الانترنيت تحيي عظام الثقافة وهي رميم

07-06-2006

الانترنيت تحيي عظام الثقافة وهي رميم

الجمل : لم يجد القائمون على موقع «جدار» الثقافي أي حرج في نشر تنبيه على شريط متحرك يقول: «جدار ليس مرمى لنفايات الكتابة، ننصح الكتاب السوريين الذين يكتبون النفايات، أن يتوجهوا الى صحيفة الأسبوع الأدبي أو ملحق الثورة الثقافي». رغم طرافة توخاها كاتب التنبيه، إلا أن الفجاجة كانت غالبة وصادمة في التعبير عن موقف موقع «جدار» من الصحافة الثقافية الرسمية، التي وصفها بأنها لا تزيد عن مرمى لنفايات الكتابة، وكذلك في رسم هوية «جدار» كموقع مستقل في مواجهة الثقافة الرسمية المسيطرة.

جريدة «الأسبوع الأدبي» تصدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وملحق الثورة الأسبوعي يصدر عن جريدة «الثورة» الرسمية. ولطالما كان هذان المنبران بالإضافة الى كم غير قليل من المجلات الثقافية الصادرة عن جهات رسمية، حكراً على دوائر ثقافية منغلقة على ذاتها يتعارف عليها بأنها ثقافة السلطة. وقد وفر ظهور الانترنت حضوراً للكتاب السوريين وبالأخص الأجيال الشابة التي نشأت خارج المنابر الإعلامية خلال العقود الأربعة الماضية، حينما كانت الصحافة المستقلة منكفئة، والتي بعودتها عام 2000 لم ترجع معها الصحافة الثقافية لعدم جدواها الاقتصادية، وبالتالي عدم اقتناع المعلنين بدعمها. وهو حال الصحافة الثقافية في العالم العربي عموماً. ولهذا السبب لم يتمكن الكثير من المجلات الثقافية من البقاء على قيد الحياة، وما بقي منها فهو إما يحتضر، أو يعيش محكوماً بالقلق، ومهددا بالتوقف؟
ليس من التزيد القول إن الانترنت مثَّل الحل النموذجي لإحياء صحافة ثقافية عربية تكشف عن الحراك الحقيقي، متحررة من السلطات. لكن في خضم كثافة المعلومات، بدت المواقع الثقافية، أشبه بجزر متباعدة تُعرّف بنتاج أفراد معينين، ويقصدها قراء بعينهم. ولم تفلح هذه المواقع في خلق واقع ثقافي، إذ أن نخبة كبيرة من الأدباء، وبالأخص جيل الكبار، لم يعترفوا بعد بالواقع الرقمي المستجد، وظلوا خارج إطاره التفاعلي. وكان تواجدهم على الشبكة مجرد نسخ لأخبارهم ونتاجهم المتوافر على الورق. وغدا من الاعتيادي احتلال أديب شاب وربما غير موهوب مساحة كبيرة في الفضاء الالكتروني عبر مدونته الشخصية، أو مشاركته في المنتديات، في حين يغيب عن الشبكة اسم من وزن حنا مينة أو نجيب محفوظ وعلي الجندي، لتكون معايير التواجد على المنابر الرقمية مختلفة عن معايير التواجد على المنابر الورقية التي لها مواقع الكترونية، والتي بدورها تستبعد مواهب إبداعية مميزة بحجة أنها غير معروفة. لذا كان لا بد من صحافة الكترونية تعتمد معايير النشر الورقي وتستفيد من مميزات النشر الرقمي، لصالح الكشف عن المستبعد والمهمل والممنوع من النشر. فظهرت مواقع عربية أقرب للمجلات المتخصصة، وفتحت باب التفاعل، مثل «موقع القصة العربية» و«جهات الشعر» و«كيكا» و«أوكسجين»، لتستقطب تلك المواقع كتاباً من الشباب لا يجمعهم تيار ثقافي، بقدر ما يجمعهم الشعور بالظلم والحاجة لخلق واقع يجدون فيه ذواتهم. وهذا ما تنبه له موقع «جدار». يقول الشاعر خلف الخلف أحد مؤسسي الموقع: هناك صرامة باختيار النص الإبداعي والمقالات المنشورة من حيث الجدة والرصانة والمستوى، كذلك الزوايا يجب ألا تخلو من طرافة، دونما إسفاف. إلا أن الأولوية للمهمش والمهمل والمغيب، مع تحرر من سطوة الأسماء المكرسة ورقياً.
تلقائياً، اتسمت تلك التجمعات بسمات الحلقات المغلقة على مجموعات تشترك بما تحمله من هموم، لكنها بدت معنية بالشأن السياسي أكثر من الشأن الثقافي. فغابت القضايا والمعارك الأدبية، لصالح السياسي المستأثر باهتمام القارئ. ولم تعد القصة والقصيدة قادرة على إثارة جدل أو تفجير قضية، كقصائد محمود درويش أو نزار قباني في حقبة ماضية. وتحول النتاج الأدبي رغم أهميته الى نشاط ترفيهي على هامش القضايا السياسية. وأصبح المثقفون منشغلين بحقوق الإنسان، والعلاقات السياسية مع الدول الأخرى مثل العلاقات السورية ـ اللبنانية، والانتخابات الديمقراطية وتمكين المرأة، أكثر من الانشغال بقصيدة النثر أو القصة القصيرة جداً، وما يطرأ على التكنيك الروائي العربي من متغيرات. هذه المواضيع وإن شغلت حيزاً في الفضاء الرقمي، إلا أنه تواجد بارد، أقرب الى السكون منه إلى الحركة الساخنة. كما أن الاهتمام بها اقتصر على حلقات نخبوية تتفاعل فيما بينها، بروحية الأقليات الحريصة على بقائها، دون أن يعني ذلك اجتماعهم ضمن تيار أدبي معين، إذ ما تزال تلك المواقع مرتهنة لردة الفعل على التهميش وتسلط السلطة على الثقافة العربية.
بالعودة الى ما طرحه موقع «جدار» بتقديم نفسه على أنه ليس مرمى للنفايات الكتابية، فمن ضمن الاحتجاجات على هذا التنبيه، كان من كتاب سعوديين، رفضوا حصر التنبيه بالسوريين، فليس السوريون فقط يكتبون النفايات، وهناك واقع عربي يستحق الاحتجاج عليه. وبالتالي إذا كانت الصحافة الالكترونية أحد أشكال الاحتجاج، ألا يجدر هنا السؤال ماذا قدمت تلك المواقع، ومن يقّدر إذا كان «جدار» أو سواه لا يقدم النفايات أيضاً؟ وعلى سبيل المثال، ألا يتم استبعاد مثقفين من المنابر الرسمية وفق ذات المعايير بشكل معكوس، أي من ليس مثلنا يدرج في خانة النفايات المفروض إسقاطها من النشر؟! لعل هذا ما سيجعل الثقافة الافتراضية الوجه الثاني لعملة الثقافة الرسمية، أو بمعنى أدق «بوزتيف» و«نيغاتيف» متبادل من الجهتين، يشكلان واقعاً واحداً محكوماً بالإلغاء حتى تستنفد احتقانات رد الفعل، ويصار إلى خلق واقع جديد متحرر من جملة أمراض ابتليت بها الثقافة العربية.
إلا أنه وكي نصل الى تلك المرحلة التي لا تتحمل وزرها النخبة المنتجة والمحركة للثقافة فقط، لا بد من تراكم تجارب تعتبر ضرورية لإعادة صياغة مشهد ثقافي، سليم وطليق، وفق معايير إبداعية بحتة.
ونتوقف عند موقعي «جدار» و«الف تودى» كنموذجين يمثلان تجربة ثقافية سورية جديدة، يتميزان بأنهما ظهرا في ساحة إعلامية متصحرة، ورقياً والكترونياً. وبينما انطلق موقع جدار: «كخطوة جاءت بعد أعوام من التيه في مجاهيل الشبكة العنكبوتية والمعاناة المتواترة بسبب الاعتماد سابقاً على أساليب غير ناضجة في التواصل ما بين المبدعين والكتاب السوريين، وكخطوة تحاول أن تلم شمل المثقفين والكتاب السوريين، وتقديمهم للقارئ السوري والعربي، بما يخدم روح الإبداع السورية المغيبة». فإن موقع «الف تودى» انطلق من إعادة إحياء مشروع مجلة «ألف» التي صدرت في التسعينات ثم توقفت. وإذ يعود الموقع اليوم ليعيد طرح ما كانت تنوي مجلة «ألف» طرحه فإنه يأتي عام 2006 محملاً بقضايا عام 1990. لكن أموراً كثيرة تغيرت وجمهور الإعلام الورقي ليس جمهور الإعلام الالكتروني. فالتابوهات الثلاثة المحرمة على الورق (الدين، الجنس، السياسة)، أصبحت مبذولة في الفضاء الرقمي، حيث كل شيء مباح، دون أن يعني ذلك الانفكاك التام من الرقابة. فلم يعد المطلوب ملامسة المحرمات، أو تحطيم التابو، فكل شيء تحطم، وإنما الرهان الآن على استخلاص تيارات جديدة بناءة من هذه الفوضى العارمة الخارجة من فضاء مفتوح على الجحيم ومزيد من التشتت والتفتت، إن لم نحسن فهمه واستغلاله، مع القدرة على استقطاب القراء، والتمكن من البقاء على قيد الحياة، من خلال معالجات تحمل إجابات مقنعة.
عموماً، لغاية الآن، لم تظهر مواقع ثقافية قادرة على مجاراة المتغيرات. وما زال المثقفون العرب يتخبطون بين سلطة الأجيال الثقافية السالفة والسلطات السياسية المهيمنة على الثقافة، فيما المثقفون منقسمون إلى فريق يعارض الهيمنة وفريق يلمعها ويعطيها الشرعية. فريق يسيطر على الانترنت، وفريق يسيطر على الورق، إلا أن الفريقين يبتعدان المسافة ذاتها عن الفعل الثقافي الحر. في حين ما برح الفعل الحالي غير مؤثر كما يجب، هذا إن وجد، كما هو في موقع «أوكسجين» الذي يمثل مجموعة أدبية طموحة، تطرح نصاً إبداعيا له خصوصية أدبية صادمة، لكنه يفقد تأثيره بإلحاحه على الأفكار الإباحية الذكورية الفجة أحياناً رغم اللغة الأدبية المتجددة. إذ تتجاوز حرية هذا الموقع في طرح موضوعة الجنس والعوالم النفسية البشرية الترويع لتصل أحياناً الى درجة إثارة الملل وحتى الاشمئزاز، جراء التركيز على هذا الموضوع بوسيلة رقمية مستهلكة، بحيث يفقد الممنوع وهجه وجاذبيته. من هنا نفهم قول الشاعر علي سفر من أسرة تحرير «جدار»: «إن حالة الانفلاش في الانترنت التي أطاحت المحرمات تعتبر ظاهرة صحية، لأنه بعد فترة لا بد أن تحدث عملية اصطفاء للموضوعات المطلوب طرحها». إلا أن حالة الانفلاش هذه أسهمت في القضاء مبكراً على موقع «مرآة سورية» الذي كان مختبراً مثالياً لحرية التعبير، دون أية محاذير رقابية، حيث لم يكن مستساغاً للكثيرين المباشرة في مناقشة الموضوعات ذات البعد الطائفي، إلا أن الأيهم الصالح، المسؤول عن الموقع كان يبرر تلك الحرية المنفلتة بأنها تهدف الى الإفساح في المجال كي يظهر وجه سورية الحقيقي. فـ«المرآة» هي انعكاس للواقع بكل ما فيه. ومع أن «مرآة سورية» جمع أطيافاً واسعة من القراء، إلا أنه لم يتمادَ كغيره في تحطيم التابوهات، وسر جاذبيته كانت في فتح باب النشر أمام الجميع، بحيث اختلط الحابل بالنابل، تماماً كما هو الواقع دون تشذيب، مما يغري بالمتابعة، لمعرفة كواليس الحياة الثقافية، ويطرح مناقشة معيار الحرية في ظل غياب الرقابة. وهو ما طرح نفسه أيضاً وبقوة لدى فتح موقع «ألف تودى» لملف الايروتيكة، والذي لم يأت بجديد سوى نشر صور ولوحات عري، من غير الوارد نشرها في الصحافة الورقية. فيما ملف «الايروتيكة» ذاته كان قد طرح بالصحافة الورقية في التسعينيات، في مجلة «الناقد» التي كانت تصدر في لندن بين عامي 1990 ـ 1997، وجوبهت بالمنع في العديد من الدول العربية. لكن إعادة فتح هذا الموضوع مجدداً على الانترنت مع صور فجة عبر موقع ثقافي رصين، بينما تشهد الثقافة رد فعل أخلاقي على حالة التسيب الإعلامي، بدا كأنه إغواء مكشوف للقارئ. وإذا كان الموقع قد نجح في زيادة عدد قرائه، والحصول على إعلانات تجارية تمكنه من الاستمرار، لكن هذا لن يسهم في خلق حالة ثقافية، تقف في مواجهة الفساد الثقافي، كما يزعم الموقع. إذاً ثمة حاجة ماسة لإعادة تعريف الفساد الثقافي، أليس من بعض علاماته الانصياع لرغبات القارئ والمعلن؟ من هنا فإن حالة الانفلات وضرب التابوهات، وغياب المعايير، تضفي بشكل غير مباشر مسحة أخلاقية طهرانية على الثقافة الرسمية. ولن تتمكن المواقع الثقافية الالكترونية التي ولدت كرد فعل على التهميش، سوى أن تكرس، دون أن تدري، الثقافة الرسمية كثقافة رصينة وجادة.

 

 سعاد جروس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...