الموت الرحيم إعدام للألم والأمل معاً
مازلت أذكر تماماً ذلك اليوم الذي طلبت فيه جدتي منا جميعاً (أبناءها وأحفادها) أن ندعها تموت بسلام، على فراشها وفي غرفتها التي طالما أحبتها..مازال المشهد عالقاً بكل تفاصيله وقسوته في ذهني، عندما هزت رأسها موحيةً بالنفي الحاد لأي محاولة لنقلها إلى المستشفى وهي تجهد في سرقة أنفاسها، وعندما شدت على آيادينا المتمسكة بالرمق الأخير من روحها، أثارت عيناها فينا وهما تودعان الحياة إحساساً يجمع بين رهبة الموت والتسليم والاستسلام له، وآخر ينفعل مرتجفاً لتأخر سيارة الإسعاف. دقائق كانت بمثابة ساعات ثقيلة، وبين هذا وذاك يبقى الموت سيد الموقف والحقيقة التي لا تقبل الشك أبداً وإن تعددت الأسباب واختلفت العذابات بين محتضر وآخر، الأمر الذي يمنحنا حق التفكير لا التفسير بما أخذته بعض الدول على محمل الجد منذ زمن لا يعتبر بالقصير، يسمح لطالبي الراحة بإنهاء الألم من قبل المتألم نفسه أومن مقربيه، بما يسمى موتاً رحيماً بدافع الشفقة أو تلك الرصاصة التي يطلقها طبيب ما على مريضه ولا تثير خوفه جراء صوتها، فهي ستقتله ولن يسمع صوتها !!!
¶ الحياة فقط هي التي معناها أنك ستموت
يقول الكاتب ممدوح رزق «لا تخف؛ ليس معنى الوقوف في النافذة أنك ستسقط.. وليس معنى السعال أنك مصاب بالسرطان.. وليس معنى ضيق التنفس أن في قلبك شرياناً مسدوداً ..الحياة فقط هي التي معناها أنك ستموت». وهي (الحياة) ما يعتبرها الدكتور «طلال فارس(اختصاصي جراحة قلب، وأستاذ في جامعة دمشق) عطية من الله لا يجوز إيقافها من قبل إنسان آخر، لنفسه أو لغيره، ولذلك حرم الانتحار، غير أن مفهوم الموت تغير من كونه توقف القلب عن الخفقان لمدة لاتقل عن 5 دقائق إلى موت جذع الدماغ مع الدماغ والدخول في الدرجة الرابعة من السبات والمؤكد من خلال التخطيط الدماغي الكهربي، على الرغم من استمرار عمل القلب بشكل سليم، خاصة في حوادث السير وأورام الدماغ وانفجارات أمهات الدم في الدماغ ، لكن الجدل مازال مستمراً في ما يسمى الموت الرحيم وكذلك في مجال زرع الأعضاء مع تصاعد الحاجة إلى أعضاء إنسان توفي دماغه لإنقاذ مريض آخر بالقلب ومريضين بالقصور الكلوي ومريضين بقصور الكبد ومريض سكري ومريض رئة وآخر بحاجة إلى قرنية ليحيا بهذه الأعضاء ستة مرضى آخرين أو أكثر .
لكن هل نستطيع أن نسهل موت مريض متألم من مرض عضال كالسرطان مثلاً وهو بكامل وعيه وإحساسه ؟ بالتأكيد لا يجوز بحسب قناعة الدكتور فارس؛ فهو قتل حرمه الله. ولا يسمح للأطباء إيقاف أجهزة التنفس الاصطناعي عن مريض دخل في سبات درجة ثالثة قابلة للرجوع إلى الحياة، ويضيف يسمح في حال دخول المريض الدرجة الرابعة من الكوما غير العكوسة نزع أجهزة التنفس الاصطناعي والأجهزة المساعدة، وهو ما يحدث مؤخراً في المستشفيات باجتماع مجموعة من أطباء ذوي خبرة عالية، ومن الحالات الصعبة التي يعجز فيها الطبيب عن فعل شيء أمام قلب عاجز يسعى لإصلاحه أن يجد نفسه أمام سؤال : متى سأوقف عمل كل الأجهزة عن مريضي ؟؟ وأمام توقفات القلب المفاجئة كذلك وانقطاعاته المتكررة أيضاً ، مضيفاً حالة توقفات القلب التي تتجاوز الدقائق الخمس الذهبية والتي يمكن استعادة عمل القلب بعدها، إلا أن الدماغ يكون قد توفي أو تأذى، لأن حاجة الدماغ إلى الأوكسجين تفوق بكثير حاجة القلب له، وبمجرد توقف الدماغ عن العمل تبدأ كل وظائف الجسد بالتردي وقد يستغرق القلب أسبوعاً كاملاً لموته بعد الوفاة الدماغية.
¶ الأديان ..رفض أبدي
الدكتور محمد حبش رئيس مركز الدراسات الإسلامية، أكد أن الأديان كلها قائمة على الرحمة والأمل، حيث لايوجد في الفقه الإسلامي ما يأذن لأي إنسان بالتصرف بحياة إنسان آخر، انطلاقاً من الشعور بأن تشريع القتل الرحيم سيؤدي إلى مزيد من قسوة الانسان وتحوله إلى كائن بلا روح، ما سيؤدي حتماً إلى تكاسل العلم عن ابتكار الحلول الرحيمة للإنسان .
والقتل الرحيم، في رأي الدكتور حبش، يتعارض مع الشريعة فلا يمكن لأحد الادعاء أنه مخول إنهاء حياة إنسان آخر والمنطق يقتضي أن تبذل كل الجهود لتطوير أداء العلم والبحث عن حلول لذوي العاهات المستعصية وليس لتسريع ارتحالهم إلى الموت، بل هناك أمراض كثيرة كانت في الماضي في حكم القدر المحتوم، الذي لا مرد له، لكنها اليوم أصبحت تحت السيطرة وأوجد العلم لها حلولاً . وهو ما أيده بقوة كل من الدكتور مصطفى حبش وطلال فارس، فمع تطور الطب لا يتحتم على الأطباء المؤمنين بمهمتهم الأساسية في تسكين ألم مرضاهم أن يستكينوا ويستسلموا، خاصة مع انتصار العلم اليوم بما يقارب 50 % في بعض أنواع الأورام السرطانية والقدرة على التوصل إلى معرفة الخلية السرطانية ونوعيتها وأضدادها وحيدة النسيلة وزرع الخلايا الجذعية، وما من أحد يدرك، بحسب الدكتور حسن حالوش (اختصاصي تشخيص وتدبير الألم واستشاري العناية المشددة العامة) انتهاء الطب عند هذا الحد. فالطب كله أخبار ظنية قائمة على عجز هذا الطبيب أوقدرة آخر دون أدنى شك برغبة الطبيب في التخلص من مرضاه.
وهي دعوة صريحة من الدكتور محمد حبش إلى الاعتبار بالأقدار والاستعداد لأيام الصبر ليس إلى الخلاص من عناء الآخرين برصاصة الرحمة. وللدين المسيحي كذلك رفضه القاطع لمفهوم الموت الرحيم، حيث حرم قتل النفس .
اختبار صبر وتصفية ذنوب!!
يوضح الدكتور حسن الحالوش رفضه الموت الرحيم من منظورين؛ أحدهما إنساني كإنهاء حياة إنسان لعدم وجود علاج له وبالتالي إنهاء مأساة المريض ومن حوله والتي لا تتعدى كونها مرضاً، كحالة مريض أصيب بالسرطان في صدره وتفشى به المرض في عظمه ثم دماغه، ما أقعده وأساء تنفسه وآلمه بشدة، وما الألم هذا باعتقاد البعض سوى اختبار للإنسان وتصفية لذنوبه .
وفصل حالوش بين ثلاث حالات؛ إحداها القابلة للشفاء وكل مرض يشفى، يجب أن يعالج وبأي طريقة ممكنة، أما إذا أثبت طبيبان موثوقان على مستوى عالٍ من العلم والخبرة عدم استفادة المريض من الدواء يجرى ما هو مخول لهما كأن يبقي الطبيب مريضه على شروط الحياة الأساسية كالماء والهواء والطعام، د ون وضعه على أي أجهزة مساعدة كالتنفس الاصطناعي وحالة ثالثة تثبت موت الدماغ وجذعه وبفاصلة زمنية مؤكدة حتى مع استمرار عمل القلب وفي هذه الحالة يمكن زرع الأعضاء من جسد سليم، لكن بموافقة شخصية تخول المتوفى دماغياً التبرع بأعضائه أو بموافقة الوسيط الجبري (الأب) ودون ذلك يصبح اتجاراً وسرقة للأعضاء، تسجل الولايات المتحدة الأمريكية(أم الحضارة ) أعلى نسبة بها. وقطف الأعضاء والتبرع بها في سورية مازال باعتبار الدكتور فارس غير شائع ويحتاج إلى تشريعات على عكس فرنسا التي تعلن كل متوفيها دماغياً متبرعين بأعضائهم، إلا إذا كتبوا وصية يمانعون فيها التبرع.
عندما يصبح كالنبات
ركز الدكتور مصطفى حبش (اختصاصي جراحة وزراعة كلية) على ما يسمى الحالة النباتية أي عندما تختفي إرادة الانسان نتيجة تخريب قشرة الدماغ لكثيرممن يتعرضون لحوادث السير أوالانتحار، هم أحياء لكنهم عملياً يعيشون حياة مزرية يكلفون مبالغ مادية، وتسميتهم هذه جاءت من الشجرة أو النبات الذي نحتفظ به، على الرغم من تكلفته وقلة فائدته، أما على الصعيد الشخصي والمهني، فحبش يعالج ويقاتل حتى آخر خلية حية في جسد المريض، معارضاً مبدأ الموت الرحيم؛ فهو على حد قوله يفتح باباً غير محدود للنهاية ومن الممكن ألا يغلق، خاصة في حالة تردي الوضع النفسي للمريض المتألم كما أنه سيتيح المجال لبدء سلسلة من المشاكل القانونية والاجتماعية لا تنتهي كموضوع الإرث مثلاً، وهو ما يجعل الابن أو الأخ ضعيف النفس يقبل بحلول الموت الرحيم لأبيه أو أخيه، ويرفضه لأمه أو أخته بحسب الدكتور الحالوش .
فالموت الرحيم نسبي لا يمكن وضع قواعد له، وبينما تسعى بعض الدول المتقدمة إلى زرع مضخة ألمية للمريض المتألم تضخ له المسكنات دائماً في جسده ، ويتمنى بعض الأهالي بقاء مريضهم في حياتهم لمجرد وجوده فقط ، يتمنى بعضهم الآخر، ويلمّح بشكل غير مباشر أن يتم تسهيل وتسريع وفاة مريض آخر بأي سبب، بالتواني عن إنعاشه، وهم على حد وصف الدكتور مصطفى حبش قلة في سورية نظراً للترابط الأسري وأواصر المحبة التي مازالت تجمع أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض. وكثيراً ما يتعرض الدكتور فارس في حال دخول المريض كوما درجة رابعة لموقف العرض على أفراد أسرة المتوفى دماغياً إزالة الأجهزة عنه، ما يؤدي في رأيه إلى حصول انقسام في العائلة بين من يرغب في التخلص من حالة الانتظار وبين من يرفض، ولذا فالكادر الطبي ولخشية ادعاءات أهل المريض المعارضين ينحاز إلى الجانب المحافظ منهم. ولم يسمع حالوش ولو في مرة واحدة طلباً من مقربي مريض متألم بنزع الأجهزة عنه وإراحته لكن وبعد الاستشارة من قبل طبيب اختصاصي آخر ذي خبرة وإيمان يؤكد الموت الدماغي معه، يعرض على المقربين نزع الأجهزة وغالباً لا يتجاوبون في ردات فعلهم الأولى كما لم يقبل أحد التبرع بأعضائه، وهو ما يسمى «الحصاد الإنساني» في بريطانيا بعد وفاته
نماذج نادرة وطريقة وحيدة
هو موضوع صعب المناقشة في مختلف الأديان وفي معظم المجتمعات، وما الطفل أحمد منور الذي يعاني مشكلة دماغية شلت ظهره وأطرافه بالكامل سوى خير مثال على تعود العائلة على أفرادها وصعوبة التضحية حتى مع مرضه أو عجزه بالكامل، فهو ومع هذه الحالة التي وصل إليها ، ترعاه أمه وتهتم به، كما لو أنه لا يعاني شيئاً، بل وستنفجرغضباً وسخطاً لو عرض أحد هم عليها تخليص طفلها من عذابه وألمه بدافع الشفقة عليه. من جهته يؤيد الدكتور (كمال.ش) الموت الرحيم، إذا أوصى المريض بذلك وطالما لم يوصِ، فليس لأحد على حد اعتباره الحق في إنهاء حياته وإقرار نهايته. وبين من يؤيد الموت الرحيم في حال انعدام الأكسجة في الدم وبين آخر يفضل بقاء المريض تحت رحمة الخالق، فروق بالدقائق أو الساعات أوالأيام، يمتلك الأول فيها من الجرأة والموضوعية ما يخوله طلب ذلك أو فعله، بطريقة وحيدة من خلال تنويم المريض بمورفينات ثم إعطائه البوتاسيوم لشل وإيقاف عضلة القلب وبالتالي وفاته، وهو ما يحاسب عليه طالبها (باعتباره انتحاراً) ومنفذها (باعتباره قتلاً عمداً) بحسب الدكتور حالوش، مستنداً إلى القول «من لم يقبل بقرار الله لا يعيش في أرضه» .
قانوناً لاشرعاً
عبر تاريخه، لم يطرح القضاء السوري قضية الموت الرحيم للنقاش، حيث لا يضم القانون السوري مواد تبحث مشروعية الموت الرحيم أوعدم مشروعيته، ولا يحق برأي المحامي عدنان طبنج لأحد وفق الشرائع السماوية أن ينهي حياة منحها الله كما لا قانون وضعياً يجيز إراحة المريض من ألمه. أما في حالة الموت الدماغي، فالأمر يعود إلى تقدير الأطباء ذوي الخبرة والقدرة على إقناع أهالي المريض لتقبل فكرة موته دماغياً وبالتالي نزع الأجهزة المساعدة لقلبه. أما في حال الادعاء على الطبيب في هذه الحالة وغياب الأدلة التي تدينه فالدعوة ستنتهي بعدم مسؤولية الطبيب، مضيفاً لا يمكن الادعاء على طبيب طالما لا يوجد نص في قانون العقوبات السوري يتضمن هذه الحالة، فإحداث تشريع جديد يتبنى قضية الموت الرحيم، يحتاج إلى أن يصبح ظاهرة جماهيرية. وبينما تجاوزت معظم الدول تعريفها للوفاة بأنها الموت الدماغي للمريض مع جذعه، وأقرت وزارة الصحة السورية ذلك. مازال القانون السوري يحصر الوفاة عند حدود توقف القلب والتنفس معاً.
رسالة تجارب غير روحية
قد يكون القتل بدافع الشفقة بناءً على طلب المريض أو طلب الغير بتوكيل من المريض، حيث يفترض أن يكون إما واعياً حين صدور التوكيل عنه في اتخاذ القرارات المتعلقة بصحته وحياته أو غير واع، ويكون لهذا الغير اتخاذ القرارات الملائمة ويضطر الطبيب عندها إلى الحصول على رضا الغير من أهل المريض في إنهاء حياته. وفي الوقت الذي أكدت فيه جميع الدراسات والاعتقادات أن القضية شائكة لا جدال فيها في القانون والمجتمع السوري، سنت بعض الدول نتيجة ضعف تأثرها بالقيم الروحية كهولندا وبلجيكا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وإيطاليا قوانين تنظم عملية الموت الرحيم، حيث وضع قانون العقوبات الهولندي على رأسها عام 1891 نصاً يتعلق بالقتل بدافع الشفقة بناءً على طلب، واشترط القانون في هذا النص أن يكون طلب القتل صريحاً وجاداً، إلا أن فاعله على الرغم من ذلك خضع للجزاء الجنائي متمثلاً في عقوبة السجن التي قد تصل إلى 12 سنة مع الغرامة، وفي الأول من نيسان عام 2002 دخل قانون الموت الرحيم حيز التنفيذ في هولندا لتكون أول دولة في العالم تسمح بالموت الرحيم تحت شروط صارمة، حيث لم يرَ المهتمون في القانون الهولندي تغييراً في واقع الأمر على فراش الموت، سوى أنه أعطى شعوراً بالارتياح للأطباء والممرضين بعدما أصبح لديهم ما يستندون إليه، لكن ونظراً لما تحتمله كل قاعدة من شواذ وكل قانون من ثغرات، غدا قانون الموت الرحيم في هذه الدول شماعة تعلق عليها الدوافع والغايات. ما دفع بعض الولايات الأمريكية إلى التراجع وترك هولندا «وحيدة» في الميدان .
وعد زينية
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد