولا يتوافر في هوائها سوى القليل من ثاني أوكسيد الكاربون، مع الكثير من الأوكسيجين والميثان وغيره من الغازات الأقل استقراراً».
واندفع لوفلوك ليستنتج بقسوة أن الحياة هي التي تجدد باستمرار تركيب الغلاف الجوي، ما يبعد الأرض عن التوازن الكماوي الملحوظ على كوكبي المريخ والزهرة، اللذين يفتقدان للحياة!
إذن، فأبسط وصف للأرض هو انها كائن حي! إنّ لوفلوك الذي أراد في شبابه ان يصبح طبيباً، عثر في نهاية المطاف على «مريض» غير متوقع: الكوكب الأزرق.
وكذلك لاحظ أن الغلاف الجوي للأرض هو للحافظ على توازن ملحوظ على مرّ الزمان، كحال الدم في الإنسان. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حرارة كوكبنا، التي بقيت مستقرة عبر ملايين السنين، على رغم التغيرات الطارئة على محيطها. ويُطلق على هذه الميزة اسم «ثبات الحرارة»، كحال البشر والحيوانات اللبونة مثلاً. وفي خطوة أُخرى، لاحظ لوفلوك أنّ حرارة الأرض وتركيبتها مستقرة عند مستويات تُعتبر «مثالية»، أي انها تلائم الظاهرة الحيّة، فكأن الحياة هي «الغاية» من هذين الأمرين. ومثلاً، لو احتوى الهواء على ضعفي كمية الأوكسجين، فإنه يتسبب باندلاع حرائق هائلة. وكذلك، فلو نقصت تلك الكمية عينها الى النصف، فقد تنقرض الكثير من الأنواع الحيّة.
وفي عام 1979 بعد مقالات عدّة أحدثت ضجةّ في أوساط القراء، لخّص لوفلوك فكرته الأساسية في كتابٍ بات مرجعاً: «الأرض كائن حي: نظرية غايا». ويرد فيه تشبيه الكوكب بنسيج ضخم من الكائنات الحية والوسط المعدني، أي جسم كبير يتميز بمحافظته على الوضع الأنسب للحياة من خلال آليات التفاعل بين مكوّناته المختلفة.
أثارت نظرية «غايا» فضول علماء كُثُر، من اختصاصات متنوعة. ذلك أنها تعتبر الأرض نظاماً تتفاعل أجزاؤه كلها، ما يفرض تنسيق جهود علماء البيولوجيا واختصاصيي القشرة الأرضية والجيولوجيا والمحيطات والمحيط الهوائي وغيرهم، في العمل على تسريع عجلة سير هذا النظام. ومع زيادة التنبّه الى ظاهرة ارتفاع حرارة الأرض، عادت نظرية «غايا» للتألق مُجدّداً.
ولكن البعض أبدى حساسية حيال اسمها المستوحى من الأساطير، وكذلك سياقها الذي يُذكّر بفلسفة أرسطو القديمة عن «العلة الغائية» باعتبارها جزءاً من العلل الأربعة الأساسية في تفسير الكون. ومن الواضح أن نظرية «غايا» تتضارب أيضاً مع مقولات تشارلز داروين عن «النشوء والارتقاء»، التي لم تنظر الى المحيط الحيوي للكائنات الحيّة باعتباره جزءاً من ظواهر الحياة على الأرض.
ويرى العجوز لوفلوك أنّ بعض علماء البيولوجيا أظهروا عدوانية مفرطة حيال نظريته عن الأرض ككائن حي. «انهم يتهجمون بواسطة أسلحتهم الدينية الخاصة، كما لو كان كتاب «أصل الكائنات» لداروين النسخة الجديدة عن الكتاب المقدس... ليس لدي شيء ضد الداروينية؛ بل انّ نظريتي تحمل شقاً داروينياً، إنما تتعدى هذا الشق لتنتقل إلى مستوى أعلى. يُشبه الأمر القول إن نظرية النسبية تخطت قوانين نيوتن في الفيزياء».
ولا يتردّد في الإشارة الى أن الحديث على «حياة» الأرض هو محض استعارة. «لا تحيا الأرض كالناس أو النبات أو الجراثيم... أرى أنّ تعريف الحياة كما يراها علماء الأحياء محدودة للغاية. فلا تفتقر «غايا» سوى إلى عنصر التكاثر»!
لم يأخذ لوفلوك بالنصيحة التي أُسديت إليه بتسمية مقولاته «النظرية البيو-جيو-كيمياوية». ويرفض هذا الطبيب بإصرار أن يلطّف نبرة كتاباته، متشاجراً من دون توقف مع أعدائه الكثر. وأدى ذلك أيضاً الى تتويجه ملكاً على عرش العلماء المستقلين الذين يعملون بعيداً من المؤسسات الكبرى، ويكرسون فكرهم كله للدفاع عن نظريتهم واغنائها. فقد أصدر 200 مقالة، نُشر 30 منها في مجلة «نايتشر». وكذلك توصّل، مثلاً، إلى اكتشاف مادة «دايمثايل سالفيد» Dimethylsulphide والرذاذ الذي ينبعث من الطحالب فتبرّد الجو، ما يشكل مثالاً على صحة «غايا»؛ بمعنى أنه إذا ارتفعت الحرارة، تنتشر الطحالب وتنتج المزيد من ذلك الرذاذ، فيبرّد الجو.
ونظراً إلى خلافه مع معظم المؤسسات العلمية، استطاع لوفلوك أن يلجأ إلى عائلة جديدة كانت تمدّ له يدها باستمرار: تيار البيئة. ففي السبعينات من القرن الماضي، أصبح علماء البيئة من أشد المعجبين به وباستعارة «غايا». ولا يتردّد في التصريح عن انتمائه إلى أنصار البيئة، ولكنه، في الوقت نفسه منفتح إلى أقصى درجة على التكنولوجيا. لا شكّ أنه يعارض التلوث وتدخل الإنسان في نشاط «غايا» الطبيعي، إلاّ انّ ذلك لا يمنعه من دعم البديل النووي في الطاقة، على سبيل المثال، كجزء من الجهود الرامية لعلاج مسألة الاحتباس الحراري. ويروي بمزاحٍ هذه القصة: «يزورني العديد من أنصار «حزب الخضر» الفرنسيين الذين يمتدحون مزايا القطار المغناطيسي السريع جداً «تي جي في» TGV. فأقول لهم: انتم على حق، إنه رائع... ولكن اتعلمون أنّ هذا القطار يُعدّ من وسائل النقل النووية؟ فيصيحون محتجين بأعلى صوتهم؛ وأُصرّ على القول لهم بأنها الحقيقة. فغالباً ما ينتمي هؤلاء الخضر إلى طبقة المتمدنين الميسورين، المليئين بالنيات الحسنة إنما العاجزون عن فهم العلم اوالواقع».
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد