البعثة السوريّة في نيويورك: حصار عربي وتطبيع غربي
منذ اندلاع الأزمة السورية، خاضت بعثتها في نيويورك حربها الدبلوماسية بتصميم وصلابة أذهلا الكثيرين. ومن البداية، كانت البعثة في نيويورك تواجه ضغوطاً نفسية ومادية وسياسية وحتى أمنية فاقت ما شهدته أي بعثة مرّت بتجربة «الربيع العربي». ووجهت البعثة السورية بصدّ عربي منظم كان من الصعب تفسيره، وخصوصاً أن بعثات غربية لم تمارسه بالأسلوب نفسه. يمر مندوب بريطانيا، مارك لايال غرانت، بالقرب من المندوب السوري بشار الجعفري فيبادله التحية ويصافحه ويتحدث إليه مبتسماً انطلاقاً من أنهما موظفان يعملان لدى حكومتيهما. ففي الدبلوماسية لا خلط بين القضايا السياسية والشخصية. الشيء نفسه تفعله المندوبة الأميركية سوزان رايس. أما المندوبون العرب، باستثناء العراق والسعودية والإمارات والسودان واليمن والجزائر، فمارسوا العداء الشخصي السافر غير المبرر مع رئيس البعثة بشار الجعفري، بالرغم من الدور الرئيسي للبعثة. فهي ركن أساسي من أركان الدبلوماسية العربية في نيويورك، ودورها لا يقتصر على دعم قضايا المجموعة العربية ورفع همومها عالياً، بل إنه فاعل في كتل كبرى تشمل عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي وأفريقيا وأميركا اللاتينية ومجموعة السبعة والسبعين، وتربطها بالصين وروسيا علاقات وثيقة. هذه البعثة واصلت عملها طيلة الفترة الماضية بنشاط متزايد رغم الضغوط. ورغم الضائقة التي تمر بها سوريا، بقي الجعفري المندوب العربي الوحيد المتابع والمدافع عن القضية الفلسطينية حتى في جلسات مخصصة لسوريا.
وبما أن الأمم المتحدة ساحة للمعارك السياسية التي تخاض بالخطب والوثائق، فقد رفعت البعثة السورية إلى الأمانة العامة وإلى مجلس الأمن الدولي أكثر من 170 مذكرة ووثيقة خلال فترة الأزمة، بمعدل عشر مذكرات شهرياً، وهو أقصى ما يمكن أن تفعله أي بعثة. فغالبية البعثات لا ترسل أكثر من مذكرة أو اثنتين في السنة. وفي ذلك دليل على أن آلية التواصل بينها وبين العاصمة لم تبق على حالها وحسب، بل عززت بزخم إضافي غير منتظر.
الجانب المهم الآخر، أن مندوب سوريا الدائم لم يفوت فرصة إلا خاطب فيها الجميع من وزراء الخارجية والمندوبين والمراسلين بلغتهم وثقافاتهم داخل مجلس الأمن وفي الجمعية العامة وفي المؤتمرات والاجتماعات الأخرى. تحدث بالعربية والإنكليزية والفرنسية مستشهداً بمفكرين وأدباء من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وحوّل الجلسات المفتوحة إلى منبر له وليس عليه، بعدما كانت الغاية من المؤتمرات والجلسات تجييش الرأي العام العالمي ضد سوريا، وسط عجز عن استصدار قرار تحت الفصل السابع من الميثاق داخل مجلس الأمن الدولي، بفضل الدعم الذي تلقته سوريا من كل من روسيا والصين.
كذلك نجحت البعثة في إبقاء أبواب الأمين العام ومساعديه وأعضاء مجلس الأمن الدولي وباقي البعثات مفتوحة أمامها. فمنذ تولي جفري فلتمان وكيل الأمين العام للشؤون السياسية، وهو المعروف بعدائه التاريخي للحكم في سوريا، ومحاربته الدؤوبة له، عقد سلسلة اجتماعات مع بشار الجعفري. ولم يسدّ الأمين العام بان كي مون الباب في وجه الجعفري، بالرغم من أن الأخير غالباً ما انتقده في كلماته ورسائله واتهمه بممارسة ازدواجية المعايير.
وكسب الجعفري الجولة تلو الأخرى ضد الخصوم، إلى درجة أنهم سعوا في غير مناسبة إلى منع صوته وصورته من الظهور على الشاشات. حدث ذلك ثلاث مرات على الأقل في الجمعية العامة، التي يرأسها القطري ناصر عبد العزيز النصر. وسيتكرر الأمر ثانية يوم الخميس المقبل، عندما يجتمع وزراء خارجية وكبار الشخصيات في نيويورك لمناقشة الوضع الإنساني في سوريا. فرنسا التي دعت إلى الاجتماع وتترأس مجلس الأمن الدولي حالياً، شاءت أن تكون الجلسة مغلقة. فهي تقبل التضحية بإيصال رسالتها من قاعة المجلس طالما أن سوريا تُحرم فرصة نقل كلمتها على الهواء مباشرة، كما برهنت التجارب السابقة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعد الفشل في استمالة مندوب سوريا للانشقاق، تعرض الجعفري للتهديد الشخصي له ولعائلته وللتعدي على منزله وعليه شخصياً وهو في طريقه إلى عمله. هوجم من قبل جماعات سورية وعربية معارضة لم تخف صورتها ولا صوتها سواء أمام منزله أو عند بوابة الأمم المتحدة. وتلقى مئات المكالمات من شخصيات هددته، ما اضطره إلى تغيير رقم هاتفه المحمول، وطلب الحماية من شرطة السلطات المضيفة للأمم المتحدة. ولقد حصل بالفعل على حماية دائمة للبعثة وللمنزل بعد نشر قناة «العربية» أسماء شخصيات سورية مستهدفة بينها بشار الجعفري نفسه. وجرى اختراق البريد الإلكتروني لابنته شهرداز، ونشر موقع «العربية» صورها الشخصية ولفقت روايات عنها في معرض الإساءة إلى سمعتها.
وفي اطار الضغوط الاضافية التي تعرضت لها البعثة، أوقفت المصارف الأميركية تعاملاتها مع موظفي البعثة السورية، وأقفلت حسابات أفرادها المصرفية. أمر لا يترك أثراً سلبياً على أوضاعهم المعيشية وحسب، بل أيضاً على قدرة سوريا على تسديد التزاماتها تجاه الأمم المتحدة. وهنا وظّف الجعفري القضية ضد الولايات المتحدة عبر وثيقة أخرى وجهها إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة التي تعاني في الأساس انحساراً في إيراداتها، جراء الأزمة المالية العالمية السائدة، علماً بأن الدولة التي تفشل أو تتأخر في تسديد التزاماتها تفقد حق التصويت على القرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
نزار عبود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد