الجنس الثالث
يستيقظ بطل كافكا فيجد نفسه حشرة، ويكون عليه أن يتعلم جسده الجديد، وأن يعرف كيف يستعمل الأرجل الكثيرة التي نبتت له. أما كائن سوسن أبو خالد في «يوم الحشرة» فهو حشرة إنسان. والإنسان في الحشرة أو الحشرة في الإنسان يتصارعان، ونرى أطراف الحشرة وأطراف الإنسان في تداخل ونزاع. إنها لحظة صعبة، الكائن يكافح فيها نفسه، يسعى الى أن يبرز الإنسان من الحشرة فيه، إنها لحظة التحول الفعلية بخلاف اللحظة الكافكاوية التي ينمسخ فيها الإنسان حشرة. لحظة التحول لدى الكائن المعطى في الأساس حشرة إنساناً وسينقسم الكائن على نفسه وينفصل الى إنسان وحشرة، هل هي لحظة البداية هذه أم أنها النهاية وما سنراه فيما بعد نوع من «فلاش باك» إليها. هل الانفصال هو لحظة التحرر أم أنه بداية اتصال قسري لا ينفع معه الانفصال ولا سبيل معه الى التحرر. هذا سؤال المسرحية المعلق، أما المسرحية فتنقضي في الصراع الذي يستمر بين الكائنين المنفصلين اللذين لا يقدران مع ذلك على أن يفارقا بعضهما، فكان الصلة التي ركبت الواحد منهما الى الآخر، لا تزال تعمل على نحو خفي. وكأن الانفصال المؤلم لم ينجح في أن يفرق بينهما إلا في الشكل. أما في حقيقة الأمر فلا يزالان متراكبين متصلين.
الانفصال يجعل من هيكل الحشرة المنزوع دمية جثة ومن الإنسان المنفصل امرأة. سنقول بعد ذلك إنها الحرب وإن هذا الكائن المركب قد يكون حياً أو ميتا، قد يكون ببساطة امرأة خطف رجلها وكتب عليها أن تحمل مصيره غير المؤكد على ظهرها، ان تحمله في جسدها حياً ميتاً. حاضراً غائباً. وأن تبقى في خدمة ذكراه ومصيره المعلق الى الأبد. هذا هو التفسير البدهي. لكن المسألة ليست فقط في التفسير، تدور حجة الحرب الكبرى في التفريق الحاسم بين الذات والعدو. فليس بين الاثنين سوى نفي ونفي مضاد وليس بينهما بالتأكيد شبهة اتصال أو قرب ناهيك عن التراكب والاندماج. دعك من الشبه الموضوعي فهذا ليس في وعي المتحاربين ولا في تصورهم. يقتتل الناس وقد تخلصوا من بعضهم البعض تماما، ولا يقتتلون إلا ليعدم كل واحد نقيضه ونافيه. لنقل بلغة المسرحية إن كلاً من الطرفين يغدو حشرة وحده، أو لنقل بلغة المسرحية ان كلاً يفقد إنسانيته وحده. ما يبدو أنه من الحرب وليس منها، ما هو من جنسها وعكسه، هو هذه الأطياف التي لا تهدأ ولا تنام وتجول بين المعسكرين المتحاربين ولا تعرف لها صديقا أو عدوا، أطياف بل مخلوقات ليست من هنا وهناك، بل قد تكون من هنا وهناك في آن معا. تخترق الحدود الشائكة الدموية وتلتقي على الحدود ووراءها، مخلوقات وكائنات متحولة متحركة، تكون حية وميتة عدوة أو صديقة، موصومة وبريئة، وهي غالبا بين هذا وذاك معلقة متأرجحة. ليست الحرب دائما بين أعداء، لعل الأعداء الموصوفين الكاملين هم القلة، بل لعل المعسكرين الواضحين هما في الأكثر هامش الحرب، أما الحرب فتقع غالبا خارج المعسكرات، إنها لمقتولون على الهوية لا لشيء إلا بجريرة أسمائهم، المدنيون الذين تحصدهم قذائف لم ينتظروها ولا يعرفون مصادرها، المارة الذين بدون علم وجدوا في مربع القتل وعند الدرجة الملائمة. الأطفال، لغم الأطفال الذين حسبوها لعبة، وهي أيضا المخطوفون الذين لا ينتهي فراقهم ولا يستطيع الملائكة ولا الشياطين ولا الآلهة نفسها تحرير أمهاتهم وعائلاتهم من انتظارهم. هذا هو البحر الواسع للحرب، الوسط العريض، شارع الحرب الحقيقي، لا دخل لهؤلاء رغم ذلك في أي مصالحة وأي تسوية، لا مكان لهم في أي إعلان، لا مصلحة لهم في أي اتفاق، لن يطالهم في الحقيقة أي تعويض، ولن يحسبوا في عداد شهداء أحد، ولن يذكروا بوصفهم أبطالاً ولا بوصفهم سفاحين، ليست لهم صفات من أي نوع ولا ميزات ولا حتى أسماء، هؤلاء الذين يحشرون تحت عنوان واحد، المدنيين أو الضحايا أو الأبرياء أو المعاقين أو المخطوفين وكلها عناوين تعني أنهم أخذوا بالجملة وبالكم. والعدد، وحين يقف أبطال «الحوار» فإن أحدا لا يحاور باسمهم، وحين يحتفلون بشهدائهم فإنهم خارج كل احتفال، سيبقون حيث سقطوا على الأرض التي هووا إليها بدون استعداد ولا توقع لا أريد أن أحمل عرض سوسن أبو خالد تفسيرا محددا بالطبع. لكنني لست أيضا بصدد نقد مسرحي، أريد أن أتكلم فقط عن مخلوقات الحرب الطيفية الطائرة هذه، إنها الوحيدة المتحولة ولا أقول الممسوخة المتحولة لا لأنها سقطت بين الفريقين المتنازعين، بين القلتين المتصارعتين فحسب بل لأنها لا تملك من هنا والى الأبد أي مكان، ستبقى قطعانا هائمة متروكة وستبحث عن منفذ فلا تجد، لن تجد بطاقة للعودة من أي نوع. لن تكون حاضرة في أي اتفاق وأي مصالحة. لن تجد من يقدمها للحاضر، لن يشيلها أحد من على أرض موتها ومقابرها الجماعية وكهوف عزلتها المظلمة ولن يعرفها أحد على أي مستقبل، إنها أرواح هائمة تطلب سببا وتطلب مقبرة وتطلب عنوانا أكثر من أن تكون الخطأ الذي لا يتحمله أحد.
الحشرة الإنسان ليس هذا مسخا، إنه تحوّل، في البلد الذي سقط فيه آلاف وعشرات آلاف بدون قصد ولا إرادة. ثمة الأطياف المحومة بالاستمرار، الأطياف التي لا تحيا ولا تموت ولا تعادي ولا تصادق ولا تقف هنا أو هناك، الأطياف الحية الميتة التي لا تخرج من دنيانا، إنها موجودة ولا بد أن ننتبه الى أن المدينة تعج بها. لا بد أن ننتبه الى هذا الجنس المتحول الثالث الذي يقاسمنا حياتنا، الذي شئنا أم أبينا يخرج حياتنا كلها من الدائرة التي نخالها فيها، يجرها الى هذه التخوم المعلقة الفاصلة، يضعنا على الحدود القاتلة والدموية. الجنس المتحول الثالث موحد دماء أم الشهداء الموصوفون المسمون هم هدف حياتنا ولا مكان للخطأ الذي اقترفناه، الخطأ الهائل الذي أنتج كل هذه المخلوقات الطائرة. لا مكان لشارع الموتى العريض الذي هو أوتوستراد الحرب الرئيسي ولا ذكرى إلا للقلة التي لم تعرف تماما كيف تحمي نفسها. الجنس المتحول الثالث لا يغادر ما دام لا يعرف الى أين، لا مقابر له ولا منصات ولا آفاقا. سيكون معنا الى أن ننتبه ذات يوم الى أن حياتنا لن تستقيم إذا لم نكلمه، إذا لم نفهم أن حياتنا متصلة به وأنه يقبع على جلدنا بدون أن ندري. وأننا لا زلنا نعيش في فضائه وجوه، وأن الخطأ الكبير الذي ولده يطبع حياتنا، إذا لم ندرك أن حياتنا نفسها ستبقى مخطوفة، معاقة، بتراء في وجوده وأننا بدون أن نعي لا نفعل سوى أن نصارعه إذ بدون ذلك لا نستطيع أن نملك حرية ولا جسدا.
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد