المسار السوري يترنّح في جنيف
إذا لم ينجح الروس والأميركيون اليوم في جنيف بدعم المبعوث الأممي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي، فالبديل سيكون مجلس الأمن الدولي.
لم يقدم اليوم الثالث من جولة جنيف الثانية أكثر مما قدمته الأيام الماضية. وخلال الساعات المقبلة، سيدعو الإبراهيمي نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف ومساعدة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان إلى تحمل مسؤولياتهما، بصفتهما ممثلي الدولتين الراعيتين للمؤتمر، روسيا وأميركا، وإقناع الوفدين الحكومي و"الائتلافي" بالذهاب ابعد من تعهدهما للروس والأميركيين بحضور الجلسات وعدم مغادرة القاعة مهما حدث، إلى التعاون معه في التوافق على جدول الأعمال الذي يقترحه عليهما.
وكان الإبراهيمي قد اقترح حلا وسطا، بين أولوية "الائتلافيين" في المسارعة إلى الهيئة الحاكمة الانتقالية، وأولوية الحكوميين بالتمهل وبالترتيب في بنود "جنيف 1"، ومن باب وقف العنف.
ومن المفترض أن يشكل لقاء عصر اليوم بين الإبراهيمي وغاتيلوف وشيرمان، اختبارا لوجود التفاهم الروسي - الأميركي، الذي فوض الإبراهيمي الوساطة في جنيف، والمدى الذي يمكن للراعيين أن يذهبا إليه في الضغط على حليفيهما من كل جانب لتقديم ما يكفي من التنازلات، والإبقاء على العملية السياسية.
ولا توجد مؤشرات على أن غاتيلوف قد قدم للإبراهيمي الضمانات المطلوبة، لوضع جدول الأعمال الذي يقترحه على سكة التنفيذ. فبعد لقاء دام ساعة في قصر الأمم المتحدة، لم يمنح الروسي الوسيط الدولي، أكثر من وعد بمواصلة التعاون للإبقاء على الجانب السوري في قلب العملية، ووضع اقتراح الحكوميين في البحث بموضوع وقف العنف ومكافحة الإرهاب على رأس القضايا الملحة.
وقال غاتيلوف "لا ينبغي فصل أحد البنود عن البقية، بل الخوض في أكثر من محور وبحث كافة المسائل الملحة، وهي محاربة الإرهاب ودراسة الوضع الإنساني وإمكانية التوصل إلى هدنة تسمح بإيصال المساعدات الإنسانية لأكثر من مدينة سورية، وبالطبع أيضا الحديث بشكل عام عن المستقبل السياسي لسوريا" من دون التطرق إلى مسألة "هيئة الحكم الانتقالية" .
وبعد لقاء دام ساعتين مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، على رأس وفد يضم ثمانية ديبلوماسيين وخبراء روس يواكب بعضهم جلسات جنيف، رفض غاتيلوف دعم اقتراح الإبراهيمي، وأعاد إلى الطرفين المفاوضين مسؤولية الحسم في اختيار الأولويات وجدول الأعمال. وقال إن "مكافحة الإرهاب، والهيئة الانتقالية، مسألتان مهمتان، لكن الطرفين سيجدان الطريق لمعالجة هذه القضية". وذكر غاتيلوف أن قضية مكافحة الإرهاب، طرحت في بيان قمة "مجموعة الثماني الكبار" في ايرلندا في حزيران الماضي، كما ذكر بدعوة من شاركوا فيها، أميركيين وروس خصوصا، "بضرورة تعاون المعارضة والنظام السوري على مكافحة الإرهاب".
ولم يتسن لغاتيلوف لقاء رئيس "الائتلاف الوطني السوري" المعارض احمد الجربا، الذي يغيب عن جنيف، فيما يشرح معارضون أن الجربا لا يرغب بلقاء نائب وزير الخارجية الروسي. وكان اللقاء الأخير الذي أجراه الجربا مع الروس، في موسكو، قد ترك لديه انطباعا سلبيا جدا عن الديبلوماسيين الروس. وقال معارض في جنيف إن المقابلة، التي دامت أكثر من ثلاث ساعات بين الجربا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، كانت صعبة وسيئة، فكلما عرض الجربا مطلبا أو قضية كان لافروف يجيب سنعرض وجهة نظركم على الجانب السوري.
ونفى مصدر سوري رسمي، في جنيف، أن يكون غاتيلوف قد طلب أي تغيير في المقاربة السورية لجنيف، أو لطريقة الوفد الحكومي في طرح القضايا، والتمسك بالترتيب التسلسلي لمناقشة بنود "جنيف 1". وقال المصدر إن الروس لم يطلبوا منا شيئا، سوى ما قاله غاتيلوف بالاستمرار في "التفاوض بطريقة بنّاءة".
وبات الملف السوري جزءاً أساسيا من مقاربة روسية اشمل لمواجهة تمدد الجماعات "الجهادية" على طول القوس السوفياتي القديم، من شرق المتوسط فالقوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى. ويندرج الموقف السوري نفسه ضمن الإستراتيجية الروسية لمكافحة تمدد الجماعات "الجهادية"، كما قال مسؤول سوري، ما يجعل الحديث عن ضغوط روسية على سوريا بعيدا عن الواقع. وقال المسؤول السوري إن الروس يفهموننا جيدا، وموقفهم من مقاربتنا في جنيف مبدئي، وضروري لسلامة بلدينا، وكل ما جرى خلال اللقاء مع غاتيلوف هو أننا عرضنا عليهم وجهة نظرنا، فاستمعوا إلينا، وتفهموا موقفنا. وعلى العكس من المنتظر، اذ لم يطلب الروس اي شيء من السوريين بل انهم وعدوا اذا ما طلب الحكوميون ممارسة ضغوط من اجل توسيع الوفد المعارض لكي يشمل اجنحة اخرى من المعارضة القيام بذلك، لكن المعلم اجاب بانه لاداعي لذلك.
ويبدو الرهان على ضغوط روسية تمارس على السوريين لانتزاع تنازلات منهم، مفارقا لوقائع السجال الأميركي - الروسي حول مشروع قرارين مضادين في مجلس الأمن، محورهما سوريا. ويجري السجال بالتوازي مع صراع الإبراهيمي بين الوفدين السوريين، لإقناعهما بأولوية جدول أعماله.
وفيما تشهر الولايات المتحدة والغربيون مشروع قرار يفضي إلى إقامة ممرات إنسانية في سوريا، تهدد موسكو باعتراضه، يرفع الروس صوتهم باستصدار قرار دولي يدين الإرهاب ويدعو إلى مكافحته. وفي خلفية الموقف ضرب مصداقية المعارضة السورية، وإجبار الأميركيين على اختيار مواقف من بعض أجنحتها، ستؤدي إلى عزلها وإضعافها. ويجري ذلك بالتوازي مع توتر مع الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اتهم موسكو بعرقلة مشروع القرار الغربي ضد سوريا في مجلس الأمن، فيما ترد موسكو باتهامه بدعم الجماعات المسلحة في الشمال السوري ضمنيا.
ولم تشهد جلسة الأمس أي خروج عن سيناريو الأيام الماضية، إذ يقف الإبراهيمي وسط سجال مستمر، بين الأولويات التي لن يتمكن من القبض على أي مشترك بينها. ومضى "الائتلافيون" في استعراض رؤيتهم لمغزى العملية الانتقالية، التي تختصر تسلمهم السلطة، ومساءلة أركان النظام والرئيس بشار الأسد خلال العملية الانتقالية نفسها، واعتبار الإعلان الانتقالي دستورا مؤقتا، والاستغناء عن أي تسلسل في وقف العنف أو الإرهاب، لان الحكومة الانتقالية ستكون، بقيامها، والشراكة المستحدثة قادرة على حل جميع المشاكل.
أما الحكوميون، فعرضوا أولوية الدخول في مكافحة الإرهاب ووقف العنف، وتحدثوا عن مجزرة معان التي ارتكبتها مجموعات من "أحرار الشام" و"جبهة النصرة" قبل أيام في ريف حماه. ويفترض التصور الحكومي أن وقف العنف، بمعناه الأوسع، يحتاج إلى تفاهمات إقليمية ليست في متناول "الائتلافيين". ويفترض هذا التصور أيضا أن وقف العنف سيفك الارتباط بين العناصر الخارجية، من دول كقطر وتركيا والسعودية، تسلح وتمول المعارضة المسلحة، وبين العناصر الداخلية للمشكلة، وتؤدي إلى ضرب قدرتها على مواصلة القتال، وخفض منسوب العنف تدريجيا وإعادة الحل من جنيف إلى دمشق، وإمساك السوريين بمصائرهم والعملية السياسية، مع اقل قدر ممكن من التدخل الخارجي. ويتطلب تحقيق الرهان، توافقا إقليميا شاملا، لإقفال الحدود، وهو لا يزال بعيد المنال.
وبرفض الطرفين بأي حال مشروع الإبراهيمي، وبحثه المتوازي، وهي الأرضية المشتركة الأولى التي يقف عليها الطرفان، ولأسباب متباينة طبعا. كما رفض الحكوميون طلبا بتكثيف الجلسات وزيادة وقتها، لان الملفات المطروحة تحتاج إلى الكثير من الوقت لتحضيرها، لخوض عمليات تفاوضية دقيقة وناجحة.
ويطرح انتهاء الجولة الثانية بنتيجة صفرية مشكلة كبيرة على "الائتلافيين"، اكبر مما يطرح على الحكوميين الذين لا يخوضون معاركهم في جنيف، وإنما في التقدم الميداني في القلمون، حيث تشن الطائرات السورية غارات مكثفة على يبرود تمهيدا لاطلاق عملية عسكرية ضدها، وحلب، وتعزيز المصالحات المحلية في الغوطة وحمص لتجويف جنيف وأي حل يأتي من الخارج، والاستغناء عنه.
وتساءل مسؤول غربي، يعمل عن قرب مع المعارضة "الائتلافية" في جنيف، عما إذا كان من الممكن العودة إلى جولة ثالثة في جنيف إذا استمر الانسداد في قاعة المفاوضات. وقال إن المعارضة "الائتلافية" نجحت في الجولة الأولى بتسجيل عدة نقاط إعلاميا وسياسيا، وخصوصا تعزيز مصداقيتها، كمجموعة جدية في إعداد الملفات وتقديم الاقتراحات، والمساجلة مع وفد حكومي قوي. وإذا لم يحقق "الائتلافيون" المزيد من النقاط فإنهم يخاطرون بخسارة مزدوجة: الأولى رصيدهم الإعلامي والسياسي، والثاني هو العودة إلى هواجس الخلافات الداخلية، وصعود الخط المعارض لجنيف.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد