العجيلي: أيقونة المدينة
أروع بدوي عرفته الصحراء، وأروع صحراوي عرفته المدينة، هذا ما قاله عنه ذات يوم نزار قباني. <إنه رائد القصة العربية القصيرة>، هكذا اعتبره القاص المصري يوسف إدريس. ولو حاولنا أن نعدد النعوت والأوصاف التي أطلقت على الكاتب السوري عبد السلام العجيلي (الذي غيبه الموت نهار أمس عن عمر يناهز الثماني والثمانين سنة، من مواليد العام 1918) لامتد بنا الوقت والمساحة. وهي صفات تؤرخ فعلا لتاريخ هذا الرجل، الطويل والمتنوع ما بين الكتابة والعمل السياسي ومهنة الطب التي مارسها طيلة عمره، مثلما هي تؤرخ لمكانته في الأدب العربي الحديث.
ومع ذلك كله ثمة مفارقة لا بد أن يطرحها المرء: هل قرأنا حقا عبد السلام العجيلي على الرغم من أنه يرحل عن أكثر من أربعين كتابا موزعا بين الرواية والقصة القصيرة وأدب الرحلات والمذكرات بالإضافة إلى ديوان شعري واحد، ناهيك عن المقالات الصحافية الكثيرة، المتنوعة بدورها، (كتب أيضا في المجال الطبي)، وتحت العديد من الأسماء المستعارة، إذ يقال إنه استعمل اثنين وعشرين اسما مستعارا.
أطرح هذا السؤال حول <المفارقة>، إذ كنّا نهار أمس أمام <حزورة> ما، فغالبية الكُتّاب الذين اتصلنا بهم، من أجل كتابة شهادة عن الراحل، اعتذروا لأنهم لم يقرأوا له شيئا. فعلا مفارقة كئيبة لشخص اعتقد أنه يمكن للأدب أن يغير الواقع، وأنه يحمل رسالة اجتماعية ما في سبيل حياة مختلفة. بمعنى آخر، وكأن العجيلي أراد أن يداوي الجسد من خلال مهنته كطبيب وأن يداوي النفس من خلال عمله الأدبي. كذلك هي مفارقة أن لا نكون قد اطلعنا على مجموعته <قناديل اشبيلية> (على الأقل) التي اعتبرت يوم صدورها في منتصف الخمسينيات، بأنها إحدى النقاط المضيئة في تاريخ الأقصوصة العربية، كذلك هي نقطة تحول في الكتابة العربية، من دون أن ننسى بالتأكيد بأن علينا وضعها في سياقها التاريخي والزمني التي كتبت فيهما.
هذه المفارقة الزمنية تتجلى أيضا في واحدة من رواياته الأخيرة <أجملهن> التي يعود فيها إلى <زيارة> موضوع عالجه الأدب العربي منذ الأربعينيات، نحن والغرب عبر علاقة حب مع فتاة أجنبية. هكذا قرأنا <موسم الهجرة إلى الشمال> للطيب صالح و<الحي اللاتيني> لسهيل إدريس و<عصفور من الشرق> لتوفيق الحكيم، وغيرهم. لكن ما ذهب إليه عبد السلام العجيلي هو أبعد من تضييق زاوية الكتابة في حيّز من الأفكار الخالصة، إذ نجده في كتابه هذا التي تدور أحداثه في النمسا يجنح إلى الكتابة عن المدينة بشكل أكبر: نجد وصفا لأزقتها وشوارعها، وصفا لمعالمها الأثرية، مياه <الدانوب> التي تثير فيه العديد من الأحاسيس التي تأخذنا معها في تساؤلات حول الفن والجغرافيا والأدب. بمعنى آخر يفسح العجيلي في روايته هذه مكانا كبيرا لأدب الرحلات، فالحكاية وإن تأطرت بقصة الحب وبأن سوزان (بطلة الرواية) هي أجمل فتيات الأرض، إلا أنه يفرد مكانا لهذه <الاستذكارات الثقافية>، أي ما كان قرأه حول تلك البقعة من العالم. هنا أيضا تكمن إحدى خاصيات العجيلي، فهو كاتب لأدب الرحلات بامتياز. كأن المكان يصبح هو الحجة لكي يصوغ عالمه الكتابي.
من هذه المفارقات المتعددة، قد يبدو عبد السلام العجيلي بالنسبة إلى كثيرين وكأنه كاتب يأتي من عالم آخر، من ذلك <العالم القديم> المؤمن بأن الأدب يستطيع أن يكون حراكا اجتماعيا بهدف تغيير الواقع الذي نعيش فيه. <المفروض في الأديب في هذا العصر وفي كل عصر مثلما قال لي في حديث أجريته معه ونُشر في السفير في كانون الثاني من العام 1996 أن يكون فردا داعيا بين أفراد الأمة، مطلعا على قضاياها ومشاكلها أكثر بكثير من غيره. يضاف إلى هذا الوعي والاطلاع كونه يحمل أداة قادرة على التأثير في الآخرين وهي أداة الكلام الفني الذي يستطيع أن يجتذب به الأفكار ويحرك الأحاسيس والمشاعر>.
هي واحدة من تلك الأفكار التي انتشرت، لا في الأدب العربي فقط بل في جميع أنحاء العالم: أن يكون للمثقف الدور الفاعل في حياة بلاده الاجتماعية. ربما نجفل اليوم من أفكار مماثلة، التي غالبا ما تأتي عبر أساليب واقعية. لكن هل يتحمل أسلوبه <الواقعي> فعلا، مسؤولية أن لا يجد قراء حديثين بالرغم من أن اسمه يحضر في تاريخ القصة والرواية العربية منذ بدايات القرن العشرين؟ بالتأكيد لا يمكننا جعل السؤال مفترقا نقديا، ولكن علينا أيضا أن نجعل من الأدب سيرورة واحدة في تغيّراته الكثيرة، أي علينا أن ننظر إليه أيضا من زاوية خطه الأفقي، من بداياته وحتى النقطة التي وصلنا إليها. بهذا المعنى، لا نستطيع أن نرفض الأجيال السابقة حتى وإن كانت كتاباتهم تبدو بعيدة عنا إنها هي التي بدأت بعملية التطوير ولأن أعمالهم هي التي قادتنا إلى كل التجارب الحديثة التي نحاولها اليوم.
في مقدمة كتابه <جيل الدربكة> يقول عبد السلام العجيلي إنه بدأ الكتابة العام .1937 أي نحن أمام شخص <تورط> في الكتابة لمدة تناهز السبعين سنة. <ذهبت إلى الكتابة بدافع تقليدي> مثلما أسرّ في الحديث عينه إذ بدا متأثرا بما قرأه في صباه بالكتب التي كانت تقع بين يديه في <بلدته> الرقة، التي لم تكن قد أصبحت محافظة بعد. أولى كتاباته كانت نظم الشعر الذي حاول أن يقلد فيه نتاج الأوائل، ليغرف في ما بعد من الأقاصيص الشعبية والدينية. لكن الكاتب لم يتوقف بالطبع عند هذه النقطة، التي يبدأ منها عادة، غالبية كتاب العالم. لم يتوقف عن ذلك لأن المتابع لمسارات العجيلي، سيرى فعلا محاولاته الدؤوبة والدائمة، لكي لا يقع في نمط كتابي واحد، في أسلوب واحد. لقد أفسح في المجال لعدد كبير من التجارب وكأنه كان يشعر بضرورة ذلك: ضرورة أن يجدد الكاتب نفسه. صحيح أن الزمن تغير اليوم، لكن لو حاولنا أن نقيس رواياته وأقاصيصه وفق المفاهيم التي كان تسيره والتي كان يعمل من خلالها، لوجدنا فعلا هذا الاختلاف عن باقي أبناء جيله.
هذا الجيل الذي آمن بالقضية الكبرى. الجيل الذي عمل أيضا بالسياسة، بالمعنى الدقيق للكلمة: كان نائبا ووزيرا، وحتى مقاتلا إذ شارك جيش الإنقاذ في حملته التي سعت إلى الحيلولة دون إنشاء دولة إسرائيل، قبل دخول الجيوش العربية بصورة رسمية الحرب في العام .1948 بيد أن المفارقة الأخرى، التي يتحدث عنها هي أن مشاركته <عرفتني بأمور كثيرة عن أحوال قادتنا وحكامنا وشعبنا وأمتنا، فتحت عيني على ما كنت أجهله أو ما كنت مخدوعا به من أمور خطيرة... هذه المعرفة أحدثت في مشاعري إحباطا كبيرا جعلني أنفر من ممارسة السياسة لأني شعرت بأن العمل السياسي بالشكل المفروض علينا كان يدعو السياسيين إلى التنازل عن كثير من قناعاتهم ولم أجد في نفسي القدرة على التنازل عما كنت مقتنعاً به في سبيل الاحتفاظ بكرسي النيابة أو الوصول إلى مقعد الوزارة أو التمتع بالنفوذ الذي يتمتع به السياسيون عادة>.
هو جيل الخيبة. هذه الخيبة التي لم تتغير حتى اليوم. من هنا، هل يمكن للأدب أن يخرجنا منها؟ رهان فيه الكثير من المجازفة، ومع ذلك، قد لا يكون أمام البعض سواه. من هذه النقطة استمر العجيلي في الكتابة، مثلما استمر في ممارسة مهنته كطبيب، علّه يشفي ما يستطيع شفاءه: <هذا الأمل> الذي يروادنا.
في مؤتمر العجيلي الأول للرواية العربية الذي أقيم في الرقة منذ فترة قصيرة، أطلق على هذا المؤتمر عنوان <العجيلي أيقونة الرقة>. كان فعلا هذه الأيقونة. لنقل أيضا كان المدينة. قليلون هم الذين ارتبطت أسماؤهم باسم مدينتهم بهذا الشكل الضيق. ربما هو شرف الكتابة في بعض الأحيان.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد