العد العكسي لنهاية الأطلسي
أفغانستان من أضعف دول العالم لا الدول الإسلامية فقط، ومن أشدها فقرا وتخلفا، فهل تدخل التاريخ على أنها البلد الذي شهد بداية نهاية حلف وارسو وتفكّك الدولة الكبرى الاتحاد السوفياتي، وشهد.. أو قد يشهد بداية النهاية لحلف شمال الأطلسي، وانهيار "الزعامة الانفرادية" للدولة الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية؟
لقد حضر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى قمة ريغا الأطلسية مع نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2006م، حاملا معه أعباء الهزيمة الثقيلة في الانتخابات النصفية الأميركية.
وخرج من القمة ليحمل أعباء لقائه مع المالكي في عمان الذي قد يكون مصيريا بالنسبة إلى "كيفية" انسحاب قوات الاحتلال من العراق، لا بالنسبة إلى مصير المالكي فحسب.
وكان من كلمات بوش لأقرانه من الرؤساء ورؤساء حكومات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، تذكيرهم بما قام الحلف عليه، أي عندما كان حلفا "دفاعيا"، بصدد اعتبار الهجوم على دولة عضو يعني هجوما على الجميع، ويستوجب تعاون الجميع، عسكريا أيضا.
وهذا البند في ميثاق الأطلسي هو الذي اعتمده الحلف، بكثير من التأويل، عندما وافق على المشاركة في دعم الحملة العسكرية في أفغانستان، عقب تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001م، ثمّ تولي القيادة العسكرية هناك، بعد أن ازداد ظهور حجم ورطة القوات الأميركية والبريطانية في العراق وأفغانستان على السواء.
ولكن التذكير لم ينفع أحدا من الحاضرين، ربما باستثناء رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وهو نفسه في وضع لا يحسد عليه داخل بلده، بل داخل حزبه أيضا.
"المهام الصعبة" التي ركز بوش الحديث عليها ليتحقق النجاح كما قال قبيل انعقاد القمة تبدو من المهام المستحيلة على الحلف لا الصعبة فقط، لأن بوش وأقرانه في القمة يعلمون، أن القوة العسكرية الكبرى والأقدر على تحقيق أهداف عسكرية داخل حلف شمال الأطلسي هي القوة العسكرية الأميركية.
ولم يمتنع طاقم بوش وعلى رأسه رمسفيلد من استخدام هذه القوة في أفغانستان والعراق، بأقصى ما عرفه تاريخ البطش العسكري، وإلى درجة وحشية في معظم الأحيان، والحصيلة هي المصيدة التي يجد الأميركيون ومن يساندهم أنفسهم فيها، في أفغانستان والعراق معا.
وهذه حصيلة أسقطت الأعمدة الرئيسة للسياسة التي سبق أن وضعها المحافظون الجدد في وثائقهم الرسمية مع مطلع التسعينيات الميلادية، أي عقب سقوط الخصم الشيوعي مباشرة، والمقصود شنّ الحروب الوقائية، وتأمين القدرة العسكرية على خوض حربين في وقت واحد في مكانين متباعدين من العالم، وتحقيق النصر فيهما.
ووقع الخيار على أفغانستان والعراق، بغض النظر عن الذرائع والأسباب المعلنة رسميا.
وإذا كان العجز العسكري عن تحقيق الأهداف السياسية وغير السياسية من نصيب القوة الأميركية الكبرى أطلسيا، والمدعومة من جانب بريطانيا وسواها، فما الذي يمكن تحقيقه عن طريق نهج عسكري مماثل تحت علم حلف شمال الأطلسي؟
إنّ الدول الأوروبية الرافضة لتصعيد هذا النهج العسكري تريد أن يخرج الحلف وبالتالي أن يخرج الغرب من المصيدة، عن طريق تطعيم المعارك العسكرية الجارية ببرامج تنموية حقيقية لا تبقى حبرا على ورق، كما وقع حتى الآن مع أفغانستان والعراق، وبرؤية سياسية لا تقوم على "استئصال" الطرف الآخر إلى درجة التعامل مع الأسرى على أنهم "مقاتلون معتقلون خارج نطاق القوانين الدولية والإنسانية والوطنية"، أو إلى درجة تفكيك الأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية كما حدث في العراق مع استعداء جيرانه بأساليب الاتهامات والوعيد والتهديد.
على أن الدول الأوروبية التي تبدي استعدادها للمشاركة مشاركة أكبر في عمليات البناء وفي مفاوضات سياسية ومؤتمرات دولية ما، لا تريد أن يكون ذلك بصورة موازية للنهج العسكري الأميركي، وإنما في إطار خطة شمولية إستراتيجية جديدة، توضع للتعامل مع كل قضايا المنطقة العربية والإسلامية، سواء كانت تحت تسميات شرق أوسطية، أو سواها، ولا تزال هذه الخطة مفتقدة حتى الآن.
الأمين العام للحلف دي شيفر، وهو أشد حماسا لمستقبل الحلف من بوش نفسه استبق قمة ريغا بالحديث عن انسحاب أطلسي محتمل مع حلول العام 2008م، وربما أراد من ذلك تشجيع الدول الرافضة مثل فرنسا لترسل مزيدا من القوات والعتاد إلى جبال أفغانستان الوعرة، وتشجيع الدول الرافضة أيضا مثل ألمانيا لتشارك بقواتها في منطقة الجنوب الخطرة، بدل الاعتصام بالشمال المسالم نسبيا.
وقد تحول دي شيفر في حديثه مع ختام اللقاء إلى أمر آخر تماما، ربما للتغطية على عدم الاستجابة لمطالبه، وهو حديث الإشادة باكتمال تشكيل قوة التدخل السريع الأطلسية، وقوامها 30 ألف جندي.
وهذا ما لا يفيد الحلف في أفغانستان قطعا، فهي -كما يقول اسمها- قوة جاهزة للمهام الطارئة فحسب، بحيث تتحرك عند الضرورة إلى ساحة الحرب المحتملة خلال أسبوع تقريبا، وتتمكن بتجهيزاتها المتوفرة من خوض المعارك لمدة شهر واحد، عسى أن يتخذ الحلف خلال ذلك الوقت وفي مثل تلك الحالة الطارئة الإجراءات الضرورية التالية.
قرار تشكيل هذه القوة كان جزءا من القرارات الأطلسية التي استجابت لرغبات واشنطن عقب التفجيرات، ورغم ذلك فإن استكمال تشكيل القوة استغرق أربعة أعوام كاملة، بسبب تباطؤ الدول الأعضاء في تلبية المطلوب منها لتنفيذ الخطة الموضوعة.
وهذا التباطؤ مقصود، ومن أسبابه تأثير حرب احتلال العراق بقرار أميركي تجاوز الحلفاء والأصدقاء بعجرفة سياسية واضحة، وضعت الحلف نفسه على "كف عفريت".
والمحاولات الجارية حاليا هي لإنهاء حالة الأزمة القائمة في الحلف منذ ذلك الحين، تلك الأزمة التي لا تواريها العبارات الدبلوماسية والكلمات المختصرة في لقاءات القمة.
إن عنصر الخلاف الحاسم داخل الأطلسي كان وما يزال منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي هو ما ينبغي أن يكون عليه الحلف مستقبلا.
وكلما تحركت السياسة الأميركية باتجاه توظيف الحلف أداة عسكرية لتحقيق أغراضها السياسية التي لم يعد يخفى أنها تمحورت حول الهيمنة الانفرادية، ازدادت مظاهر الرفض داخل الأطلسي لهذا التوجه.
وقد برز ذلك للعلن من خلال الموقف الألماني-الفرنسي أثناء الإعداد لحرب احتلال العراق، وهذا ما يتكرر الآن بصورة جديدة، رغم التغيرات السياسية في ألمانيا وفرنسا.
وقد استبق الرئيس الفرنسي قمة ريغا بالتحذير من تحويل حلف شمال الأطلسي إلى هيئة تنافس الأمم المتحدة، وهو ما يعني معارضة ما أعرب عنه الرئيس الأميركي بصدد الرغبة في تعاون الحلف مع "حلفاء" خارج نطاق الحلف، والمقصود هم الأستراليون واليابان والكوريون الجنوبيون والإسرائيليون.
كذلك استبقت المستشارة الألمانية قمة ريغا بالتصريح أكثر من مرة برفض المطالبة بتعديل شروط المشاركة العسكرية الألمانية في أفغانستان، وعلى وجه التحديد، عدم الاستعداد لإرسال قوة عسكرية إلى الجنوب.
ولا يواري ذلك الحديث في ختام القمة عن اتفاقٍ على مزيد من المشاركة من دول الحلف، لأن ألمانيا المقصودة أكثر من سواها بذلك، تقول إنها على استعداد للدعم لا المشاركة، في حالات الطوارئ، ما يعني عدم خوض معركة عسكرية، إنما إرسال طواقم طبية وفنية وما شابه ذلك، علاوة على استعدادها للمشاركة في تنفيذ المشاريع المهملة على صعيد إعادة إعمار أفغانستان، ومن ذلك بناء طريق برية في الجنوب.
يبدو حجم الإخفاق في قمة 2006م الأطلسية على حقيقته عند الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي سبق أن قدم للمصالحة مع حلفائه الأوروبيين الكثير في جولته السابقة بأوروبا، خاصة تلبية مطالبتهم منذ حرب احتلال العراق، بأن يكون القرار بشأن الحرب والسلام قرارا مشتركا، بأسلوب المشاورات المسبقة، وليس بأسلوب "من لا يقف معنا فهو ضدنا" أو أسلوب زرع الوتد بين أوروبا قديمة وأخرى جديدة.
وأوروبا لم تنقطع في هذه الأثناء عن مواصلة الطريق الطويلة لإعداد نفسها، وهي طريق تحرص فيها على الجمع بين المسيرة الأوروبية الذاتية، بما يشمل الجانب السياسي والأمني العسكري وعدم الوصول مع واشنطن إلى حالة القطيعة فضلا عن المواجهة، ما يمكن أن يعود بأضرار جسيمة على الطرفين.
ويزداد هذا الحرص الأوروبي مع ظهور احتمالات التغيير في الولايات المتحدة الأميركية وقد أصبحت أكبر من أي وقت مضى، منذ أطلق وصف "البطة العرجاء" على بوش الابن، وبدأت أجنحة قوته الداخلية تتساقط بأسرع مما كان يحسبه كثيرون.
وعندما يلمح الرئيس الفرنسي شيراك بعدم القبول بمنافسة أطلسية للأمم المتحدة، فهو يلمح واقعيا إلى رؤية مستقبلية تتضمن عودة الحلف إلى موقعه القديم، حلفا دفاعيا ضد خطر خارجي يتعرض له "مجاله" الجغرافي.
وتبقى القضايا والأزمات الدولية الأخرى في أنحاء العالم من اختصاص المنظمة الدولية، بعد أن ازداد الاقتناع بأن دعم الأطلسي على حساب الأمم المتحدة، كما بدأ في البلقان، يعني واقعيا دعم توظيفه أداة عسكرية لأهداف أميركية أولا، وليس لأهداف غربية مشتركة كما كان في حقبة الحرب الباردة.
ولعل حرص الأوروبيين الشديد، لاسيما فرنسا وألمانيا على التحرك الفعال في تشكيل قوة دولية للبنان بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، يكشف بصورة غير مباشرة عن الرغبة في استباق ما بدأ الحديث عنه في حينه، من جانب الأميركيين والإسرائيليين خاصة، بصدد أن يقوم حلف شمال الأطلسي بتشكيل تلك القوة الدولية.
وهذا الموقف الأوروبي لا يستجيب للظروف اللبنانية وحسب، بل يتفق أيضا مع الحرص السابق على عدم توريط الحلف في حرب احتلال العراق رغم الإلحاح الأميركي الشديد في حينه.
إن مجمل سياسة الأوروبيين داخل الأطلسي يؤكد الرغبة في الحفاظ عليه بصورة مغايرة لرغبة الأميركيين، ليكون غطاء عسكريا دفاعيا شاملا لأوروبا، إلى جانب تشكيل قوة عسكرية أوروبية متميزة ومستقلة عن الأميركيين، كما يؤكد الرغبة في عدم الوصول بسياسات الصدام الأميركية مع المنطقة الإسلامية المجاورة إلى مرحلة اللاعودة، وفي سائر الأحوال ألا يصبح الأطلسي هو الأداة لذلك بمشاركة أوروبية.
ولا يعني ذلك أن السياسة الأوروبية خالية من تطلعات موروثة على صعيد الاستغلال والهيمنة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، إلا أن الوسيلة لذلك لا ينبغي أن تكون وسيلة عسكرية صرفة، أو بأسلوب العجرفة الذي سيطر على واشنطن وبرز في فترة رئاسة بوش الابن أكثر من أي وقت مضى.
إن حلف شمال الأطلسي على طريق جديدة، وهذا ما يعنيه القول إن أفغانستان أصبحت هي نقطة التحول في تاريخه، وليس المقصود أن يتم تفكيك الحلف على غرار ما جرى مع حلف وارسو، فالظروف مختلفة تماما.
ولكن الفارق كبير بين أن ينفذ ما سبق إقراره في القمة الخمسينية للحلف عام 1999م في واشنطن، ليصبح هو مرجعية قرار الحرب والسلام عالميا وأن يعود إلى دوره الأصلي، منظمة إقليمية عسكرية دفاعية.
وهذا ما يمكن أن يسهم في فتح أبواب جديدة أمام تطوير حقيقي للأمم المتحدة، بعد أن بقيت أسيرة موازين القوى على مستوى خماسية "الفيتو" الدولية زهاء 60 عاما مضت على ولادتها.
نبيل شبيب
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد