الإجماع والسلطة والمرجعية
لم يكن لإجماع المسلمين أي قيمة زمن النبي (صلى الله عليه وسلّم)، بسبب أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلّم) هو القيادة الكاريزمية الحصرية والمرجع الوحيد المعبر حينها عن مراد الله. وبوفاة النبي، برزت حاجة المسلمين إلى اتخاذ إجراءات وقرارات مصيرية تتعلق بحفظ الإرث النبوي ومعالجة مسائل دينية مستجدة ومصيرية بعد النبي. وهي قرارات تبقى مُعلَّقة ومحلاً للتردد في المزاج الديني العام، ما لم تكتسب مشروعيتها من مرتكز ديني مُلزم. كان الإجماع أحد أهم، بل أهم مستمسك ديني اعتمده المسلمون للخروج من هذه المعضلة، لأنه لا يكتفي بشرعنة الإجراءات والأحكام الجزئية التي اعتمدت بعد النبي والتي لم تستند صراحة إلى نص قرآني أو نبوي، بل يحمل، بحسب منطوق الرواية «لا تجتمع أمتي على خطأ» وبحسب البناءات الاستدلالية للفقهاء، قوةَ الكشف عن مراد الله، ويدل بطريقة غير مباشرة على استمرار الوحي بعد النبي، لكن هذه المرة، من طريق جماعة المؤمنين لا طريق شخص بعينه، إذ يكشف إجماعهم واتفاقهم حول أمر من الأمور عن إرادة الله وحكمه في هذا الأمر. فكأن الله عبَّر عن مراده من خلالهم وعبرهم، لكن هذه المرة لا باللفظ المباشر، بل بالموقف والإرادة المتجسدة باتفاقهم.
لم يكن الإجماع في بداية الأمر، بهذا الوضوح من حيث مبانيه وآلياته وتقنياته التي أخذت تتعقد وتتفرع كلما تم الابتعاد عن زمن النبي (صلى الله عليه وسلّم). بل لم يعهد إلى جيل الصحابة ضرورة الإجماع في كل شأن ديني أو دنيوي، وكان الاختلاف حاصلاً ومستمراً بينهم في تقرير الكثير من الشؤون الدينية والدنيوية. بيد أن أهمية الإجماع أخذت تقوى كلما ابتعد المسلمون عن زمن التأسيس الأول، ومع تناقص فرص الاحتكاك أو التواصل الحسي بعصر النبي (صلى الله عليه وسلّم) والعصر القريب منه، كجيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. لم يعد لديهم وسيلة للتحقق من يقينية الوثائق الدينية التي بين أيديهم، والتأكد من أن ما يتداولونه من نصوص يجسد تجربة الوحي ويمثلها تمثيلاً مطابقاً وجازماً. ولما كان ما بأيديهم من وثائق دينية، ولا سيما القرآن، قد تم تدشينها بوصفها مدونات نصية نهائية ومغلقة بعد النبي، وتم تدوين التراث النبوي في عصور زمنية ممتدة، نشأ في وعي المسلمين تلازم بين سلامة المدونات وصحتها وعصمة العصور والأزمنة التي أنتجتها.
اتخذ الإجماع صورة إجرائية في زمن الصحابة، لغرض ملء الفراغات التي نتجت من موت النبي (صلى الله عليه وسلّم)، ولهدف تأسيس قواعد ونظم علاقات جديدة، إلا أن هذا الإجراء انتقل في مرحلة لاحقة، من طبيعته الإجرائية العملية، إلى مرتبة أخرى ذات بعد غيبي ومغلفة بقداسة معينة، أخذت تقوى وتشتد كلما ابتعد الزمن عن فترة الوحي. وكأن هنالك حاجة دائمة في كل الأزمنة لقداسة معينة متجسدة بمؤسسة أو هيئة اجتماعية تحمل سلطة إلزام مقدس، وتملك صلاحية التعبير عن الله أو تمثيل الله بنحو من الأنحاء.
بذلك، اتخذ الإجماع مكانة فريدة بين مجموع النصوص الدينية، لا تقتصر على كونه مصدراً تشريعياً مستقلاً، بل ليحتل موقع أصل الأصول الذي تتوقف عليه سلامة القرآن ويقينيته، وصحة تداول المدونات الحديثية، الصحاح الستة عند السنة، والكتب الأربعة عند الشيعة. ليصبح الإجماع في المنظومة النصية الدينية، كما يقول الغزالي: «أعظم أصول الدين»، وكما يقول الأصفهاني: «لا يعارضه دليل أصلاً»، ويكون إنكاره مؤدياً إلى كفر متعاطيه، «لأن إنكاره يتضمن إنكار سند قاطع وهو يتضمن إنكار صدق الرسول وهو كفر»، وكما يقول البزدوي: «الإجماع من أعظم أُصول الدين. فلأَن يثبت الإجماع حجة لأَجل صيانة أصلِ الدين كان أولى، وهذا بخلاف الشرائع المتقدمة، فَإِن نسْخَهَا لَمَّا كان جائزاً لم تقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة عن الخطأ فأما شريعتنا فلا يجوز عليها النسخ بل هي شريعة مؤبدة فعُصمَت أُمتها مِنْ الخطأ ليَبقى الشرع بإجماع الأُمة مَحفُوظاً».
لم يعد الإجماع، مجرد توافق إرادة المسلمين على أمر من الأمور، بل هو، بحسب منظومة النص الديني، كاشف عن إرادة الله وحكمه في أمر من الأمور. أصبح الإجماع بالتالي دليلاً شرعياً ودينياً مستقلاً، يضاف إلى دليلي القرآن والسنة، بصفته نِداً مزاحِماً لهما، ويتقدم عليهما في قوة دليليته في أكثر الأحيان، على رغم تأخره عنهما في مرتبته الاعتبارية ومنزلته الوجودية وزمن تحققه. أصبح الإجماع العمدة الأساسية في تأكيد يقينية المصحف الدائر بين المسلمين لجهة مطابقته للوحي الذي نزل على النبي، وفي منح الخبر المتواتر قوة العلم والعمل معاً، وفي تسويغ العمل بخبر الأحاد الذي هو عمدة الأحاديث المدونة والمصنفة في الكتب الحديثية. تحول الإجماع من اتفاق على رأي أو موقف، إلى نص يستدل به على ثبوت حكم أو تقرير موقف، ليُنصَّب ركناً من أركان المنظومة النصية، المتقومة بالقرآن والسنة والإجماع، وليصبح، بتعبير الجابري، «من أقوى السلطات المرجعية في الحقل المعرفي البياني».
من هنا فإن مكانة الإجماع وإلزاميته، لم تستندا حصراً إلى الحديث المروي عن النبي: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، بل استندتا إلى قوة الإلزام الجماعية، المُسنَدَة إلى صلاحية تعميم سلطوية، وكثافة استدلال فقهي، تجعل إرادة الجماعة تتطابق مع إرادة الله. ليمثل الإجماع بذلك انصهار الذروتين وتطابقهما، سلطة الأرض وسلطة السماء. وهو ما يبقي إرادة الله مستمرة في مجرى التاريخ البشري، ويجعل قناة الاتصال التي يكشف الله من خلالها عن مراده قائمة ودائمة في حياة المؤمنين.
نتيجة لقوة الحجة وبداهتها في الإجماع، فقد نشأ، في وعي الكثيرين من الفقهاء، مماثلة بين الإجماع والتواتر لجهة اليقين بمطابقة مؤداهما للواقع أو لمراد الله. يقول الزركشي في البحر المحيط: «إن عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم يعتبر بالإجماع دونه وإلا اعتد به... وهو مبني على أن مستند الإجماع العقل لا السمع، وأن الإجماع يشترط له عدد التواتر، إذ التواتر يفيد العلم، فيجوز أن يكون الحق مع الأقل المخالف، فلا ينعقد الإجماع دونه، لأنه ليس بقاطع». وهذا القول منطلق من الخلط بين الإجماع والتواتر لجهة تشكل كل منهما ومفهومهما وصفتهما المعرفية.
فلو راجعنا طبيعة انعقاد كل من الإجماع والتواتر، نجد أن الإجماع الذي هو عبارة عن اجتماع الصحابة (أو العلماء أو اهل الحل والعقد) على أمر من الأمور، لا يحمل دلالة إلزام ذاتية، لإن قوته وإلزامه نابعان من سلطة خارجة عن طبيعة الإجماع نفسه التي هي سلطة الدليل النقلي عن النبي بأن «أمتي لا تجتمع على ضلالة (أو خطأ)». ما يعني أن الإجماع ليس دليلاً عقلياً مستقلاً يحصل اليقين أو القطع بمجرد حصوله، بل هو حجة شرعية قائمة على الدليل النقلي، الذي هو بدوره ظني. فالذي يعطي الإجماع قوة الإلزام هو الدليل الشرعي، الذي يُنَزِّل الُمجمع عليه منزلة الدليل ويوجب اتباعه، فتكون سلطة أو قوة إلزامه آتية من الحجة الشرعية التي لا تولد العلم اليقيني بل تفرض الإذعان والاتباع. لذلك لم يعتبر الإجماع دليلاً عقلياً كي يكون مولداً لليقين، بل عُدَّ دليلاً مستقلاً عن العقل ومنفصلاً عنه وأحد الأدلة الأربعة التي اعتمدها المسملون: القرآن والسنة والعقل والإجماع. يقول الشافعي: «وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس (العقل)». ويقول الجصاص في كتاب الفصول في الأصول: «فإنا لم نثبت حجة الإجماع من جهة العقل، وقد قدمنا أنه لم يكن يمتنع في العقل قبل مجيء السمع جواز إجماع الأمة على خطأ إلا أن السمع منع منه».
هذا يدل على أن الإجماع هو إجراء يتعلق بقرار جماعي تقوم به جماعة حول أمر من الأمور بما فيه الأمور العلمية. فلا يحمل بذاته قوة الكشف عن الواقع، بل إن معناه أنه تكليف ديني بوجوب اتباع ما أجمعت عليه الجماعة المسلمة. وإذا كان أساس حجة الإجماع هو ما جاء من السنة أو الكتاب، فإنه لا يعود حجة قائمة بذاتها، أي حجة مستقلة حاملة لوضوحها وقوة إلزامها الخاصة، بل هي مستندة إلى أساس آخر، لا بد من الرجوع إليه. لهذا يقول الطباطبائي صاحب تفسير الميزان: «الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء أكان في ذلك محصله ومنقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم ان الإجماع المحصل مفيد للقطع...فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلاً قول النبي لا تجتمع أمتي على خطأ أو ضلال وعند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه».
في المقابل، فإن التواتر يحمل قوة ذاتية فيه تدفع إلى تقليص احتمال الخلاف بمؤداه إلى درجة ضئيلة جداً يؤدي إلى توليد ما يشبه اليقين في ثبوته. ففي معجم لغة الفقهاء: «التواتر هو التتابع على فترات. والمتواتر هو أن ينقل الخبر جماعة يمنع اتفاقهم على الكذب.. والخبر المتواتر يوجب العلم». وعن الشوكاني: «المعتبر في التواتر هو أن يروي الحديث المتواتر جمع عن جمع، يستحيل تواطؤ كل جمع على الكذب، لا أنه يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته». وعن الشافعي في الرسالة: «فقلت له لا يكون تواتر الأخبار عن أربعة في بلد...قال: نعم لأنهم إذا كانوا في بلد واحد أمكن فيهم التواطوء على الخبر ولا يمكن فيهم إذا كانوا في بلدان مختلفة». ويقول الألباني في إرواء الغليل: «ولا يشترط في الحديث المتواتر سلامة طرقه من الضعف لأن ثبوته إنما هو بمجموعها لا بالفرد منها».
يكون الفرق بين الإجماع والتواتر، هو أن التواتر عبارة عن إخبار جماعة كثيرة يعلم عدم تواطئهم على الكذب، وهذا على خلاف الإجماع الذي يعتبر فيه تواطوء كامل المجموعة على رأي أو موقف معين. هذا يعني أن تَقوُّم التواتر بعدم التواطوء المسبق أو المدبر على شيء ما، يجعل تطابق أقوالهم، مع التأكد من عدم تواطئهم على الكذب، كاشفاً عن صحة الواقعة المروية وتطابقها مع الواقع. في حين أن الإجماع هو توافق إرادات على شيء ما، أي إن الاتفاق المُسبَق للمجمعين هو بمثابة الشرط لتحقق الإجماع، ما يدل على أن إلزامية الإجماع ليست نابعة من ذاته، بل من سلطة إلزام، سياسية أو اجتماعية أو مؤسسية أو دينية أو كلها جميعاً، تلزم الآخرين بمؤدى الإجماع. هذا يعني أن الإجماع لا يحمل قوة الكشف عن الواقع، بل يحمل قوة الإلزام بالرأي المعتمد مع قطع النظر عن قوة كاشفيته أو علميته، أي إن قوة لإجماع في سلطته لا في علميته. من هنا فإن الاستناد إلى الإجماع بصفته دليلاً مستقلاً لا يكفي لإثبات التواتر أو اعتباره من ما صدقه.
التواتر صفة لعملية وآلية إثبات الشيء وتحققه توجب بعد تحقق شروطها حصول اليقين بمؤداها، وهذا بخلاف الإجماع الحاصل الذي لا يوجب حكماً عقلياً بل إلزاماً سياسياً والتزاماً جماعياً داخل دائرة اجتماع خاصة بقضية معينة مع قطع النظر عن درجة ثبوتها الموضوعي أو مستوى علميتها. باختصار: التواتر سبيل علمي والإجماع اعتبار اجتماعي.
القول بعدم علمية الإجماع أو فقدانه لمقدرة الكشف الذاتية عن الواقع، لا يعني أستغناء أي نص ديني مثبت أو تجذر واستمرار مذهب خاص عن الإجماع، إذ إن النص الديني ومنظومة المعتقدات الدينية موضوعان بالأساس للتداول بين الناس، والناس لا تلتزم بهما لجهة الأساس العلمي والمنهجي الذي دُوِّن أو جمع أو استدل عليه، بل لجهة الإلزام الذي تفرضه جهة دينية أو اجتماعية نافذة، التي تحل محل كاريزما النبوة التي كانت أساس الإلزام زمن النبي. هذا يفسر خصوصية إجماع الصحابة الأوائل واعتناء اللاحقين به وإحاطته بالكثير من التقديس، وهو اعتناء لا ينبع من وجود قدرات علمية مميزة لدى الصحابة، أو أن إجماعهم يملك سمة معرفية خاصة، بل لما للصحابة من موقع ديني خاص، يجعل لقولهم صفة الإلزام الشرعي والديني. فالعلاقة بين الإجماع ومؤداه ليست علاقة العلة بالمعلول، بل هي علاقة مجعولة جعلاً اعتبارياً، تُنزِّل العلاقة بين متعلق الإجماع ودرجة التسليم به منزلة الحتم والضرورة على رغم أنها، بحسب الواقع والعادة، ليست كذلك.
من هنا فإن تحميل الإجماع قوة التواتر، هو خلط بين نشاطين، لا يختلفان في طبيعتهما وسبل تشكلهما فحسب، بل في وظيفة كل منهما. فالتواتر بنظر المعتقد به يكشف عن الواقع وتقتصر قوة كشفه على الفرد، فتكون حجة التواتر بذلك حجة شخصية، في حين أن الإجماع يولد قوة إلزام عامة ولا شخصية، لا يستطيع التواتر توفيرها لانحصاره في دائرة الفرد. لذلك يمكن للتواتر أن يتعدد بتعدد الأفراد الباحثين حول موضوع واحد، ويمكن أن يتحصل لشخص ولا يتحصل لشخص آخر، في حين لا يمكن إلا أن يكون هنالك إجماع واحد لا يملك الفرد المنتمي إلى مجتمع المُجمعين إلا الإلتزام به والعمل بمدلوله.
هذا يجعلنا نعتبر التواتر طريقاً تجريبياً للكشف عن الواقع ومعرفته، في حين أن الإجماع طريق مستند إلى سلطة مشروعة دينياً لإدارة الواقع والتحكم به.
وجيه قانصوه
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد