"الى أين يسير العالم؟"
إدغار موران هو أحد الفلاسفة وعلماء الاجتماع في فرنسا، أولى اهتماما في تكوين رؤية جديدة للعالم تتصل بمصير هوية الانسانية في ظل "الازمة الكوكبية" العالمية، ودفعه ذلك الى التدقيق في مفاهيم علم "استشراف المستقبل". في كتابه "الى اين يسير العالم؟" الصادر في العربية عن "الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت"، ترجمة أحمد العلمي، يتصدى للنظرة التبسيطية حول الصيرورة التاريخية، رافضاً اعتبار الماضي والحاضر معلومين ومعهما عوامل التطور، وكذلك امكان التنبؤ بالمستقبل، إذ يرى ان الماضي يجري بناؤه انطلاقا من الحاضر، وانه تحصل في كل حاضر جديد اعادة تعديل لصورة الماضي الذي يستوجب اعادة الكتابة. يصل من هذه الفكرة الى اعتبار أن المعرفة المتعلقة بالماضي والحاضر مشوبة بثغر كثيرة، وكذلك الامر في ما يخص معرفة المستقبل.
قبل اطلاق احكام على المستقبل وتوقعاته، يولي موران اهمية لقراءة القرن العشرين الذي هو اهم المحددات التاريخية في العصر الحديث. يطلق عليه تعبير "قرن الازمات"، "نرى فيه مجموعة اتصالية تدريجية، تبدو كأنها خطية، وتطورات علمية وتقنية واقتصادية وصناعية وذات طابع استهلاكي وحضاري، وهي النظرة المهيمنة في التصورات السوسيولوجية و"التقنو بيروقراطية". مقابل هذا الوصف الايجابي، فان هذا القرن عرف اكبر حربين عالميتين في تاريخ البشرية، تدفقت فيهما ابشع انواع الهمجية الناجمة عن منتجات الحضارة نفسها، كما ولدتا ازمات اجتماعية لا تزال آثارها ماثلة في كل مكان من العالم، ناهيك بمئات الملايين من الضحايا الذين سقطوا خلال الحربين. هكذا، يمكن وصف القرن العشرين في كونه قرن التقدم والتطور والعقلانية، وفي الآن نفسه قرن الهمجية والرعب والارتدادات.
يعيش العالم وسط صيرورة لا تبدو فيها الازمة حدثا عارضا داخل المجتمعات بل "كنمط وجودي"، فهي نفسها صورة للتقدم وتعبير عن مضمونه، لان التقدم في مضمونه العام يحمل في جوفه التحطيم والتغيير لما هو سائد. يصل بنا ذلك الى اعتبار ان ازمة الحضارة، وعلى الاخص منها في المجتمعات الغربية، بما فيها ازمات الثقافة والقيم والدولة والعائلة ونمط الحياة اليومية، هي في حقيقتها جوانب متعددة "لمجتمعات تهددها هذه الازمة، لكنها مجتمعات تتغذى منها".
يدفع تشديد موران على موقع الازمة في المجتمعات الغربية، الى نقاش فكرة التقدم نفسها، فيرى ان كل تقدم في المجتمع، وفي كل القطاعات والميادين، انما هو تقدم جزئي، بل محلي وموقت، لكنه الى جانبه الايجابي ينتج الانحطاط والفوضى، اي التراجع. وبذلك يصبح التقدم حاملا في جوهره ثنائية التطور والتقهقر.
كانت فكرة التقدم محور العقلانية والفلسفة الانسانية وازاحة مقولة السلطة الالهية، وشكلت بذلك ضرورة لتطور التاريخ الانساني، لكن هذه العقلانية التي انتجت تطور التقنية تبدو اليوم في وجه من وجوهها في خدمة الموت والارهاب، بحيث يمكن القول ان الاشكال القديمة للبربرية تعود اليوم في شكل جديد من الوحشية يستلهم التكنولوجيا والعلوم الحديثة. هذا الاقتران بين الحضارة والوحشية يهدد الانسانية بالابادة، ويضع العالم امام احتمالات الحروب المتواصلة، مما يجعله في دوامة الخوف واليأس.
يأتي تركيز موران على قراءة قرن الازمات هذا، سعيا لتلمس تصور ما نحو المستقبل في القرن الحادي والعشرين، فيحسم بشكل قاطع في غياب اي خلاص تاريخي، بل يرى اننا لسنا مهيئين لحل نهائي لأزماتنا، "فكل الفوضى التي يعيشها حاضرنا وكل ازماته تحمل معها الفوضى التاريخية وازمات الماضي". على رغم الضبابية التي تلف المستقبل، الا ان الوعي الكوني الناجم عما قدمته ثورة الاتصالات والتواصل السهل بين العالم وادراك مجريات العالم في سهولة، مقرون بالوعي الاخر في وجود انسانية متشكلة او في طريق التشكل، وهو الذي يمكن ان يشكل حاجزا في وجه ابادة الانسانية، ويمنع سيادة الهمجية والبربرية في كل مكان.
لا تمنع هذه الاشارة "التفاؤلية" عند موران من ان يشدد في مجمل فصول كتابه على مقولة ترى ان القوى الحاملة للموت تسير اليوم بسرعة اقوى من تلك القوى الحاملة للحياة، وان خطر الموت ماثل في تعاون الدول الفائقة القوة مع تقنيات المناورة والاستعباد والافناء والاساطير المجنونة، بل ان "الخطر كامن في تلاحم قوى الاستعباد السياسي، والتكنولوجي، والاحيائي، والمعلوماتي، وفي تدفق المسارات الديموغرافية والاقتصادية والبيئية". في هذا المجال، فإن القرن العشرين، بديلا من تقليص العنف، دشن عصرا جديدا من العنف المجنون، تجلى في احد مظاهره من خلال العنف الخلاصي الذي حملته ايديولوجيات توتاليتارية، وتجسد في عنف الدولة الشمولية التي شهدها القرن في اكثر من مكان.
على رغم الطابع التشاؤمي الذي يسير فيه العالم، خصوصا في هيمنة العنف على صيرورته، الا ان النضال ضد العنف يستحيل ان يتوقف، وعلى الانسانية المكافحة دوما لتجنبه، ومقاومة الموت، فالمستقبل نفسه لا يتحقق الا عبر هذه المقاومة. فما تقدمه دروس التجارب التاريخية اليوم، ان اختفاء "المنقذ التاريخي" الذي انحكمت بإيديولوجياته البشرية، اعاد الى الجميع والى كل فرد دوره وموقعه، بحيث يجد كلٌّ نفسه اليوم، "منذورا لا لتفويض ايمانه لحزب حامل للحقيقة التاريخية، وانما للوصول الى الوعي الشمولي والعام للانسانية".
من اجل التمتع بالحاضر والتطلع الى المستقبل الافضل، من الضروري التزام النضال من اجل التحرر العام والخاص، فالتحرر وحده مولّد الحرية، التي في غيابها يحفر المجتمع طريقه نحو القمع والاستبداد. ذلك هو الدرس المستفاد منه في تجربة القرن العشرين، ماضيا، وفي التطلع الى قرن جديد، مستقبلا.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد