الحلقة الرابعة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" لقاء الـشهابي - باراك في بلير هاوس، .
بعد ذلك اقترح وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر في كانون الأول/ ديسمبر 1994 أن يقوم بترتيب اجتماع بين ضباط عسكريين سوريين وإسرائيليين، على أن يتم هذا اللقاء في واشنطن، و يتلاءم جيداً مع المحادثات غير الرسمية التي تجري بين السفيرين السوري و الإسرائيلي، و قال لنا إن الجيش الإسرائيلي على علاقة جيدة برابين، و سيرى الجمهور الإسرائيلي أن إجراء مقابلة مع كبار ضباطه هو اختراق حقيقي. و اقترح البدء باجتماع تمهيدي بين وليد المعلم و أحد كبار الضباط الإسرائيليين. و لمّا كان الرئيس قد أراد أن يخطو الخطوة الإضافية المطلوبة، فقد وافق، وأعطى تكنيفاً بإجراء اجتماع بين المعلم ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيهود باراك.
ولم يكن اختيار باراك مصادفة، فقد كان أعلى ضابط إسرائيلي، كما كان له وزن ثقيل في السياسة الإسرائيلية، و كان مصمّماً على أن يحل محل رابين في منصب رئيس الوزراء، و مع أن هذا كان أول لقاء بين باراك و مسؤول سوري، فقد كنا نعرف الكثير عن الرجل الذي كان مقدراً لنا أن نواجهه في ما بعد في شبر دستاون في ولاية غرب فرجينيا في كانون الثاني عام 2000 . لقد التحق باراك بالجيش الإسرائيلي عام 1959 ، بعد سنوات قليلة من تخرج الرئيس الأسد في كلية حمص الحربية، و خدم ضابطاً مدة خمسة و ثلاثين عاماً، و كان اسمه مرتبطة ارتباطاً دائماً بالغارة الإسرائيلية على لبنان في نيسان 1973، التي أطلق الإسرائيليون عليها اسم " عملية ربيع الشباب " , و فيها فوجئ عدد من القادة الفلسطينيين في بيوتهم، و قُتلوا بدم بارد بناء على أوامر مباشرة منه، و قد وصل باراك إلى الساحل اللبناني في قارب مطاطي، و هو متنكّر و يظهر كامرأة سمراء، ثم توجه إلى منطقة فردان الراقية حيث أطلق الرصاص على محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، و كمال عدوان، و كمال ناصر، و أرداهم قتلى. كان من الطبيعي تماماً أن نكون شديدي الحذر مع " محاورنا " الجديد صاحب ذلك السجل الدموي.
بعد الاجتماع، الذي تم في بلير هاوس، المقابل للبيت الأبيض على زاوية حديقة لافاييت، تكلّم باراك عن إيجاد طرق خلاقة لحل الصراع السوري - الإسرائيلي، فقال:
"إن إسرائيل تفهم أهمية سورية و ضرورة الحفاظ على كرامة سورية في اي اتفاق" . و لا حاجة إلى القول إن الاجتماع لم يحقق أي اختراق، لكنه كان مثيراً للأمريكيين، الذين جاؤونا باقتراح جديد آخر. قال كريستوفر إن الخطوة التالية في إجراءات بناء الثقة هي أن يقوم ضابط من كبار الضباط السوريين بمقابلة السفير الإسرائيلي رابينوفتش. هنا خطا الأسد خطوة أخرى، قائلاً إنه سيرسل رئيس الأركان العماد حكمت الشهابي ليقابل الإسرائيليين.
كان العماد الشهابي ضابطاً تقلّد أرفع الأوسمة وخدم في الجيش السوري أثناء الحربين في عام 1967 و 1973 و هو أيضاً أحد المقربين الذين يثق الأسد بهم، و كان يتابع عن كثب كل التفاصيل العسكرية و اللوجستية لعملية السلام منذُ عام 1991. و قد شارك مشاركة فعالة في إبرام اتفاقية فصل القوات مع إسرائيل بعد حرب تشرين الأول 1973 . و كان عضواً بارزاً في القيادة القطرية لحزب البعث، كما كان أعلى مسؤول سوري يشارك في عملية السلام. و كان إرساله إلى الولايات المتحدة يعدّ بالفعل اختراقاً فاجأنا جميعاً، و لا شك في أنه أغضب كلّ المتفائلين الذين لم يروا أي سبب للاستمرار في التعامل مع الإسرائيليين. ولكن إن دلّ هذا على أي شيء، فهو قد أظهر التزام الرئيس الأسد الصادق بإمكانية تجاوز عقبات السلام في الشرق الأوسط.
و نظراً إلى أهمية اللقاء، فقد طلب إليّ، أن أرافق رئيس الأركان السوري إلى الولايات المتحدة مع مدير مكتبه، باسم شيخ قروش، و مدير إدارة الاستطلاع، اللواء إبراهيم العمر. كان أول لقاء لنا في كانون الأول، حين اجتمعنا بالإسرائيليين
مرة أخرىفي بلير هاوس، و هو بيت عمره 170 عاماً تعاقب عليه ضيوف البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية، و أكثر ما أذكره عن الاجتماع هو أنه كشف الجوهر الحقيقي للعماد الشهابي، ففي سورية، قلما كنا نراه في مناسبات عامة، و لم نكن نعرف شيئاً عن حياته الخاصة، كان واحداً من المسؤولين الذين يصعب الوصون إليهم، و يكاد لا يظهر على التلفزيون إطلاقاً، و لا يجري أية مقابلات صحفية. لكنه برز في الولايات المتحدة مفاوضاً بارعاً حازماً، و مفكّراً ذا خبرة عالية، إضافة إلى كونه ضابطاً عسكرياً وقوراً أيضاً.
و حين تباحثنا في بلير هاوس، كان العماد الشهابي يرتدي بدلة مدنية بدلاً من الزي العسكري. كان يرسل رسالة أنه أتى لمقابلة الإسرائيليين " مسالماً " ، من دون نجوم على كتفيه او مسدس مربوط بحزامه، كما فعل عرفات حين وقع اتفاقيات أوسلو في حديقة البيت الأبيض عام 1993.-1-
**لـقـاء الـشـهـابـي - باراك في بلير هاوس، الجزء الثاني .
كانت الأوسمة التي يمكنه أن يضعها على صدره، و التي أسبغها عليه الرئيس الأسد، مكتسبة بجدارة في الحروب المتعددة التي خاضها منذ عام 1967. كان العماد شهابي يحسب خطواته بدقة شديدة، و يدخل غرفة الاجتماعات ببطء و ينظر إلى عينيّ إيهود باراك من دون أن يطرف له جفن. و كان هناك على وجهه تعبير صارم يدلّ على اليقظة و الحزم و الجدّية البالغة. كان أمامنا عدوان لدودان يشهران السلاح أحدهما ضد الآخير منذ سنين، و يلتقيان أخيراً وجهاً لوجه على بعد دقيقتين سيراً على الأقدام من المكتب البيضاوي. بدأ الشهابي بإعلان موقفه برفض مصافحة إيهود باراك، حاول باراك محاولة جديدة لإرضاء العماد السوري، قائلاً " نحن نعتقد أن الرئيس حافظ الأسد هو أهم قائد في الشرق الأوسط. و يمكن أن تؤدي كل من سوريا و إسرائيل دوراً مهماً فيه. سورية هي أقوى جيران إسرائيل، ليس من الناحية العسكرية فحسب، بل بسبب الدور الذي تمارسه و شعلة القومية العربية التي تحملها أيضاً و نحن نفهم أن السلام مع سورية سيكون مهماً جداً لنا ".
مرة أخرى امتنع الشهابي حتى عن الابتسام .
حاول إيهود باراك مرة ثالثة، بالقول : "هناك أهمية بالغة في أن ندخل في أدق التفاصيل معكم. لقد كانت أقسى الضربات تأتينا من الجبهة السورية 1973، حقاً إن ضباطكم شجعان ".
قاطع وارن كريستوفر ضيفه الإسرائيلي في محاولة لحمايته من المزيد من الإحراج، فأخبرنا كيف أنه كان ينوي أن يقضي عطلة عيد الميلاد عائلته في كاليفورنيا، لكن خططه تغيّرت حين وصل الضابطان الكبيران السوري و الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة. و نصحنا أن نكون " شجعاناً و مبدعين"، مشيراً إلى أن " بإمكان الأشخاص المجتمعين حول هذه الطاولة صنع السلام الحقيقي. قال كريستوفر: «لديكم الإرادة و الشجاعة للقيام بذلك، و نحن في الولايات المتحدة مستعدون لفعل كل ما هو مطلوب لتحقيق السلام على المسار الإسرائيلي – السوري" .
ثم التفت إلى الشهابي، و قال: " إننا في غاية السرور لرؤيتك معنا، و هذه إشارة واضحة جداً إلى مدى جدّية القيادة السورية في السعي إلى السلام حقاً ". و حين حان دور الشهابي ليتحدث، بدأ الشرح ببطء و حذر : " حضوري هنا هو نتيجة قرار سياسي شديد الأهمية اتخذته القيادة السورية، لأن السلام - كما تم الاتفاق في مدريد استراتيجي لنا ".
و أوصى بالانتقال فوراً إلى الترتيبات الأمنية، الأمر الذي طرب لسماعه كل من وارن كريستوفر و إيهود باراك، أكد الشهابي ما سبق الاتفاق عليه في آب/ أغسطس 1993و هو أن " الأمن حاجة مشروعة للطرفين، و لا يمكن لدولة أن تتمتع به على حساب الأخرى، فمن الضروري أن يكون متبادلاً و متساوياً . و أضاف أنه لا ينبغي لأية ترتيبات أمنية أن تنتهك حقوق الدولة الأخرى أو سيادتها أو أراضيها " .
من الواضح أن اجتماع الشهابي و باراك لم يدهش صانعي السلام السوريين فحسب، بل كانت له أصداء قوية في البيت الأبيض و أرضى الرئيس كلينتون. و بسبب معرفة كلينتون التامة بمدى التزام الأسد بأي تنازل إسرائيلي في الجوهر، رأى في هذا الاجتماع فاتحة لقناة خاصة عالية المستوى يمكن أن تفضي إلى تحرك حقيقي في المفاوضات، لكن ما لم يعرفه كلينتون هو أن إيهود باراك، رغم مكانته العالية في الجيش الإسرائيلي، كان على جهل تام بوديعة رابين. و قد أتى إلى الولايات المتحدة، و ليست لديه أية فكرة عن الحدّ البعيد الذي وصلت المفاوضات إليه بين الأسد و رابين.2
لـقـاء الـشـهـابـي - باراك في بلير هاوس، الجزء الثالث .
باراك يتكلم لغة خشبية، بدا أنها من عصر مضى، رافضاً، على سبيل المثال، الإقرار باختلاف الموقّعين بين حدود 1967و حدود 1923 ، و هذا دفع العماد الشهابي إلى التعليق غاضباً: " كيف يمكننا أن نتفق عن إجراءات الأمن إن لم نتخذ قراراً بشأن الحدود؟ " .
أرادت سورية تبادلا في الإجراءات الأمنية، مع قيود على أعداد القوات تنطبق على الطرفين بالتساوي. و كان باراك لا يزال قلقاً بشأن غياب التناظر الجغرافي بين الطرفين، فقال مجادلاً إن سورية دولة كبيرة، في حين أن إسرائيل دولة أصغر حجماً و مدنها أقرب إلى الحدود. لذلك لا يمكنه القبول بالمساواة في القيود، لكنه سيوافق على مبدأ التبادل. و أراد باراك أن ينطبق تحديد عدد القوات على المسأحة من صفد إلى دمشق بأكملها. و أراد الشهابي أن ينطبق التحديد على المنطقة بين صفد و القنيطرة فقط.
و لم يُنتج الاجتماع، الذي استمر يومين، أي شيء على الإطلاق. فقد حاول باراك إثارة موضوع محطات الإنذار المبكر، قائلاً إنها ستقلل من احتمال الهجوم من الحدود السورية. و رد الشهابي: " إن انطباعي هو أن ما تسعى إليه هو الحرب و ليس السلام. فمحطة الإنذار المبكر تعني، يا سيد باراك، أنك تستعد للحرب. وأنت رجل عسكري تعرف أن محطات الإنذار المبكر ذات أهمية . حين تخطط لشنّ حرب، لا لإحلال السلام. . و نحن ببساطة لن نستطيع الوصول إلى أي اتفاق إذا كنت تفكر بهذه العقلية ".
و لابد من أن أذكر أنه بعد الاجتماع، دعانا الرئيس كلينتون إلى البيت الأبيض في الساعة الرابعة مساء في يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر، و استقبل كلينتون العماد الشهابي
بمفرده مدة خمس دقائق، و حين أتى دورنا للدخول، فاجأني الرئيس كلينتون تماماً بمخاطبتي مباشرة، و هي المرة الأولى، باسمي الأول: " كيف حالك يا بثينة؟ يسرني أن أراك مرة أخرى ". و أضاف: "في المرة التالية التي تأتين فيها إلى واشنطن، أودّ أن تقابلي زوجتي و ابنتي. لقد أطلعتهما على كتابك". كان قوله ذلك لفتة لطيفة منه، و لكن لم تتح لي الفرصة لمقابلة هيلاري خلال زياراتي التالية إلى الولايات المتحدة، كما أنني لم أقابلها بعد أن أسند الرئيس باراك أوباما إليها منصب وزير الخارجية عام 2009.
و قد حافظتُ على علاقة طيبة بكلينتون، و استمر احترامي له بعد تركه البيت الأبيض، بل إننا تقابلنا مرتين بعد أن انتهت رئاسته، كانت إحداهما خلال " مبادرة كلينتون " ، التي أطلقها في نيويورك، و الأخرى في دبي حيث دعوتهُ فيها إلى زيارة دمشق، بعد التشاور مع الرئيس بشار الأسد. رحب كلينتون بالفكرة، و عبّر عن رغبته في تلبيتها، لكنه لم يفعل ذلك. و قد اكتشفنا في ما بعد أن الرئيس جورج بوش الابن لم يسمح له،كما أنه حاول منع الرئيس كارتر من زيارة دمشق في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2008 .
و بعد أن تبادل كلينتون المجاملات معي في كانون الأول ديسمبر 1994، أشار إلى هدية تلقاها من الرئيس الأسد خلال زيارته دمشق في تشرين الأول/ أكتوبر، و هي طاولة مكتب محلاة بالموزاييك تستعمل رقعة شطرنج، و قد صنعها يدوياً حرفيون مهرة في دمشق القديمة، قال لي كلينتون: " هي في غرفتي، لكن لم تتح لي فرصة استعمالها بعد، و إن كنت أنوي القيام بذلك أثناء عطلة عيد الميلاد ". ثم تطرق إلى عملية السلام ، قائلاً: " أنا ممتن جداً للرئيس الأسد و قراره الحكيم بإرسالكم إلى هنا. أرحب بكم جميعاً في البيت الأبيض، و أعبّر عن اعتقادي أن المفاوضات في هذه المرحلة مهمة جداً، و نحن نسعى . إلى معاهدة سلام تنسجم مع مبادئكم، و الولايات المتحدة مستعدة لممارسة كل ما هو مطلوب لتحقيق التقدم فى ذلك المسار" .3
القسم الأخير
من المؤسف أنه برغم نيات كلينتون الطيبة، غادر الشهابي واشنطن بعد ذلك صِفُر اليدين، و توجه إلى زيارة ابنه في نيوبورت بيتش حيث كان يدرس الطب النووي. و عاد باراك إلى إسرائيل، حيث كان مقرراً أن يحلّ أمنون شاهاك محله رئيساً للأركان في 1 كانون الثاني 1995 . و حاول روس جاهداً أن يتخذ ترتيبات اجتماع اخر، و هذه المرة مع شاهاك في الأسبوع الأول من كانون الثاني/ يناير. لكن رابين كان أقل حماسة، لأنه لم يرغب في أن يغادر أكبر ضباطه إسرائيل بعد أيام من تسلمه منصبه، و حين قرأ الرئيس الأسد محضر محادثات الشهابي في الولايات المتحدة، انزعج أيضاً من أن رابين " تعمد إعطاء إيهود باراك معلومات خاطئة ".
و ربما شعر الأسد أنه أعطى أكثر مما يجب، كما اعتقد أن رتبة الشهابي العسكرية ربما كانت عالية إلى حدّ جعل الإسرائيليين يكوّنون انطباعاً خاطئاً بأن الأسد بدا يلين. كان هذا هو الانطباع الذي كوّنتُه، و عبّرت عنه للرئيس الأسد حين عدنا إلى دمشق. و قام الرئيس على الفور بشطب محادثات بلير هاوس على أساس أنها غير متوازنة، و اعتبرها بلا قيمة و لا فائدة فعلية، و لكي يسجّل نقطة لمصلحة القضية، أبقى السفير المعلم في دمشق مدة ستة أسابيع، مرسلاً بذلك رسالة واضحة للأمريكيين الذين كانوا هم الذين دعوا إلى اجتماع الضابطين، أولاً.
1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 171
2- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص173
3-من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 175
إضافة تعليق جديد