العلمانية وإحباطاتها: السياسة والدين في العالم الحديث

12-08-2011

العلمانية وإحباطاتها: السياسة والدين في العالم الحديث

يعتبر كتاب أوليفييه روا "Holy ignorance"(¶) أن الدين والثقافة هما في طور الانفصال بفعل العولمة. لكنه يقلّل من شأن التفاعلات الوثيقة بين الحركات الدينية والسياسة الوطنية على الأرض في العالم الإسلامي وأماكن أخرى…

 يتمتّع أوليفييه روا، أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية في معهد الجامعة الأوروبية في فييزولي في إيطاليا، بقدرة استثنائية على استحضار الدين والعولمة والسياسة في نقاشه للإسلام السياسي ودوره في المجتمعَين الأوروبي والإسلامي. وفي كتابه الأخير بعنوان Holy Ignorance (الجهل المقدّس)، يُفيد جيداً من موهبته هذه لاستكشاف سؤال حسّاس عن العالم الحديث: "هل يترافق توسّع الدين مع انتشار ثقافة جديدة… أم على العكس، يتوسّع لأنه ليست له أي علاقة بأي ثقافة محدّدة؟". الجواب مهم لأنه إذا كان الدين منفصلاً عن الثقافة، تصبح الأصولية الدينية أكثر عولمة وذوباناً، وتصبح الثقافة السائدة أكثر علمانية. وإذا لم يكونا منفصلَين، قد تخترق الأصولية الدينية المجتمعات أكثر فأكثر وتقوِّض ممارساتها العلمانية والديموقراطية.

 على غرار كتب كثيرة عن الدين والحداثة، يصف كتاب "الجهل المقدّس" مجموعة كبيرة من الحركات الدينية الجديدة المختلفة – الإنجيلية البروتستانتية، اليهودية الحريدية، السلفية الإسلامية – في مجتمعات علمانية، مسلّطاً الضوء على تبدّل العلاقات بين الثقافة والدين مع اشتداد العولمة. يُظهِر روا في الجزء الأول من كتابه فهماً مثيراً للإعجاب للتحوّلات التي لا تُعد ولا تحصى في هذه العلاقات على مر التاريخ الطويل. ويصنّف المتغيّرات في أربع فئات واسعة: محو الثقافة، والتثاقف، والانثقاف، وفك الارتباط عن الثقافة.

 يحصل محو الثقافة عندما يحاول الدين اسئتصال الوثنية (كما فعلت المسيحية الأوروبية في أميركا الشمالية، والإسلام المتشدّد في شبه القارة الهندية). والمثل الأفضل عن التثاقف هو تبنّي اليهود للقيم السائدة خلال حقبة التنوير. والمحاولات التي يبذلها دين ما للتموضع في قلب ثقافة معيّنة (مثلاً لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية) هي شكل من أشكال الانثقاف. أما فك الارتباط عن الثقافة فهو عملية أكثر حداثة حيث ينفصل الدين عن الثقافة السائدة.

 نظرية روا واضحة طوال هذا النقاش: تتحرّر التيارات الدينية الكبرى في زمننا الحالي – البنتكوستالية، والإنجيلية البروتستانتية، والسلفية الإسلامية – من مراسيها الثقافية. لم تفقد هذه الأديان أهمّيتها، لكنها أصبحت كونية وأقل ارتباطاً بأرض واحدة، وذات طابع شخصي وخاص أكبر، وباتت تجسّد أكثر فأكثر بحثاً روحياً عن تحقيق الذات. وعلى الرغم من أنها تقرّ بما يسمّيه روي "العلامات الثقافية العائمة – الوجبات السريعة الحلال، الطعام المباح في الشريعة اليهودية الذي يراعي المعايير البيئية، المواعدة الحلال، الروك المسيحي، التأمّل التجاوزي" – يقول إنها تنفصل جوهرياً عن الثقافات التي تطوّرت فيها.

 في الجزء الثاني من الكتاب، يعتبر روا أن العولمة زادت من تباعد الدين عن الثقافة عبر ترويج الأصولية والتقيّد الحرفي بالنصوص الدينية، فرفعت بذلك حاجزاً من النقاوة العقيدية لصدّ الهجمات العلمانية. يقول المدافعون عن الدين إن إيمانهم أصبح أكثر نقاوةً. نتيجةً لذلك: العودة إلى النصوص المقدّسة هي إحدى الوسائل لمخاطبة المؤمنين خارج أي سياق ثقافي محدّد. والعولمة هي الحزام الناقل الذي يسير عليه هذا الدين الأكثر نقاوة. لكن روا يقول إن هذه الأديان العالمية تتحوّل، عبر نبذ ركائزها في الثقافات الوطنية، شكلاً من أشكال "الجهل المقدّس".

 تذكّر هذه العبارة بـ"التحدّث بالألسنة" الذي يؤمن به البنتكوستاليون وما يرتبط به من إيمان بأنه لا داعي لأن تكون هناك وساطة بين الله والمؤمنين الأفراد. لا تحتاج حقيقة كلمة الله إلى معارف ثقافية أو لغوية أو لاهوتية أو غير ذلك. وكما يقول روا، العديد من الحركات الإحيائية المسيحية وعدد كبير من المجموعات الإسلامية وحتى بعض المنظّمات اليهودية (مثل حزب "شاس" في إسرائيل) لا تنخرط سوى بصورة انتقائية في النقاشات اللاهوتية. والنتيجة في نظر روا هي نوع من التدهور في المعارف الدينية. وتدفعه هذه الملاحظة إلى إطلاق توكيد مهم: إن كل هذه التيّارات – اليمين المسيحي في أميركا؛ والحركات الإسلامية المتعدّدة في إيران والسعودية وإقليم خيبر في باكستان؛ والأرثوذكس المتشدّدين في إسرائيل – تفقد زخمها.

 "الجهل المقدّس" هو تطوير للنظريات التي طرحها روا في أعمال سابقة له، ولا سيما The Failure of Political Islam (فشل الإسلام السياسي) وGlobalized Islam (الإسلام المعولَم) اللذين اعتبر فيهما أن التيّار الديني الإسلامي الأصولي بدأ، بحكم كونه غير مرتبط بأرض معيَّنة وممحو الثقافة، "يغفل تاريخه الخاص" – أو بعبارة أخرى، يخضع لنوع من العلمنة نتيجة صعود الأصولية. وفي كتابه الأخير، يوسّع مقولته هذه لتشمل أشكالاً أخرى من الأصولية – ولا سيما المسيحية منها مثل الإنجيلية البروتستانتية – ليُبيِّن أولاً أن الظاهرة منتشرة، وثانياً أنها لا تستطيع أن تدوم. لقد أصبحت الأصولية سوقاً عالمية من السلع الدينية من دون أي ملصقات تشير إلى ثقافة المصدر. تُقدَّم للأفراد في مختلف أنحاء العالم سوق دينية يستطيعون أن يختاروا منها المنتجات التي يريدونها. ومع توافر عدد كبير من الخيارات السهلة، كثيراً ما يتحوّل الأشخاص نحو أديان أو معتقدات أخرى. وهذا ليس بالأمر الجديد: حصلت اعتناقات جماعية في الماضي بفضل الغزوات والتوسّع الاستعماري. لكن وفقاً لروا، يجد الناس سهولة أكبر في اعتناق دين آخر اليوم، ولا سيما في التحوّل من المسيحية إلى الإسلام والعكس. ومن هذا المنطلق، تشكّل نظرية روا رفضاً ضمنياً لنظرية صاموئيل هانتنغتون عن "صدام الحضارات".

كارين باركي
المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...