غسان الرفاعي: «قندرة» الزيدي ومقهى «الماركيز»!

23-02-2009

غسان الرفاعي: «قندرة» الزيدي ومقهى «الماركيز»!

 1 ـ كان من المفترض أن يمثل الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي رشق الرئيس بوش «قيصر العالم» بفردتي «قندرته» أمام المحكمة في 19 شباط الجاري، ولكن «أسباباً مجهولة» لم يكشف عنها استدعت تأجيل المحكمة الى أجل غير مسمّى. لقد استأثرت المبادرة «الساذجة والجريئة» التي أقدم عليها مراسل قناة «البغدادية» باهتمام منقطع النظير، لا في العالمين الإسلامي والعربي فحسب، وإنما على امتداد الكرة الأرضية التي تعاني من الغطرسة الأميركية والتدخل الفظ في الشؤون الداخلية.

يتعرض الزيدي الى عقابين زاجرين، حسب تصنيف عمله قضائياً: فإذا ثبت أنه ارتكب «عدواناً» ضد مسؤول أجنبي، رفيع المستوى، فقد يحكم عليه بالسجن /15/ عاماً، ولكن إذا نجح محاميه في توصيف عمله «بالإهانة» فقد لا يتجاوز سجنه سنة واحدة، على أن العقابين لن يؤثرا على نجوميته، بعد أن كرّس سياسياً وإعلامياً وأخلاقياً بطلاً يجسد تطلعات الملايين من المسحوقين والمظلومين والمقهورين. ‏

ـ 2 ـ ‏

أجرت صحيفة «اللوموند» الرصينة جداً، تحقيقاً مطولاً عن ظاهرة «الرشق بالقندرة» (هكذا يسمى الحذاء باللغة الدارجة). وينتهي بصورة الحذاء العملاق الذي صنعه الفنان والنحات العراقي غيث العمري من النحاس والزجاج الملون، وزرعه سكان مدينة تكريت في أكبر ساحة في المدينة رمزاً لمقاومة الاحتلال الأميركي. وحينما حاولت السلطة اقتلاعه من مكانه، تصدّى آلاف من شباب المدينة وشيوخها ونسائها لرجال الأمن وأبقوا الحذاء العملاق في مكانه. ‏

جاء في تحقيق صحيفة «اللوموند»: حذاء الزيدي دخل كل منازل المضطهدين في العالم، وتصدّر جدران غرف الاستقبال، بعد أن أصبح علماً يحمله المتظاهرون المحتشدون في عواصم الكرة الأرضية. ونقل عن شقيق الصحفي العراقي ضرغام: «كان أخي يعيش في غرفة متواضعة جداً في حي الكاظمية. وكانت صورة غيفارا المعلقة على الجدار هي أهم قطعة أثاث يعتز بها. ولكن عائلته أنزلت الصورة ووضعت مكانها حذاءً ملفوفاً بالعلم العراقي، نقش عليه الشعار التالي: «سنطردكم بالأحذية أيها المحتلون الأمريكان!». ‏

وفي حوار مع محامي الصحفي العراقي ضياء السعدي هذا الاعتراف: «لقد استخدم الزيدي الحذاء كوسيلة تعبير ثورية. إنه مواطن عراقي شريف يرفض الاحتلال الأميركي لبلاده. لم يكن ينوي قتل الرئيس بوش، وإنما إبلاغه أن شعب العراق أبيّ، كريم، شجاع..». ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

يا الله، كم تذكرتك يا عيسى الشيخ راضي، يا زميل جامعة جنيف في أواخر الخمسينيات، كم حزنت حينما علمت أنك من حيث لا تدري، أصبحت ضحية من ضحايا الجنون الاقتتالي في شوارع بغداد. وإذا كان الزيدي قد اختار الحذاء كوسيلة من وسائل التعبير الرافض، فقد تكون أكثر قسوة حينما اخترت أن تدافع عن كبريائك. ‏

لا أحد يدري كيف وقع اختيار الطلاب العرب والفرس واليونان على مقهى الماركيز القريب من جامعة جنيف. لقد سماه مالكه مقهى الماركيز لإعطائه هيبة أرستقراطية، ولكنه أصبح يُعرف «بمقهى الحضارات البائدة» بعد أن أصبح ملجأ لنا. كان ينتظمنا نحن العرب والفرس واليونان انتماء الى حضارات عريقة، جديرة بأن نفاخر بها، ولكن قطار العصر، فيما يبدو، قد فاتنا، ما شجع الآخرين على العبث بمصائرنا. وكان المقهى يشهد خلافاتنا وصراعاتنا وتشققنا السياسي، والروحي، والاجتماعي، ولكم تراشقنا بالكلام، والصفعات بعض الأحيان، ولكن سرعان ما كنا نتصافى، ونتصالح، ونعود الى الى تضامننا الظاهري. ‏

وكان أهم «زبون» مزمن في مقهى الماركيز هو عيسى الشيخ راضي ـ ماركسي عراقي، متطرف، فوضوي، شهم ومبذر، ومثال نادر في الاستقامة السياسية والثقافية. حصل على شهادة الدكتوراه في القانون السويسري بدرجة الامتياز، لكنه رفض العودة الى بلاده بسبب انغماسه في النشاطات المعارضة. كان يقول دوماً ببرودة أعصاب ثلجية: «لن أعود إلا بعد أن تنتصر الثورة الأممية». ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

وكان لعيسى صديقة سويسرية اسمها فلورانس، لها وجه طويل حزين وعينان بلون العسل وخصر نحيل وصدر مرتفع. تعلقت به لفرادته وغرابته وفوضويته، وغفرت له فقره وزوغانه. ‏

كان يردد أمامها: «كل شيء يتغير حينما تنتصر الثورة الأممية، سآخذك الى العراق بعد أن يتحول الى فردوس أرضي». وكانت تثق بكلامه، وتنظر انتصار الثورة الأممية. سميناها «الكنة» لأنها اكتسبت الكثير من طباعنا وسلوكياتنا من طول معاشرتنا والجلوس معنا. ولكن فلورانس لم تعد تتحمل الانتظار، وفقدت ثقتها بحتمية انتصار الثورة الأممية. ‏

وفي ذات يوم، عادت فلورانس الى المقهى، وقد ارتدت ثياباً فاضحة، وكشفت عن جزء كبير من صدرها وساقيها، ومعها شاب اسباني يرتدي قميصاً أحمر مفتوح الصدر وبنطالاً أسود في غاية الضيق. قاما بجولة استعراضية في أرجاء المقهى، ثم جلسا في ركن منعزل في الصدر، وأخذا يتغازلان دون تحرج، هو ينحني عليها ويقبلها، وهي تأخذ يده وتعض أصابعه بدلال، وكنا نشاهد هذا كله بصمت وحسرة وحسد. كيف يقتحم هذا «العلج» مقهانا ـ وطننا الصغير في الغربة ـ ويصادر «كنتنا» بهذه السهولة الفاجرة. إنه اعتداء على ثلاث حضارات عريقة وتحد لرجولتنا وكرامتنا، ولا يجوز أن يمر هذا الاعتداء دون عقاب. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

سيطر علينا الوجوم الشديد، شعرنا جميعاً بفداحة الاحراج، وهول الفضيحة. كنا ننظر الى عيسى بخجل وعتاب. كنا ننتظر منه أن يقوم بعمل ما ليرد على هذا الانتهاك البشع، وليزيل عن شرفنا هذه اللطخة السوداء. ‏

كان عيسى قابعاً في ركنه، يعتمد رأسه بين يديه ولا يفعل شيئاً، هل كان يبكي؟ هل كان يخطط للانتقام؟ ولكنه وقف فجأة وتحرك باتجاه طاولة العاشقين بخطوات ثابتة ثقيلة، وحينما أصبح في مواجهتهما ودون أن نتبين ما كان ينوي ان يفعله، شاهدناه يصرخ بقوة وهو ينظر إليهما بلا تقاطيع وكأنه تمثال من الشمع، ولم يعرف المسكينان كيف يتصرفان. كانا ينتظران ملاكمة مبارزة بل حتى إطلاق رصاص، ولكن ليس السباب والشتائم بهذا الشكل الاستفزازي، فهذا ما لا قدرة لهما على تحمله. ‏

وحدث هرج ومرج وتعالت الأصوات واحتشد رواد المقهى حول العاشقين، ومن حيث لا ندري دخل ثلاثة من رجال البوليس وتوجهوا الى مكان الحادث وهم لا يصدقون أعينهم. نظر إليهم عيسى ثم قال بصوت نحاسي بارد: «تنص المادة السابعة من قانون العقوبات السويسري على وجوب دفع غرامة مالية مقدارها /120/ فرنكاً سويسرياً تُحصّل من كل من يرتكب عملاً مشابهاً. خذوا، سأدفع الغرامة حالاً، ولكنني سأدفعها مضاعفة أي /240/ فرنكاً سويسرياً لأنني سوف أكرر ما فعلته بعد قليل!». ‏

وأطرقنا رؤوسنا ولكننا لم نكن متضايقين، شعرنا بشيء من الكبرياء وتوهمنا أننا حصلنا على حقوقنا، وإننا بددنا الإهانة. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

الجماهير الغاضبة في عواصم «الليبرالية الفضفاضة» ترشق مسؤوليها بالبيض الفاسد وقطع البندورة المهترئة تعبيراً عن غضبها ورفضها للسياسة الرسمية التي ينتهجها الطاقم الحاكم. ويعتبر هذا السلوك «الأحمق حقاً مشروعاً ديمقراطياً». وكما قال جان فيليب ريميه المعلق السياسي في صحيفة اللوموند: «إن الجرائم التي اقترفها بوش بحق الشعب العراقي لا تستحق الرشق بالبيض الفاسد والبندورة المهترئة ولا بفردتي (قندرة) صحفي عراقي مثقل بمشاعر الكراهية فحسب، وإنما تستحق القبض عليه ومحاكمته في محكمة لاهالي الدولية. وكان يجدر بالقضاة الذين سيحاكمون الزيدي أن يجمعوا الأدلة والبراهين لمقاضاة بوش، عوضاً عن الاستنجاد بالقوانين وتفسيرها عشوائياً ضد مواطن عراقي شريف». ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...