العبث بالنفخة الإلهيّة
غدًا تحتفل الكنيسة بعيد الصعود الإلهيّ، صعود المسيح إلى السماء بعد أربعين يومًا من قيامته من بين الأموات. وأهمّيّة هذا الحدث، لدى المسيحيّين، ليست في حدث الصعود وحسب، بل في أنّ الطبيعة البشريّة التي اتّخذها كلمة الله، الإله حقًّا، قد جلست عن يمين الله في الأعالي. فبفضل المسيح أصبحت الطبيعة البشريّة حاضرة في الله نفسه. وبفضله احتضن الله الطبيعة البشريّة وأسكنها فيه.
قبل أن تنعم الطبيعة البشريّة، بشخص يسوع المسيح، في الحضرة الإلهيّة، كان روح الله يسكن في الإنسان. فكتاب التكوين يقول عن خلق الإنسان إنّ الربّ الإله "جبل الإنسان ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حيّةً" (2، 7). هذه النفخة هي الروح التي ميّز الله بها الإنسان عن الحيوانات الأخرى، إذ خصّه وحده بها. هي الحضور الإلهيّ في الإنسان المخلوق على "صورة الله ومثاله" (سفر التكوين 1، 26).
في حدث الصعود تمّ تأكيد الشركة الإلهيّة-الإنسانيّة التي بادر إليها الله منذ خلق الإنسان الأوّل إلى أن يأتي يوم الحشر. ففي الإنسان حضور إلهيّ، وفي الله حضور إنسانيّ. حدث الصعود، إذًا، يؤذن ببدء خلق جديد. انقضى عهد آدم الأوّل، وبدأ عهد آدم الجديد، ذاك العهد الذي يتيح لكلّ إنسان أن يصير على صورة المسيح ابن البشر وابن الله في الآن عينه. التاريخ بات تاريخين، تاريخ ما قبل المسيح وما بعده، تاريخ الإنسان المصنوع من تراب وتاريخ الإنسان المدعو إلى اكتساب المثال الإلهيّ.
يلتقي القرآن وكتاب التكوين على الرواية نفسها عن خلق آدم. فالآية القرآنيّة تقرّ بأنّ الله خلق الإنسان من طين "ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه" (سورة السجدة، 9). غير أنّ التراث الإسلاميّ لا يقول عن الروح ما يقوله التراث المسيحيّ، فالروح، وفق أحد المفسّرين المعاصرين، هو "شيء نورانيّ عجيب من خلق الله تعالى. أضاف تعالى الروح إلى نفسه إضافة خلق إلى خالق، وهو تشريف لآدم" (وهبة الزحيلي في "التفسير الوجيز على هامش القرآن العظيم").
يؤكّد المفسّر نفسه هذا المعنى عن الروح، ويضيف في تعليقه على الآيات التي تتحدّث عن طلب الله من الملائكة أن يسجدوا للإنسان المخلوق من الطين (سورة ص، 71-72)، بأنّ المقصود بالسجود هنا "سجود تحيّة وتكريم، لا سجود عبادة". يبقى أنّ الله الذي كرّم بني آدم، "وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً" (سورة الإسراء، 70) وهب الإنسان من روحه ما لم يهبه لسواه من خلقه. هي نفخة ميّز الله بها الإنسان فتجعله أهلاً للتشريف والتكريم.
مع اختلاف التراثين المسيحيّ والإسلاميّ في هذه المسألة، يتّفقان على القول بفرادة الإنسان، وبأنّه يتحرّك بنفخة إلهيّة تحييه إلى الأبد، وإنْ كان عبوره بالموت الجسديّ حتميًّا. فحياة الإنسان، إذًا، ليست ملكًا لأحد، ولا يحقّ لأحد أن يضع حدًّا لها، أو أن ينزعها منه. وإنّ "مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعًا ومَن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا" (سورة المائدة، 32).
الإنسان أسمى مخلوقات الله لأنّ فيه نفخة إلهيّة. من هنا، يكون كلّ عبث بحياة هذا الإنسان إنّما هو اعتداء على روح الله الساكن فيه. هو اعتداء على الله نفسه، الله الذي "يمهل ولا يهمل".
الأب جورج مسّوح
المصدر: النهار
التعليقات
الروح والنفس والجسد
إضافة تعليق جديد