'الصمت والصدى': الحصاد المر لاتفاقية كامب ديفيد

22-04-2009

'الصمت والصدى': الحصاد المر لاتفاقية كامب ديفيد

للثلاثي المبدع: محمد الحربي كاتباً للسيناريو، وزينب عبد الرزاق في البحث والإعداد، ومها شهبة في الإخراج... والذي تابعت له العام الماضي فيلم (غيفارا عاش)، عرضت قناة (الجزيرة) القطرية هذا الأسبوع فيلم (الصمت والصدى) الذي أنتجته القناة المذكورة، لمناسبة مرور ثلاثين عاماً على اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات مع قادة الكيان الصهيوني، في أول حالة صلح منفرد، أحدثت صدمة في الصف العربي، وذهولاً في الشارعين العربي والمصري!
الفيلم انطلق من حالة النصر في حرب أكتوبر، أو شعور المقاتل العربي بأنه قادر على صنع هذا النصر حين تتوفر النوايا الرسمية للمواجهة بقوة، ثم عاد إلى الوراء، ليرى كيف خرج هذا النصر من رحم مرارة الهزيمة وألمها في نكسة الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، ثم تحدث عن صدمة الصلح المنفرد مع إسرائيل في كامب ديفيد 1979... مبرزاً السلوك السياسي الداخلي للرئيس السادات، والتحركات الخارجية ممثلة بالتقرب من الأمريكان، وتوطيد العلاقات مع الغرب!
وجهات النظر تباينت في الحديث عن منجزات السلام التي بدت كوارث محققة في نظر آخرين... إلا النبرة الوجدانية للفيلم، أظهرت أن صناع الفيلم قد انحازوا إلى إبراز الحصاد المر للسلام على الصعد كافة... وقد ركزوا على هذا التناقض الصارخ بين الخطاب السياسي وصورة الشارع والواقع الذي كان يحياه الناس، حيث زيف الوعود التي كان يطلقها الرئيس السادات بقوله: (المليارات نازلة ترف علينا والحمد لله مش من الأمة العربية) أو عبارته الشهيرة: (على أرض مصر قطعة رخاء لكل مواطن ومواطنة سنة 1980) فإذا بعام 1980 يقدم أسوأ أداء اقتصادي عرفته مصر، وتتحول قطعة الرخاء إلى ثورة جياع يبحثون عن رغيف الخبز!

- الفيلم أشار إلى أن عشرات العروض قدمت للرئيس جمال عبد الناصر لتحقيق صلح منفرد واستعادة سيناء، لكنه كان يرفض متسائلا: (وماذا عن القدس) والواقع فصورة عبد الناصر كانت ناصعة في الفيلم، حتى وهو (يزف) لنا خبر هزيمة حزيران برنة الحزن المهيب، إذ لم يشر الفيلم ـ ولو في سياق عاجل- إلى مسؤولية نظامه عنها وإلى الفساد الداخلي الذي كان سبباً من أسباب الهزيمة... في حين بدت صورة الرئيس المؤمن أنور السادات: (ألعوبان) لا أكثر ولا أقل، فهو يلعب على الحبال كلها، ويطلق الوعود للجميع... ويعرف كيف يسوق نفسه في وسائل الإعلام حين يتحدث عن دولة (العلم والدين) التي أراد بناءها في مصر، وعندما يواجهه أحدهم بأنه يبعد رجال الدين من العلماء الحقيقيين، ويقرب من ينافقونه ويتملقونه، يصرخ في وجهه بحزم وقوة، طالباً له أن يلتزم حدوده، كي يظهر في مظهر الرئيس القوي الذي يعرف حدود الديمقراطية التي أتاحها لأبناء شعبه... كما ركز في السياق البصري على صور تبدو صادمة للشعور القومي، كلقطة استغراقه في الضحك مع رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير... وخطابه الذين كان يهدد فيه العرب بعنجهية ألا يتمادوا لأن المصريين هم (أصل العرب)... لكن بالمقابل تعاطف صناع الفيلم قليلا مع السادات حين كان ياسر عرفات يوجه له الانتقاد الحاد لما أقدم عليه في كامب ديفيد... حيث جاء السياق المونتاجي ليقدم لقطات لعرفات نفسه وهو يوقع اتفاق صلح واعتراف بإسرائيل مع اسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض!

- لقد انحاز الفيلم عموماً للفكر القومي... وعبر عن رفضهم لإخراج مصر من الصف العربي، وللنيل من دورها التاريخي والمحوري في القضايا الكبرى... لكنهم ورغم النبرة العاطفية أحياناً... قدموا الكثير من المبررات المستخلصة من سياق تحليلي نقدي، ومن تقاطع وجهات نظر مختلفة، لا تنضوي في وجهة نظر واحدة بأي حال من الأحوال، وإن بدت وجهة النظر المؤيدة للاتفاق هي الأضعف تأثيراً على سياق الفيلم الذي يمضي بقوة نحو هدفه... وقد سعوا للإحاطة بكافة الظروف التي صنعت كامب ديفيد، والنتائج التي أفرزها على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد... وعلى الصعيد النفسي أيضاً... وخصوصاً حين التقوا أحد مقاتلي حرب أكتوبر من كتيبة ما سمي بـ (صائدي الدبابات) فبدا وكأنه يرثي زمن البطولة الضائع من أجل سلام بدت كل مكتسباته ضائعة وغير ملموسة أيضاً... حيث كان البديل نظاماً أنهك الناس وأفقر الطبقة المتوسطة، فتراجعت القضايا الكبرى، وأصبح هم رغيف العيش هو الهم اليومي الذي يطحن غالبية الشعب المصري... الذي يظهر الفيلم كيف أنه لم يتقبل هذا الصلح المنفرد واستمر يعبر عن رفضه له بشتى الأشكال، سواء على شكل عمليات مقاومة، أو على شكل رفض مطلق للتطبيق، وخصوصاً في الأدب والفن على وجه الخصوص.

- إن فيلم (الصمت والصدى) لا يرفض اتفاق كامب ديفيد بعد ثلاثين سنة من إبرامه، رفضاً جاهزاً، انطلاقاً من التمسك بشعار، أو الانحياز لحالة كانت ملهمة للوجدان القومي... بل يدعو ـ المواطن المصري- لرفضه أولاً- لأنه لم يقدم له أي مكتسبات على أي صعيد كما تقول الوقائع وليس وجهات النظر وحسب... وهو يركز على حالة الانكسار النفسية التي أشاعها، سواء للمصريين الخارجين من نصر أكتوبر، ومن إيمانهم على صناعة النصر، أو بالنسبة للعرب الذين كان خروج مصر من الصف العربي في حينه، حدثاً مزلزلاً أذهل الكثيرين وقلب الكثير من المعادلات والقناعات... بالرغم من أن هذا لم يكن أول حالة اتصال مع العدو، فتاريخ الاتصالات السرية بين إسرائيل وبعض الأنظمة يعود إلى ما قبل كامب ديفيد بكثير... وبعضها حدث أثناء حرب الإنقاذ نفسها... لكن كارثة (كامب ديفيد) أنها شرّعت هذا الاتصال، وجعلته مربوطاً بالتزامات ومعاهدات رسمية، وألغت أي خيار آخر للصراع، فضلا عن أنه لم يتحول يوماً إلى ورقة ضغط، في أكثر مراحل الصراع دموية، وارتكاباً للمجازر في جنوب لبنان وفي جنين وفي غزة... وعلى العكس من هذا، عاد كامب ديفيد بفوائد كبيرة على إسرائيل، إذ كان البوابة التي عبرت منها، كل اتفاقيات السلام بعد ذلك... كما فتح المجال أمام الكثير من المكاسب الاقتصادية لإسرائيل، كتخفيف حالة المقاطعة عليها بطرق غير مباشرة... بل ومباشرة أحياناً... وكانت آخر تلك المكاسب تصدير الغاز المصري لإسرائيل بأسعار مخفضة... وهو الأمر الذي مازال النظام المصري مصراً على الدفاع عنه، لأسباب لا تبدو مقنعة للرأي العام بأي شكل من الأشكال... وربما كان على صناع الفيلم أن يشيروا إلى أن اتفاق كامب يفيد أيضاً لم ينه النشاطات الإسرائيلية المعادية على أرض مصر، كما أكدت قضية الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام... الذي كان يمارس مهامه في زمن السلام!
فيلم (الصمت والصدى) باسمه الموحي الذي يؤكد أن كامب ديفيد كان صمتاً عن المقاومة ولم يكن صوتاً للسلام... عمل جدير بالمشاهدة والاحترام... فهو يقدم وجهة نظر حارة فيها الكثير البحث والتقصي والسعي للوصول إلى الحقيقة الموضوعية، عبر سياق نقدي تحليلي يقود المشاهد إلى التفاعل والاستنتاج واتخاذ الموقف، النابع من محاكمة عقلية، لا تعوزها النبرة الوجدانية أحياناً... فيلم يقدم نفسه من خلال سيناريو محكم، ولغة إخراجية بسيطة لا تحتفي بالجماليات بقدر ما تبحث عن بلاغة التعبير... وهو يمثل تجربة ناجحة أخرى تضاف إلى رصيد مبدعيه الشباب، من صحافيي الجيل الجديد في مصر، الجيل المؤسس على ثقافة حقيقية وعقل منفتح يمتلك الرؤية... إنه الجيل الذي يؤكد أن مصر العظيمة بخير.

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...