الرهان على انهيار «داعش» من الداخل
هل تعني الهزائم التي يتعرض لها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش» أنه بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار؟ وهل اقتربت اللحظة التي تتهاوى فيها بنيته تحت وطأة الخسائر التي تلحق به؟ أم أن أمر «إنهاء داعش» لا يتعلق بمجريات المعارك الحاصلة فقط، وهو مرتبط أكثر بتعقيدات إقليمية ودولية لم تحن ساعة حلّها حتى الان؟.
توقّع البعض أن تكون هزيمة عين العرب (كوباني) هي بداية النهاية بالنسبة إلى «داعش»، وأن انهياره بات مسألة وقت فقط. ولقيت هذه التوقعات رواجاً كبيراً بعد سلسلة من الهزائم التي تعرض لها التنظيم التكفيري بعد ذلك، سواء في العراق أو سوريا. وتعززت بعد توارد الأنباء عن حالات انشقاق في صفوف مقاتليه، ومحاولات انقلاب كادت تطيح بقيادته، أو عمليات أمنية استهدفت، ولا تزال، «أمراءه» ومعاقله وحواجزه في أكثر من منطقة، وصولاً إلى الحديث عن اشتباكات مسلحة بين تيارين داخله، هما تيار «المهاجرين»، أي «المقاتلين الأجانب»، وتيار «الأنصار»، أي «المقاتلين المحليين». الأمر الذي عزز القناعة بأن «داعش» يعيش لحظاته الأخيرة كتنظيم متماسك، وأن نهايته باتت قريبة جداً.
وبالرغم من أن ما سبق ينطوي على مقدار من الصحة لا يمكن إغفاله، خاصة لجهة الحديث عن هزيمة «داعش» في أكثر من معركة، واضطراره إلى الانسحاب من مساحات واسعة كان يسيطر عليها، ويستمد منها بعض مقومات المدد الذي يعتمد عليه للمحافظة على بقائه، مثل آبار النفط. غير أن ثمة شكوكاً حقيقية تثور حول طبيعة ومدى النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الهزائم والانسحابات، وعما إذا كانت تعني بالفعل أن التنظيم شارف على النهاية.
ولا تتعلق الشكوك فقط بنقاط القوة، التي ما زال التنظيم يحتفظ بها وتمكنه من الاستمرار في مواجهة خصومه عسكرياً على أكثر من جبهة وفي نفس الوقت، بل تتعلق أيضاً بحقيقة الهزائم التي تعرض لها، وفهم الأسباب الحقيقية التي أدت إليها في أماكن معينة من دون أخرى، ولماذا نرى مقاتلي «داعش» ينسحبون سريعاً من بلدات وقرى كثيرة بلمح البصر، بينما تتعثر معركة كبيرة ضده مثل معركة تكريت؟ وكيف يخسر في عين العرب ثم يحشد حشوده ضد رأس العين؟.
مما لا شك فيه أن «داعش» رغم خساراته الأخيرة، ما زال يحافظ على العديد من نقاط القوة التي يعتمد عليها للاستمرار في القتال في الوقت نفسه على جبهات عديدة، وضد خصوم مختلفين، مع ما يتطلبه ذلك من توافر كوادر كبيرة ذات كفاءة عالية من ناحية التخطيط العسكري. ومن أهم هذه النقاط، هي استمرار سيطرته على مدن كبيرة ومساحات واسعة من الأرض مفتوحة على الحدود مع الدول المجاورة، سواء في سوريا أو العراق، وهو ما يتيح له حرية في الحركة وفي تأمين خطوط الإمداد. ومنها مستودعات الأسلحة - رغم تعرض بعضها للقصف - والمدخرات المالية، التي تقدر بعض التقارير الاستخبارية، أنها تكفيه لمدة عامين.
وهناك نقاط أخرى، لكن أهم هذه النقاط هي العقيدة العمياء التي يتمتع بها مقاتلو التنظيم، والتي أتاحت له بناء بنية عصية على الانهيار من الداخل، وذلك عكس كل التوقعات التي تتحدث عن إمكانية ذلك. ويكفي للدلالة على قوة هذه البنية أن نشير إلى أن زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري نفسه لم يستطع تصديعها أو إحداث أي شق فيها، بالرغم من أنه قاد بنفسه حملة كبيرة على قادة «داعش» ووصفهم بـ «الخوارج»، ومع ذلك لم يكن لهذه الحملة أي ارتدادات في كواليس التنظيم، ولم تتسبب بأي حالة انشقاق عنه، مع الأخذ بالاعتبار القيمة الأدبية الكبيرة التي يتمتع بها الظواهري، وأن قسم كبير من مقاتلي «داعش» كانوا في وقت سابق تابعين له.
ومن شأن طبيعة هذه البنية أن تطيح بأي أمل في أن نراها تتهاوى بسبب هزيمة هنا أو أخرى هناك، لكنها من جهة أخرى تطيح بأي خطط يجري الإعداد لها بانتظار الوقت المناسب، لطرح مشاريع مشبوهة تتعلق بـ «محاورة داعش»، تحت ذريعة أن بعض أجنحته قد تتقبل المساعي الإقليمية الهادفة إلى إعادة تأهيلها وإدخالها في العملية السياسية. وثمة خشية أن يكون الحديث عن انشقاقات في صفوف «داعش» مجرد تمهيد طويل الأمد للدخول في حوار مع المنشقين عنه تكون نتيجته أن يدخل بعض «الأمراء» إلى ميدان «السياسة» بعد تخليهم عن ميدان «الجهاد». وما زالت تجربة «الجماعة الليبية المقاتلة» التي أصبح «أمراؤها» السابقون من أبرز متزعمي الأحزاب السياسية في ليبيا، ويتحكمون من تحت الطاولة بجبهات القتال المستعرة، ماثلة للعيان. لذلك من شأن التركيز الإعلامي مؤخراً على موضوع المواجهات بين «المهاجرين» و «الأنصار» أن يكون له تأثير مزدوج، وربما يكون أقرب إلى التحايل على الوعي من كونه حرباً نفسية ضد التنظيم التكفيري.
فالبنية الكتيمة التي يتمتع بها «داعش»، والمبنية على عقيدة عمياء، لا تسمح بأي شكل من الأشكال ببروز أجنحة داخله، أو تيارات متباينة، للقول إن هذا الجناح يمكن الحوار معه. وهذا ما تؤكده المعطيات والوقائع الجارية، حيث لم يتوانَ التنظيم عن سجن أو إعدام عدد من كبار قادته لأنهم شذوا عن الطريق، أو تبنوا آراءً مختلفة عن رأي قيادته، ومن أهم هؤلاء أبو عمر الكويتي وأبو خطاب المغربي (التونسي). والنقطة المهمة، التي ينبغي التوقف عندها، هي أن غالبية حالات الشذوذ كانت تذهب باتجاه أكثر غلواً وعنفاً وليس العكس.
ولكن هنا ينبغي التمييز بين بنية «داعش» الصلبة، التي تشكل جوهر كيانه، وبين بعض المجموعات التي تلتحق به، ويعرف هو قبل غيره أنها لم تلتحق إلا لمصلحة آنية، فمثل هذه المجموعات يمكن العمل عليها، لكنها في النهاية لا تؤثر على بنية التنظيم الأساسية.
أما فيما يتعلق بالهزائم، فإن فهم ملابساتها وتحليل الظروف التي أدّت إليها، سيكون من شأنه أن يضطرنا إلى إعادة النظر في التوقعات بقرب انهيار التنظيم، لأن مجمل المعطيات تشير إلى أن هذه الهزائم جاءت في سياق مختلف عن سياق القضاء على «داعش»، وأنها قد تكون تنفيذاً مباشراً لعملية ترسيم حدود جديدة، تطمح بعض الدول الكبرى إلى إخضاع دول المنطقة لها. وقد تكون معركة عين العرب خير نموذج لفهم هذه الحقيقة.
فلم يكن من الممكن أن تحقق معركة عين العرب النتيجة التي وصلت إليها بطرد «داعش» من المدينة وريفها، لولا وجود توافق إقليمي ودولي، وقبول واضح من السلطات السورية وحلفائها، على خوض هذه المعركة، وهو توافق نادر لا يشبهه إلا التوافق حول نزع السلاح الكيميائي. وهذا ما يفسر لنا لماذا توقف تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية بعد انسحاب «داعش» من ريف عين العرب ووصوله إلى خطوط التماس القديمة. وذلك لأن التوافق الضمني الذي حصل يشمل فقط منطقة عين العرب دون غيرها من المناطق الأخرى. فما حصل في عين العرب لا يمكن تصور حدوثه في الرقة مثلاً، لأن الرقة تحتاج إلى خلق توافق جديد وفق معايير مختلفة. وهنا يتضح سبب التعثر الذي تعاني منه معركة تكريت في العراق حالياً، وهو غياب التوافق الإقليمي والدولي على إكمال هذه المعركة. أما السبب المعلن لتوقفها، والمتعلق بكثافة العبوات، فإنه غير مقنع على الإطلاق. وقد يكون تحرك السيد عمار الحكيم باتجاه الأردن خطوة على طريق إنجاز التوافق المطلوب.
وهذا يعني أن وراء «داعش» تكمن مشكلة هي في الحقيقة أكبر وأضخم منه، هي مشكلة صراع الأجندات والمصالح، وما لم تحصل تسوية لهذا الصراع سيبقى انهيار «داعش» على المدى المنظور مجرد سراب.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد