العمالة السورية في الخليج النتيجة: عائدون إلى نقطة الصفر
عندما التقينا سائق سيارة الأجرة العائد من الإمارات، اجتمع أكثر من 7 سيارات أجرة أخرى في المكان ذاته، وشكّل السائقون ما يشبه تجمّعاً صغيراً للمغتربين القدامى العائدين من الإمارات، والعاملين في شركة الجابر للمقاولات تحديداً، وهي الشركة التي جمعتهم سنوات عديدة، بالإضافة إلى آلاف السوريين الذين يقدّر عددهم في تلك الشركة وحدها بأكثر من 7 آلاف موظف..
إلا أنّ الأزمة المالية العالمية ـ كما يقول حسام ـ بعثرت أحلام أولئك الشباب، وأعادتهم إلى الصفر، كي يبدؤوا من جديد.
لا يمكن معرفة الرقم الحقيقي للسوريين العائدين من دول الخليج منذ بداية الأزمة المالية العالمية (التي لم نتأثر بها حتى الآن)، إلا أنّ تقارير البنك الدولي تبيّن أنّ الشركات الخليجية استغنت منذ أيلول العام 2008 عن أكثر من 45 ألف وظيفة، ومع نهاية العام 2009 سيصل الرقم إلى 120 ألفاً، فيما سيبلغ الرقم 300 ألف وظيفة في نهاية العام2010، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سورية غير قادرة على حصر العائدين أو تمييزهم، وكشفت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، منذ ثمانية أشهر، عن تحضير الوزارة لدراسة تعدّ بالتعاون مع السفارات السورية في الخارج، وأنّ هذه الدراسة ستكون جاهزة خلال شهر؛ أي قبل سبعة أشهر، وتتضمّن انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على سوق العمل السورية، لكنّ أحداً لم ير تلك الدراسة أو يسمع بها حتى الآن!!
وللأمانة.. اتخذت الحكومة بداية العام 2009 ما سمّته «خطة إنقاذ»، لمواجهة الأزمة العالمية، تضمّنت إجراءات لدعم الصناعة الوطنية، من خلال تخفيض سعر الفيول والطاقة الكهربائية للمستخدمين في المنشآت الصناعية، كما أعلن عن إحداث هيئة تنمية وترويج الصادرات.. ولكن لم تَلحظ خطة الإنقاذ عودة العمالة السورية.. ولم يتوقع أحد تلك الهجرة العكسية في اتجاه سورية.. ربما كان المتوقّع زيادة تدفّق العمالة السورية إلى الخليج..؟
تقدّر المنظّمة الدولية للهجرة حجم تحويلات المهاجرين السوريين إلى سورية بأقلّ من مليار دولار بقليل سنوياً، وهي تسهم بحوالي 2 % في الناتج المحلي الإجمالي، بينما يبيّن تقرير صادر عن البنك الدولي أنّ تحويلات السوريين المغتربين في أنحاء العالم المختلفة إلى داخل وطنهم الأم، وصلت إلى 800 مليون دولار العام 2007.. وأشار التقرير إلى أنّ التدفّقات في العام 2006 بلغت 795 مليون دولار، وشكّلت حينها ما نسبته 2.3 % من إجمالي الناتج المحلي في سورية.. إلا أنّ التقديرات الحكومية السورية تقدّر حجم التدفقات بأكثر من ذلك بكثير، إذ تشير إلى نحو 2 مليار دولار.. كون النسبة الأكبر من هذه التحويلات لا تتمّ عن طريق البنوك والقنوات المالية التقليدية.
وبين تقديرات البنك الدولي وتقديرات الحكومة السورية، هناك فرقٌ بقيمة مليار دولار، ومع هذا التباين حول حجم التحويلات، سيكون من الصعوبة بمكان تقدير حجم الضرر الذي لحق بالمغتربين، نتيجة الأزمة المالية في بلدان الاغتراب، أو ما سيؤثر في مدخولهم واستهلاكهم ومدّخراتهم مع دخول هذه البلدان مرحلة الركود، وربما الكساد.. وبالتالي مدى تأثير ذلك على الاقتصاد السوري الذي يستفيد من تحويلاتهم، التي لها أثر مباشر أيضاً في إيرادات أكثر الطبقات الشعبيّة فقراً وهشاشةً.. الخبير الاقتصادي سعد بساطة يقول: إنّ مورد البلاد ممّا يحوّله المغـتربون، هو الفرق بين ما يـُدعـى الدخل الوطني المحلي، والدخل القومي؛ أي: GNP and GDP، وهو بالنسبة إلى سورية يقرب من المليار دولار.
ويعتبر بساطة أنّ وجود المغـتربين يتركّز في معظمه في الخليج العـربي، والذي تأثـّر بالأزمة بشكل موجع، من حيث سيولته واستثماراته وممتلكاته، فصدرت تعـليمات غـير رسميّة بالتخلـّي عـن المشروعـات التي لم تتجاوز نسبة التنفيذ فيها60 %، وبالتالي التخلـّي عـن العـمالة المستوردة لزوم تلك المشروعـات.. والنتيجة عـاد آلاف السوريين وعـائلاتهم، فزاد الطين بلـّة، ليس فقدان تحويلاتهم المالية، بل إضافة آلاف الأفواه التي تأكل من قمح البلد، وتستهلك مياه البلد، وتصرف طاقة البلد، حيث إنّ عـودتهم جاءت في وقتٍ واحـد.. فهل تمّ التخطيط لمزيدٍ من المقاعـد المدرسيّة لأبنائهم، ومزيد من الأسرّة الطبيّة في مستشفياتنا لأسرهم؟ هل نعـرف عـددهم الصحيح، أم أنّ ضَعْـف الإحصاء وسوء التخطيط تبعـنا إلى هنا؟ تساؤلات يعرف بساطة مسبقاً أن الإجابة عليها «سلبية»..
تشير إحصاءات غير رسمية إلى دخول نحو 200 ألف وافد إلى سوق العمل سنوياً في سورية، بينما يستقطب سوق العمل حوالي 50 ألف عامل كلّ عام؛ أي 150 ألف عاطل عن العمل يضافون سنوياً إلى العاطلين عن العمل.. والمشكلة الكبرى أنّ العديد من هؤلاء العاطلين هم من الخريجين الجدد، الذين لا يملكون المهارات التي يحتاجها فعلاً سوق العمل، بينما يشكو أصحاب العمل من نقصٍ في هذه المهارات، وأهمّها اللغة الإنكليزية، والتقنيات الحديثة، وهي نقطة ضَعْفٍ لدى الكثير من خريجي الجامعات السورية.
معظم السوريين العاملين في الخليج يمثلون مستوى عالياً من المهارات، حيث انتقلوا من المستوى المتوسط في سورية إلى المستوى العالي والماهر في تلك الدول، ويعود السبب الأساسي ـ بحسب الخبير الاقتصادي عدنان موسى ـ إلى قدرة العمالة السورية على التكيّف مع شروط ومعايير العمل الدولية المطبّقة في تلك الاقتصادات، سواء من الناحية الإدارية أم الإنتاجية، إذ تصقل ظروف العمل - رغم قسوته أحياناً كثيرة - خبرات الوافدين السوريين، وتكوّن لديهم في الوقت ذاته خبرات وأساليب عمل جديدة وإضافية.
من هنا يقسم موسى العمالة العائدة من دول الخليج قسمين أساسيين، العمالة المتعلّمة المؤهّلة مثل (المهندسين، والمحاسبين، والاستشاريين، والمديرين التنفيذيين...)، والعمالة غير المتعلمة المؤهلة مثل (السائقين، وعمال البناء، ومراقبي العمال...)».إلا أنّه في كلتا الحالتين ستعاني العمالة العائدة من «فجوة الدخل» بين ما كانت تحصل عليه في الخارج، وما ستحصل عليه في سورية.
ويبيّن الخبير الاقتصادي بساطة أنّ فرصة العمالة غير المتعلّمة العائدة للانخراط في سوق العمل السورية أكبر من فرصة العمالة المتعلّمة، بسبب القدرة على العمل في مجالات أكثر تنوّعاً ولا تتطلب اختصاصات دقيقة مثل العمالة المتعلّمة، التي قد تحتاج فترة طويلة لإيجاد فرصة عمل تقع في مجال اختصاصها».. ويربط بساطة ذلك بغياب عقليّة وضع الشخص المناسب في مكانه المناسب، ويتساءل: هل فكـّرنا في حاجتنا إلى خبرات واختصاصات نادرة ومهارات مميـّزة، أم أننا سنظلّ نستوردها من بلاد «الخواجات» لعـدم عـلمنا بما لدينا من خبرات؟!
ويضيف الاستشاري الدولي: لعـل عـودة المغـترب السوري إحدى المشكلات، ولكنّ المعـضلة الأكبر ألا يجد بلده مستعـداً لتلقّف خبراته المميـّزة، ويشعـر بالاغـتراب في بلده.. وهذه هي الطامة الكبرى!!!
سامر كوسا، مدير الموارد البشرية في إحدى الشركات الخاصة، يقترح تحويل عودة العمالة المؤهلة والمتعلمة إلى فرصة للإفادة من خبرات عملها في الخارج، بحيث يحقّق سوق العمل في سورية مكسباً إذا استثمر تلك الفرصة بشكل صحيح، إلا أنّ نتائج ذلك الاستثمار مرتبط بشكل مباشر بعدد العمال المتعلمين العائدين، وثانياً بمدى قدرة الجهاز الإداري والإنتاجي في القطاع الخاص تحديداً على استيعاب خبرات تلك العمالة.
أمّا موسى، فيتّفق مع الرأي الذي يقول إنّ العمالة القادمة من الخليج تنتمي إلى الفئة الأكثر تأهيلاً والأكثر خبرة، إلا أنّه يعتقد أنّه، رغم نقص العمالة الخبيرة في سوق العمل السورية، إلا أنّ آثار الأزمة المالية العالمية على السوق السوري يجعل من الصعب على سوق العمل هذا امتصاص العمالة العائدة من دول الخليج، لا سيّما أنّ سوق العمل لدينا بدأ يعاني من شبه ركود في التوظيف، وتوقّع أن يستمرّ هذا الحال حتى نهاية 2009.
تسارعت حركة فصل العاملين في الخليج، أو ما يعرف بـ «التفنيش»، وما زال مصير السوريين وحصتهم من الأزمة مجهولاً وخاضعاً للتكهّنات، وفيما تشير تقارير إلى أنّ قيمة المشاريع الملغاة في منطقة الخليج بلغت أكثر من 150 مليار دولار، معظمها لشركات كبيرة، فإنّ سائق سيارة الأجرة هندي أبو حمرة وزملاؤه القدامى ما انفكّوا يحضّرون أوراق السفر، فهم لم يفقدوا الأمل في إيجاد عقد عمل جيّد في الخليج يغنيهم عن البدء من الصفر أو النحت في الصخر ..!!
تعتبر دول الخليج مركز استقطاب للعمالة السورية، ويقدّر خبراء سوريون وجود نصف مليون سوري في دول الخليج، بينما يبلغ عدد العمال السوريين في دولة الإمارات وحدها نحو 150 ألف عامل، معظمهم من العمالة الماهرة والمتخصّصة.
كيان جمعة
المصدر: بلدنا
التعليقات
السعودية
إضافة تعليق جديد